السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
.
تفضلي اختي الطلب
الناس جميعاً في المنظور القرآني ينتسبون إلى أصل واحد، لا فضل لجنس على جنس ولا لشعب على شعب، ولا لأمة على أمة في أصل الخلقة والنشأة فالكل في أصل الإنسانية سواء، والتكريم الإلهي للإنسان يشمل بني آدم جميعاً، قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (2).
واختلاف الألسنة والألوان والأجناس والشعوب آية من آيات الخالق الدالة على إبداعه وقدرته قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ).(3)لذلك ينبغي أن يكون هذا الاختلاف مثار تعارف لا تناكر، وائتلاف لا اختلاف، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ).(4)ولا ريب أن الإخاء يزداد قوة وتوثيقاً إذا اجتمع مع العنصر الإنساني العنصر الإيماني لأن المؤمنين جميعاً أخوة: قال تعالى:(إنما المؤمنون أخوة)(5). فإذا انتفى العنصر الإيماني فإن العنصر الإنساني يظل أساساً للإخاء بين جميع الناس، ولهذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي مرت به، فلما قيل له: إنها جنازة يهودي، قال: ( أليست نفساً )(6).
ولأن مبدأ الإخاء الإنساني له أثر فعال في الوقاية من مظاهر عنف متعددة يمكن أن يمارسها غير المسلمين ضد المسلمين وبالعكس رأينا القرآن الكريم يرسخ هذا المبدأ من خلال ثلاثة أسس.
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثالث: محاربة الدوافع الدنيئة المثيرة للنزاعات والحروب بين المسلمين وغيرهم.
وتفصيل هذه الأسس على النحو التالي:
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
يعتبر القرآن الكريم السلام أساساً للعلاقة بين المسلمين وغيرهم بدليل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)(7). وقوله تعالى: )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (8)
وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا غليهم إن الله يحب المقسطين ).(9)
وآيات القتال في القرآن الكريم تضمنت ذكر السبب في تشريعه، وهو يرجع إلى أمرين:
أحدها: دفع العدوان.
والثاني: قطع الفتنة وحماية الدعة.
قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) ).(10)
لذلك رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدة سلام بينه وبين اليهود بعد قدومه إلى المدينة، كما عقد مع مشركي قريش معاهدة الحديبية بعد أن قال: ( والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )(11)
وفي رواية ابن إسحاق: ( يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتم إياها).(12)
وقوله البعض إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيره، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بدليل قوله تعالى:(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ).(13)وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(14) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)(15).
إن قال قائل هذا فإننا نرد عليه بما يأتي:
أولاً:النصوص التي يستدل بها على قوله مطلقة، فتحمل على النصوص التي تفيد القتال بدرء العدوان أو قطع الفتنة والصدق للدعوة، لأن القواعد الأصولية تقضي بأنه إذا اتحد الموضوع فإن المطلق يحمل على المقيد(16).
ثانياً:لو كان الباعث على القتال في الإسلام هو القضاء على الكفر، لكان الإكراه في الدين جائزاً، لكن نصوص القرآن الكريم صرحت بنفيه ومنعه.
ثالثاً:لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما جعل الله عز وجل إعطاء الكافرين للجزية غاية لقتالهم، وذلك في قوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ).(17)
رابعاً: لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل غير المقاتلين من أطفال ونساء وشيوخ الكافرين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ).(18)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( ولا تقتلوا وليداً ).(19)
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والذمي ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقول أو بفعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم ما لا للمسلمين والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا ).(20)
خامساً: لو كان الكفر هو الموجب للقتل لما خير الله عز وجل المسلمين في أسرى المشركين بين المن عليهم بإطلاق سراحهم مجاناً أو أخذ الفداء منهم، قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء).(21)
وقول البعض: إن هذه الآية منسوخة مرجوح بما قرره أكثر العلماء من أنها محكمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فعلوا ذلك.(22)
سادساً: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت إما لنقض العهد كما في غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وإما لرد العدوان كما في أحد والخندق، أو لشن حرب وقائية كما في غزوة بني المصطلق وغزوة خبر.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم أن كل من هادنه من الكفار لم يقاتله ).(23)
سابعاً: الأدلة التي استدل بها من يقول إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بمعزل من الدلالة على ما قاله.
فالفتنة في قوله تعالى:)وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (يقصد بها الإيذاء والاضطهاد للصد عن الدين، ومعنى: )ويكون الدين كله لله (أي: يكون دين كل شخص خالصاً لله لا أثر لخشية عيره فيه، فلا يفتن لصده عنه، ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الرهان والمداراة، أو الاستخفاء والمحاباة.(24)
وقوله تعالى: )فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ(.
يفيد: أن الباعث على القتال هو القضاء على الكفر إذا قطعناه من السياق الذي ورد فيه، أما إذا تابعنا قراءة الآيات التي بعده فسيتضح لنا أنه لا يدل على ذلك، بل يدل على أن درء العدوان هو الباعث على القتال.
أما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيحتاج الناظر فيه إلى التفريق بين كلمة ( أقاتل ) وكلمة ( أقتل ) حيث إن بينهما فرقاً كبيراً لا يخفى عل العربي المتأمل.
وبيان ذلك: أن كلمة ( أقاتل ) تدل على المشاركة، فهي لا تصدق إلا عن مفاعلة من طرفين، وتصدق أكثر في التعبير عن مقاومة لبادىء الاعتداء.
وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ( إنا لم نجيء لقتال أحد،ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا حجموا ).(25)
وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.(26)
وهذا القول صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المشركين إلى السلم، وهو نص قاطع في الدلالة على أنه سيقابل عدوانهم بالمثل إن هم أبوا إلا العدوان، وهذا المعنى هو ذاته المقصود بقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
يتبين بذلك كله: أن السلام هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، لكنه ليس أي سلام، إنه السلام القائم على العدل، السلام الذي يحمي حرية العقيدة، وتصان فيه الكرامة، وتحفظ به الحقوق، وتتاح فيه حرية الدعوة إلى الإسلام، ولا شك أن مثل هذا السلام يسهم إسهاماً فعالاً في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني الذي يؤدي إلى حماية المجتمع الإنساني من مظاهر عنف متعددة.
الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
يرسخ القرآن الكريم مبدأ الإخاء الإنساني بإباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، وتصل الإباحة إلى درجة الاستحباب عند الحاجة، وإلى درجة الوجوب عند الاضطرار.
وأدلة إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم كثيرة متعددة ومنها ما يأتي: أ ـ قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) .(27)
ولا شك أن التعارف لا يمكن أن يصل إلى الدرجة الكاملة إذا تبعه تعاون وتعامل. ب ـ قوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (28)
ومن البديهي أن أكل طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم لا يمكن وضعها في حيز التنفيذ إلا إذا كان هناك تعاون وتعامل بينهم وبين المسلمين، وهما في نفس الوقت وسيلة من الوسائل التي توسع دائرة التعاون بين المسلمين وغيرهم.
جـ ـ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما يدل على تعامله مع غير المسلمين.
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال: ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ).(29)
وفيه أيضاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان(30)طويل بغنم يسوقها، فقال صلى الله عليه وسلم بيعاً أم عطية ـ أو قال: أم هبة ـ فقال: لا بيع فأشتري منه شاة(31).
قال ابن حجر: قال ابن بطال: معاملة الكافر جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين(32).
وقد شرح القرآن الكريم عدة عقود تسهم في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، ورغبة منه في إيجاد عالم تسوده المحبة والوئام وترفرف عليه رايات الأمن والسلام.
وهذه العقود هي: المعاهدات وعقد الذمة، وعقد الأمان.
المعاهدات: الأصل في شرعية المعاهدات قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم).(33)قوله تعالى: ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (34)
وقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود بعد قدومه إلى المدينة، ومعاهدة مع مشركي قريش في السنة السادسة للهجرة.
ويشترط في صحة المعاهدات ثلاثة شروط(35).
أولها: أن لا تمس المعاهدة قانون الإسلام الأساسي وشريعته العامة التي بها قوام الشخصية الإسلامية.
ثانيها: أن تكون بينة الأهداف، واضحة المعالم، تحدد الالتزامات تحديداً لا يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ.
ثالثها: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين.
وقد أمر القرآن الكريم الم المسلمين بالوفاء والاستقامة على المعاهدات التي أبرموها مع غيرهم طالما كانوا مستقيمين لهم، قال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (36) وتجلى تقديره الكامل للمعاهدات في نهيه عن قتل من استحق القتل من غير المسلمين إذا لجأ إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
قال تعالى:(واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).(37)
كما تجلى تقديره للمعاهدات في نهيه المسلمين عن نصرة بعض المسلمين الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا استنصروا بهم على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).(38)
وهذا لا يعني ترك المسلمينالمقيمين تحت سلطان غير المسلمين نهياً للعدوان والاضطهاد، بدليل قوله تعالى:(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).(39)
غاية الأمر أن الميثاق يقيد حركة المسلمين بعض الشيء، بحيث يجب عليهم إعلان المعاهدين المعتدين على المسلمين المقيمين بين أظهرهن بنبذ الميثاق إذا أصروا على عدوانهم.
ويتأكد نبذ الميثاق بتعديهم على أي إنسان شملته المعاهدة حتى ولو كان من الكافرين المعاهدين للمسلمين.
لذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يسارع بنصرة خزاعة حينما اعتدى عليها بنو بكر وحلفاؤهم من مشركي قريش، لأن خزاعة كانت قد خلت في عقد رسول الله وعهده، أما بنو بكر فدخلوا في عقد قريش وعهدهم، بناء على الشرط المشروط في صلح الحديبية.
عقد الذمة:
عقد الذمة يسهم إسهاماً فعالاً في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، لأنه يتيح للفريقين الاختلاف والتقارب والتواصل، وبالتالي: يرسخ مبدأ الإخاء الإنساني بينهما.
ويقصد بعقد الذمة العقد الدائم الذي تم بين السلطة الحاكمة وغير المسلمين والذي تترتب عليه حقوق كل منهما على الآخر.
والذمة معناها:العهد والأمانة والكفالة والحق والحرمة(40)،ويطلق على من يعقد معهم هذا العقد من غير المسلمين ( أهل الذمة ) أو ( الذميين ) لأن لهم بناء على هذا العقد ـ عهداً بأن يعيشوا في كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين.
فقد كفل الإسلام لهم حقوقاً متعددة، منها حماية دمائهم وأعراضهم وأموالهم وكرامتهم، وحريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية وشؤونهم المعيشية، وحقهم في تولي الوظائف والمناصب العامة إلا ما غلب عليه الوصف الديني كالإمامة وقيادة الجيش والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لها صبغة دينية، وحقهم في كفالة الدولة لهم عند العجز والمرض والفقر، وحقهم في مقاضاة المسلم أياً كان وضعه في المجتمع.
والأصل في هذه الحقوق قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وإن ريحها توجد في مسيرة أربعين عاماً ).(41)
وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفون فوق طاقتهم )(42).
وجاء في عهده رضي الله عنه إلى أهل بيت المقدس: ( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ).(43)
وفي مقابل هذه الحقوق التي كفلها الإسلام لأهل الذمة يجب عليهم الولاء للدولة الإسلامية،واحترام نظمها وتشريعها سواء أكانت مدنية أم جنائية، أما قوانين الأحوال الشخصية فيتبعون فيها ما يعتقدونه ديناً لهم لصلتها بأصل التدين الذي كفل الإسلام حريته.
ومما يجب عليهم أيضاً احترام مشاعر المسلمين، وعدم التعرض لمقدساتهم، وأداء الجزية المفروضة عليهم مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.
فإن اشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن الدولة، أو لم يستطع المسلمون حمايتهم فإن الجزية تسقط عنهم إن كانوا يدفعون ما يدفعه المسلمون لإقامة المرافق العامة التي يتمتع الجميع بمردودها الخدمي.
ولذلك كان المسلمون يستثنون من أداء الجزية المسكين الذي يتصدق عليه، والمرأة والصبي والشيخ الفاني والمجنون والمعتوه والرهبان وكل من ليس أهلاً للقتال، أو كان أهلاً له ولكنه لا يستطيع لفقره أن يدفع ما عليه.(44)
وكانوا يترفقون بأهل الذمة ويخفضون عنهم في تحصيل الجزية، فإن عجز عنها أحدهم أعانوا فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي عما له بعدم تحميل أهل الذمة ما لا يطيقون من الجزية.(45)
وهو الذي رأى شيخاً ضريراً يسأل على باب، فسأل، فعلم أنه يهودي، فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين(46). وهذا من مساكين أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه(47).
وقد اقتدى به حفيده عمر بن عبد العزيز فكتب إلى واليه على البصرة: ( وأنظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ).(48)
ومما كتبه خالد بن الوليد رضي الله عنه لنصارى الحيرة بالعراق ( وجعلت لهم ) أيما شيخ ضعفت عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله(49).
وفي ضوء ما سبق يتبين أن تشريع الجزية لا يقصد به إهانة غير المسلمين أو إذلالهم بسبب عدم قبولهم الإسلام. وقوله تعالى: ( عن يد ) الوارد في قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).(50)
معناه: عن قدرة وسعة والصغار يقصد به خضوعهم لأحكام الإسلام، وقبولهم الحياة تحت سلطان المسلمين وحمايتهم، أو أن الصغار جزاء مرتب على محاربة المحاربين منهم، وليس مرتباً على بقائهم على دينهم.
وبهذا يظهر بطلان سائر التزيدات المبتدعة في طريقة تحصيل الجزية، ومعاملة أهلها، وهي التزيدات التي تتضمن إهانتهم وإذلالهم.
وقد نقل ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني بعض هذه التزيدات ثم أوضح أن عمل الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كان على خلال ذلك، وأنهم كانوا يتواصون باستحصال هذا الحق بالرفق واللطف.(51)
ولهذا عقد أبو عبيد في كتابه الأموال باباً بعنوان( اجتباء الجزية والخراج وما يؤمر به من الرفق بأهلها وينهى عنه من العنف عليهم فيها ).(52)
بل إن الجزية ليست هدفاً في حد ذاتها، ولكنها وسيلة لتوسيع دائرة التعاون والتعامل بين الناس جميعاً حتى يترسخ مبدأ الإخاء الإنساني فترفرف على العالم رايات الأمن والسلام، وتسوده المحبة والوئام.
لذلك رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل أن تسمى الجزية بغير اسمها بعد أن قيل له: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية.(53)
عقد الأمان:
عقد الأمان يسهم بفعالية في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، لأنه يتيح للفريقين الاختلاط والتقارب والتواصل، وبالتالي: يرسخ مبدأ الإخاء الإنساني بينهما.
والأصل في عقد الأمان قوله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ).(54)
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار السلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطى أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.(55)
وعلى ذلك يكون قوله تعالى:)حتى يسمع كلام الله (.غاية أو تعليلاً للإجارة لاتصاله بها وحدها، وأن الاستجارة على إطلاقها، وقوله: )ذلك بأنهم قوم يعلمون (معناه: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله تعالى في عباده.(56)
وفي ضوء ما ذكر يتقرر وجوب تأمين غير المسلمين والسماح لهم بدخول الدولة الإسلامية إذا طلبوا التعرف على الإسلام، واستحباب ذلك إذا طلبوه لأمر دنيوي لما في ذلك من المصلحة التي تعود على المسلمين من جراء احتكاكهم بهم، سواء أكانت هذه المصلحة دينية أم دنيوية.(57)
ولهذا: توسعت الشريعة الإسلامية في إعطاء حق عقد الأمان لسائر المسلمين رجالاً كانوا أو نساء.
فقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم أماناً منحته السيدة أم هانىء ابنة أبي طالب لاثنين من أقاربها، وقال لها: ( قد أجرت من أجرتيا أم هانىء).(58)
ووثق رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الأمان بقوله: ( ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ).(59)
قال النووي: ( المراد بالذمة هنا: الأمان. معناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمنه به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم ) .(60)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( فمن أخفر مسلماً ).
معناه: من نقص أمان مسلم فتعرض لكافر أمنه مسلم.
قال أهل اللغة: يقال: أخفرت الرجل إذا أنقضت عهده.(61)
ولكن ينبغي التنبه إلى أن حق إعطاء الأمان مقيد بإجازة الإمام أو نائبه تبعاً لتقديرها للمصلحة أو الضرر الذي يمكن أن يترتب على ذلك وهذا ما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانىء: قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء.
ويترتب على عقد الأمان عصمة دم المستأمن وعرضه وماله واستحباب مد يد العون إليه عند الحاجة لقوله تعالى:(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).(62)
وعليه: بموجب هذا العقد أن يحترم مشاعر المسلمين، ويلتزم بقوانين الدولة الإسلامية إلا قوانين الأحوال الشخصية فإنه يتبع فيها ما يعتقده ديناً له، ولا يكلف بأداء الجزية، لكنه يلتزم بدفع الرسوم أو الضرائب التي تقررها الدولة عليه وعلى أمثاله.
الأساس الثالث: محاربة الدوافع الدنيئة المثيرة للنزاعات والحروب بين المسلمين وغيرهم.
يرسخ القرآن الكريم مبدأ الإخاء الإنساني بمحاربة الدوافع الدنيئة المثيرة للنزاعات والحروب بين المسلمين وغيرهم، ومن هذه الدوافع.
أ ـ التعصب للجنس أو العشيرة:
التعصب للجنس أو العشيرة أثار في الماضي، ويثير في الحاضر نزاعات وحروباً كثيرة، ولذلك: حاربه القرآن الكريم بتقرير أن الناس جميعاً متساوون في أصل الخلقة، وميزان التفاضل بينهم هو التقوى. قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).(63)
وبهذا نفى القرآن الكريم العصبية للجنس أو العشيرة، أو الأرض، ونفر الرسول صلى الله عليه وسلم منها غاية التنفير في قوله: ( ومن قاتل تحت راية عُميّةٍ، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبة، فقُتلَ، فقتْلَةٌ جاهلية ).(64)
وعندما تشاجر أحد الأنصار مع أحد المهاجرين فصاح الأول: يا للأنصار. وصاح الثاني: يا للمهاجرين. قال صلى الله عليه وسلم: ( دعوها فإنها فتنة ).(65)
ب ـ طلب المجد والسمعة أو المغانم الدنيوية:
كثيراً ما أثار هذا الدافع نزاعات وحروباً كثيرة، لذلك حاربه القرآن الكريم بذم أصحابه ونهى المؤمنين عن أن يحذوا حذوهم، قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (66). قال الشوكاني: نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، وهم قريش، فإنه خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة(67). بلغهم أن العير قد نجت وسلمت، فلم يرجعوا، بل قالوا: لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر، وتغني لهم القيان، وتسمع العرب بمخرجهم، فكان ذلك منهم بطراً وأثراً وطلباً للثناء من الناس وللتمدح إليهم والفخر عندهم وهو الرياء.(68)
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خوض الحروب لأجل المغانم الدنيوية أو لأجل طلب المجد والسمعة، وذلك عندما سئل عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي: ذلك في سبيل الله؟ فقال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ).(69)
جـ ـ المهاترات الدينية:
المهاترات جمع مهاترة، وهي القول الذي ينقض بعضه.
يقال: هتر هتراً: حمق وجهل وهتره: سابه بالباطل، وتهاتر الشاهدان: كذب أحدهما الآخر فسقطت شهادتهما.(70)
والمهاترات الدينية كثيراً ما أثارت نزاعات وحروباً كثيرة، لذلك نهى القرآن الكريم المسلمين عن الدخول فيها مع غيرهم، قال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).(71)
د ـ الرغبة في الانتقام للنفس:
الرغبة في الانتقام للنفس كثيراً ما أثارت صراعات وحروباً وأضرمت نيران المنازعات، لذلك حاربها القرآن الكريم بأمره للمؤمنين أن يعفوا وسصفحوا ويتسامحوا مع غيرهم لما لذلك من أثر فعال في تحويل العداوة إلى محبة، قال تعالى: )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (73)
والعفو والإحسان لا يكونان إلا مع القدرة على جزاء السيئة بالسيئة فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي، ولا يجوز أن يذكر العفو والإحسان عند العجز، لأنهما غير موجودين أصلاً، وادعاؤها يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه وينشر الفساد في الأرض.
لذلك قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ).(73)
ويحمد ترك العفو والإحسان عندما تنتهك حرمات الله عز وجل أو يصد عن دينه، لذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ( ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لها )(74).
هذه هي ملامح المنهاج القرآني في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني، وهي ملامح يحتاج المسلمون إلى فهمها في عصر يفخر الآخرون فيه بتوصلهم إلى الإعلان لحقوق الإنسان، ومن القوانين التي تحمي الأقليات الدينية والعرقية في العالم كله، سواء كان منطلقهم في ذلك إنسانياً أو كان منطلقهم هو الرغبة في التدخل في شؤون غيرهم لفرض السيطرة عليها.
ولا شك أن فهم المسلمين لملامح المنهاج القرآني في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني سينفي عنهم الإحساس بالدونية، وسيغرس في نفوسهم معنى الاعتزاز بالدين الذي ينتسبون إليه، لأنه سبق بقرون كثيرة على رسم ملامح المناهج الأمثل في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني.
وميزة هذا المنهاج العظيمة هي تمثيله في تجربة تاريخية تتمثل في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم ومجتمع خير القرون اللذين يشكلان الأنموذج والقدوة في تحويل النظرية إلى ممارسة، والفكر إلى فعل، والقيم إلى برامج.
كما أن فهمهم لملامح المنهاج القرآني في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني سيجعلهم يحسنون التعبير عنها عملياً في المواقع، ويجيدون التعبير عنها نظرياً في زمن تتصارع فيه المناهج والأفكار للاستيلاء على النفوس والعقول، ولا شك أن حسن التعبير عملياً ونظرياً عن ملامح المنهاج القرآني في هذا الشأن سيكون له أثر كبير في تحويل عداوة الكثيرين للإسلام والمسلمين إلى محبة وسيترتب على ذلك غياب كثير من مظاهر العنف التي تقع في هذا العالم ليصبح عالماً تسوده المحبة والوئام، وترفرف عليه رايات الأمن والسلام.
* * *
دكتور / محمد عبد اللطيف عبد العاطي
[1] – مدرس بكلية القرآن الكريم جامعة الأزهر طنطا . [2] – سورة القصص آية 70. [3] – سورة الروم: آية 22.[4] – سورة الحجرات: آية 13. [5] – سورة الحجرات: آية 10. [6] – أخرجه البخاري في الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي 1/3491312. [7] – سورة الأنفال: آية 61. [8] – سورة النساء: آية 9.[9] – سورة الممتحنة: آية 8.[10] – سورة البقرة / آية: 190 ـ 193.[11] – أخرجه البخاري في الشروط باب الشرط في الجهاد 1/187:192.[12] – انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 5/396.[13] – سورة الأنفال / 39.[14] – سورة التوبة / 5.[15] – أخرجه البخاري في الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.[16] – انظر أصول الفقه، محمد أبو زهرة، ص134.[17] – التوبة: 29.[18] – أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب قتل النساء في الحرب 2/262 3015.[19] – أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب تأمير الأمراء على البعوث3/1357،1358 3.[20] – السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية ، ص 62.[21] – سورة محمد: 4.[22] – انظر فتح القدير للشوكاني 5/44.[23] – رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .[24] – انظر تفسير المنار، محمد رشيد رضا .[25] – حجموا بفتح الجيم وتشديد الميم، قووا.[26] – أخرجه البخاري في الشروط.[27] – سورة الحجرات: آية 13.[28] – سورة المائدة: 5.[29] – أخرجه البخاري.[30] – مشعان بضم الميم وسكون الشين: طويل شعث الشعر.[31] – أخرجه البخاري.[32] – فتح الباري لابن حجر.[33] – سورة الأنفال: آية 7.[34] – سورة التوبة: آية 7.[35] – انظر الإسلام عقيدة وشريعة ، محمود شلتوت.[36] – سورة التوبة: 7. [37] – سورة النساء: 89 ـ 90.[38] – سورة الأنفال: 72.[39] – سورة النساء: 75.[40] – انظر المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مادة ي ذمم.[41] – أخرجه البخاري في الجزية والموادعة.[42] – الخراج لأبي يوسف.[43] – مجموعة الوثائق السياسية المعهد النبوي والخلافة الراشدة محمد حميد الله.[44] – انظر الخراج لأبي يوسف.[45] – انظر الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام.[46] – سورة التوبة 60.[47] – انظر: الخراج لأبي يوسف.[48] – انظر الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام.[49] – مجموعة الوثائق السياسية.[50] – سورة التوبة: 29.[51] – انظر: تفسير المنار.[52] – انظر: المصدر السابق.[53] – تفسير القرآن العظيم لابن كثير.[54] – سورة التوبة: 6.[55] – تفسير القرآن العظيم لابن كثير.[56] – انظر تفسير المنار، وتفسير القرآن العظيم.[57] – انظر الجامعة لأحكام القرآن للقرطبي.[58] – أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة.[59] – أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم في الحج باب فضل المدينة.[60] – شرح النووي على صحيح مسلم.[61] – شرح النووي على صحيح مسلم.[62] – سورة الممتحنة: 8.[63] – سورة الحجرات: 13.[64] – أخرجه مسلم.[65] – أخرجه البخاري في التفسير.[66] – سورة الأنفال: 47. [67] – الجحفة: موضع على ثلاثة مراحل من مكة، وهي ميقات أهل الشام ومصر والمغرب كله.[68] – فتح القدير للشوكاني.[69] – أخرجه البخاري في الجهاد.[70] – انظر المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية.[71] – سورة الأنعام: 108.[72] – سورة فصلت: 34.[73] – سورة الشورى: 39 ـ 43.[74] – أخرجه البخاري في المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.