هذا الي حصلته ان شاءا لله يفيدج:
منهج النبي في التغيير والإصلاح
[14:56مكة المكرمة ] [05/03/2009]
بقلم: د. ياسر أبو شبانة
تأتي ذكرى المولد النبوي الشريف هذا العام والساحة الفكرية تموج بالحديث عن التغيير والإصلاح، من جانب تياراتٍ شتَّى واتجاهات فكرية متعددة، الكل يزعم أن منهجه في التغيير هو الأصوب، وأن طريقته في الإصلاح هي الأقوم، فهذا يدَّعي أن العودةَ إلى القيم الاشتراكية كفيلة بتحقيق الهدف المنشود، والآخر يزعم أن التمسك بالقيم الرأسمالية والسوق الحرة هو الضمانة الأكيدة للوصول إلى الغرض المبتغى، وثالث….، ورابع….، وخامس….، الكل قد ركب الموجةَ ويحاول استغلال الضغط الخارجي المتواصل على الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية لتحقيق مآربه والوصول إلى أغراضه.
وهنا، لا بد للمسلم الحق من وقفةٍ صادقةٍ يرنو فيها ببصره ويتطلع بقلبه وفؤاده إلى منبعِ الأسوة الحسنة وموطن القدوة الطيبة، سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، ليتأسى بمنهجه في التغيير ويقتدي بطريقته في الإصلاح، فإن الزمان قد استدار كهيئته يوم وُلد وبُعث المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، وإن الأوضاعَ الفاسدة والأعراف الباطلة التي واجهها لا تختلف كثيرًا عن الأعراف والقيم التي تعيشها البشرية في الفترة الراهنة، غاية الأمر أن الجاهليةَ الحديثة قد أخذت شكلاً مغايرًا حينما تسربلت بسربال التقدم العلمي وتزينت بزخارف المدنية الحديثة.
أولاً: التغيير والإصلاح في الجانب السياسي
واجه النبي- صلى الله عليه وسلم- أوضاعًا سياسيةً فاسدةً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي:
– فعلى المستوى المحلي: كانت السلطة في مكة متمركزة في أيدي فئة قليلة وطغمة فاسدة، تفرض أوضاعًا وتضع أنظمةً لا تمتُّ للعدالة بصلة، ولا مكانَ فيها للحرية والشورى والمساواة، بل الظلم هو الأصل، والطبقية هي القانون، ومراعاة مصالح الطغمة الحاكمة هي العرف السائد.
– وعلى المستوى الإقليمي: كان العرب قبائل متنافرة متناحرة، تقوم بينهم الحروب الطاحنة الطويلة لأتفه الأسباب، وهل ننسى الحرب التي دارت رحاها بين قبيلتين عربيتين مدة أربعين عامًا بسبب ناقة؟!!.
– وعلى المستوى الدولي: كان العالم مقسمًا بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، بل كانت أخصب وأجود أراضي العرب خاضعةً لنفوذ إحدى هاتين القوتين العظميين، فالأطراف الشمالية لشبه الجزيرة العربية كانت موزعةً بين دولة الحيرة في العراق وهي خاضعة للنفوذ الفارسي، ودولة الغساسنة في الشام وهي خاضعة للنفوذ الروماني، كما أن الطرف الجنوبي في اليمن كان خاضعًا بدوره للنفوذ الفارسي.. فكيف أصلح النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا الوضع الفاسد؟ وكيف غيَّر هذا الواقع الباطل؟
كان يمكن للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يرفع راية القومية العربية، وأن يقدم نفسه للمجتمع العربي المتناحر المتقاتل في صورة المصلح القومي الذي جاء ليجمع شملهم ويلم شعثهم، ليس لتحرير أطراف الجزيرة من النفوذ الفارسي والروماني فحسب وإنما ليجعل العرب سادة الدنيا وقادة النظام العالمي، على غرار ما فعله هتلر في ألمانيا على سبيل المثال.
ربما يتصور البعض أن هذا كان اختيارًا سهلاً ومضمونًا للنبي- صلى الله عليه وسلم-، فبعد أن ينضوي العرب تحت لواء القومية الذي رفعه ويصبح زعيمهم المطاع وقائدهم المفدى يُخبرهم بأنه نبي مرسل لهم من عند الله عز وجل، وقد يرى البعض أن هذا الاختيار كان أفضل من الطريق الذي سلكه النبي- صلى الله عليه وسلم- بإعلان نبوته ورسالته منذ اللحظة الأولى؛ الأمر الذي جرَّ عليه وعلى أصحابه الكرام كثيرًا من صنوفِ الأذى وألوان المحن.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يسلك هذا الطريق، وإنما أعلنها صريحةً منذ البداية أن الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة هما وحدهما طريق الإصلاح وسبيل التغيير، فقال لهم منذ اللحظة الأولى: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، واستمرَّ صلى الله عليه وسلم يغرس الإيمان في القلوب ويُزكي به النفوس ويطهر به الأفئدة، ويقيم به بعد ذلك دعائم الدولة الإسلامية الفاضلة في المدينة المطهرة.
حتى كانت الثمرة اليانعة والنتيجة الرائعة حينما انتقل المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى وقد فتحت مكة وتوحَّد العرب ودانت الجزيرة العربية بالإسلام، ورفرفت عليها راية الحرية والأخوة والعدالة والمساواة.. ثم انطلق أصحابه الكرام من بعده ينشرون نور الله في الأرض، فتحررت أطراف الجزيرة العربية، بل خضعت معظم ممتلكات الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية للإسلام، وأصبح أكثر من ثلثي مساحة الكرة الأرضية في أقل من تسعين سنة ينعم بظلال الإسلام الوارفة، من حدود الصين شرقًا إلى التخوم الجنوبية لفرنسا غربًا، ومن القوقاز شمالاً إلى أصقاع إفريقيا جنوبًا، في ظاهرةٍ لم تعرف لها البشرية مثيلاً على مدار التاريخ.
ووقف ربعي بن عامر أمام القائد الفارسي ليقول له بكل ثقةٍ إيمانية: أيها القائد، لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. وبهذا تحقق التغيير والإصلاح على الجانب السياسي في مستوياته المختلفة: المحلية والإقليمية والدولية.. تغيير قائم على أساسٍ متينٍ من الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة في قلوب أفراد ربانيين، أنشأوا مجتمعًا صالحًا إيمانيًّا ودولة فاضلة ربانية، غيَّرت وجه التاريخ وحوَّلت دفةَ المسيرة الإنسانية إلى شاطئ الحرية والعدالة وبرِّ الرخاء والمساواة.
وما من شكٍ أن الأوضاعَ السياسية التي يعيشها المسلمون الآن على المستوى المحلي والإقليمي والدولي لا تختلف كثيرًا عن الأوضاع التي واجهها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام:
– فعلى المستوى المحلي: هناك أنظمة حاكمة لا تراقب ربها ولا تراعي مصالح شعوبها، وتتركز السلطة في أيدي حفنةٍ قليلةٍ من المنتفعين أصحاب المصلحة في استمرار الأوضاع الفاسدة، ويشيع الظلم والفساد وتنتهك الحرمات وتكبت الحريات.. وغيرها من الأمور التي لا تخفى على مَن كان لديه أدنى مسكة من عقل وأقل مرتبة من الإدراك.
– وعلى المستوى الإقليمي: تفتت الأمة المسلمة إلى دويلات متناحرة وشعوب متنافرة وأنظمة متخاصمة، بأسهم بينهم شديد، يقدمون فروض الولاء والطاعة لأعدائهم في حين تكون وطأتهم شديدة على إخوانهم في الدين.
– وعلى المستوى الدولي: يرزح العالم تحت نير القوة الغاشمة، التي تسيره وفق هواها وتنظم أموره طبقًا لمرادها ومبتغاها، وضاعت العدالة وغابت الحرية وكسفت شمس المساواة.. وتحت شعار زائف من الشرعية الدولية تنتهك حرمات الدول وتنهب ثرواتها ويخطط للقضاء المبرم على هويتها وكيانها، وبصفةٍ خاصة الشعوب العربية والإسلامية.
فما أحوج الأمة المسلمة إلى التأسي بنبيها المصطفى وحبيبها المجتبى- صلى الله عليه وسلم- في منهجه الإصلاحي في هذا الجانب، لإصلاح فساد الأنظمة من ناحية، وضمان تحقيق الوحدة الشاملة من ناحيةٍ أخرى، وصولاً في النهاية إلى عودة الأمة المسلمة لتبوأ مكانتها القيادية على المستوى العالمي، لتعديل مسار النظام الدولي والأخذ بيده إلى طريقِ الحرية والعدالة والمساواة والرخاء.
ثانيًا: التغيير والإصلاح في الجانب الاقتصادي
وُلد المصطفى- صلى الله عليه وسلم- والأوضاع الاقتصادية في غايةِ التردي والفساد، فالثروة مكدسة في جيوب فئة قليلة العدد، ولكنها تملك كل شيء، في حين تقبع الأكثرية الكاسحة في قاع المجتمع ولا تملك من أمر نفسها شيئًا، والأعراف المستقرة والقوانين السائدة لا تسمح للفقير إلا بأن يزداد فقرًا، بينما تتيح للغني أن يضخم ثروته ويزيدها أضعافًا مضاعفة، فالربا والاحتكار والغش والظلم وسيادة منطق القوة كانت جميعها من معالم النظام الاقتصادي السائد في مكة.. وثروات العرب في أطراف جزيرتهم تصبُّ في نهاية المطاف- بمقتضى الخضوع والذل- في خزائن الفرس أو الرومان.
وقد كان يمكن للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يُشعلها ثورة إصلاحية لاسترداد حقوق الأغلبية المعدمة الكادحة من أيدي الأقلية المترفة المستبدة، ولو فعل لانضوى تحت لوائه وتجمع تحت رايته آلاف المطحونين المظلومين اللذين يملك بهم أن يصل إلى سدةِ الحكم وكرسي الرئاسة، وساعتها يخبرهم بأنه رسول هدى ونبي منهج وشريعة.. ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يسلك هذا الطريق ولم يختر الله له هذا المنهج، وإنما اختار له أن يعلن منذ البداية أنه رسول من عند الله عز وجل يحمل منهجًا ربانيًّا عظيمًا، يقوم على التوحيد الخالص والإيمان العميق فخاطبهم منذ اللحظة الأولى: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
وبعد تربية مستمرة وعمل متواصل، استقرَّ الإيمان في القلوب وتغلغل في الأفئدة وملك على الصحب الكرام أقطار نفوسهم، فاندفعوا طائعين مختارين راغبين، دون ضغط من سلطة أو إكراه من قانون، فحققوا العدالة الاجتماعية وقدموا يد العون والإحسان إلى المحتاجين، بلا من ولا أذى ولا جرح لمشاعر ولا كسر لخواطر.
ولعل أعظم مثالٍ للتدليل على ذلك ما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ إذ جاءته قافلة تجارية ضخمة (ألف ناقة تحمل على ظهورها من النعم والخيرات ما لا قبلَ لإنسانٍ بتصوره) في وقت اشتداد الكرب والمحنة والمجاعة على المسلمين قي خلافة عمر رضي الله عنه، وهرع التجار إليه للمساومة وتحصيل أكبر قدر من هذه الكعكة الهائلة، وطفقوا يقدمون له العروض المغرية واحدًا إثر الآخر وهو يقول لهم: عندي مَن يعطيني أكثر، حتى إذا استنفدوا جهودهم وعروضهم خاطبهم قائلاً: إن الله قد أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أشهدكم أن هذه القافلة كلها صدقة على المسلمين.
فالإصلاح الاقتصادي إذًا: لم يتحقق بقرار ملزمٍ أو قانون قاهر، اللهم إلا قانون الإيمان العميق بالله وقرار الاستجابة الفورية لأوامره.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24)؛ مما يدفع المؤمن دفعًا إلى تحقيق العدالة وإذابة الفوارق بين الطبقات، بإعطاء الفقير والمحتاج كفايته التامة التي تضمن له الحياة الكريمة مع الحفاظ على كرامته وعدم جرح أحاسيسه.. ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)﴾ (البقرة).
والناظر إلى الأوضاع الاقتصادية اليوم- في مستوياتها المختلفة: المحلية والإقليمية والدولية- يدرك بسهولة أن المشهد لا يختلف كثيرًا عمَّا كان عليه الحال يوم وُلد وبعث المصطفى- صلى الله عليه وسلم-:
فعلى المستوى المحلي: تتركز الثروة في أيدي نفر قليل من أصحاب الحظوة والنفوذ، الذين يضعون من الأنظمة ويشرعون من القوانين ما يضمن لهم ديمومة سيطرتهم واستمرار نفوذهم، في حين تبقى الأغلبية الكاسحة في فقرٍ مدقعٍ وتزداد أحوالهم سوءًا يومًا بعد يوم.
– وعلى المستوى الإقليمي: تعيش شعوب بعض الدول الإسلامية في ترفٍ مستفز وأحوال من الرفاهية الزائدة عن الحد، في الوقت الذي لا يجد فيه إخوة لهم في الدين ما يسدون به رمقهم ويبقيهم على قيد الحياة.
– وعلى المستوى الدولي: لا يمثل سكان الغرب (أوربا وأمريكا) سوى 27% من سكان العالم ولكنهم يملكون وحدهم ما يقرب من 73% من الثروة العالمية، وفي الوقت الذي تلقي فيه كثير من الدول بفائض محاصيلها في المحيط؛ حفاظًا على أسعارها في السوق الدولية- لا يجد ما يقرب من خمس سكان الكرة الأرضية كسرة خبز يقيمون بها أود حياتهم، ويسقطون صرعى الجوع والنسيان والإهمال والظلم من الإنسان لأخيه الإنسان.
ولا إصلاح لهذه الأوضاع الفاسدة والأنظمة الجائرة إلا بالمنهج التربوي الإيماني الفريد الذي جاء به خاتم الرسل وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ليعم الرخاء أرجاء العالم، وليتم توزيع الثروة العالمية توزيعًا عادلاً.
ثالثًا: التغيير والإصلاح في الجانب الاجتماعي
يشتد التركيز على الجانب الاجتماعي عند المطالبين بالإصلاح والتغيير، إذ هو الجانب الأبرز في الاحتياج إلى التغيير والإصلاح من ناحية، كما أنه الجانب الذي يمكن تحقيق نتائج جيدة فيه- في ظل تعسف الأنظمة الحاكمة وتعنتها في الإصلاح السياسي- من ناحيةٍ أخرى.
ولننظر إلى الأوضاع الاجتماعية التي واجهها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ونقارنها بالأوضاع الاجتماعية المعاصرة، وبالأخص منها الأوضاع التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، سنجد الاختلاف يسيرًا والفارق بسيطًا:
– فالظلم وأكل أموال الناس بالباطل وسيادة منطق القوة والبقاء للأقوى واضح كل الوضوح في أشعار العرب ومفاخرهم، فهذا عمرو بن كلثوم يتباهى بقبيلته فيقول:
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
إذا بلغ الفطـامَ لنا رضيـعٌ تخـرُّ له الجبابرُ ساجـدينا
وهذا زهير بن أبي سلمى يُعبِّر عن القيم والأعراف الجاهلية قائلاً:
ومَن لم يزُد عن حوضِهِ بسلاحِهِ يُهدم، ومَن لا يظلم الناسَ يُظلمِ
– والخمر ومعاقرتها كان لها شأن وأي شأن، إذ كانوا يعتبرونها شارة الرجولة وأمارة الفحولة، وها هو أحدهم يُوصي أولاده وهو على فراش الموت بدفنه بجوار شجرة عنب فيقول:
إذا أنا متُّ فادفنوني إلى جنبِ كرمةٍ تروي عظامي بعد موتي عروقُها
وغير خافٍ علينا موقف أبي سفيان قبل إسلامه حينما ردَّ شاعرًا جاهليًّا كبيرًا على أعقابه- وقد كان في طريقه لإعلان إسلامه- ولم يجد سبيلاً لصده عن الإسلام سوى مسألة الخمر هذه وتحريم الإسلام لها.
– والزنا كان أمرًا شائعًا ومقننًا ومعترفًا به في المجتمع، وحديث السيدة عائشة رضي الله عنها دليلٌ دامغٌ على ذلك، فهي تتحدث عن وجود البغايا اللاتي كنَّ ينصبن على بيوتهن رايات حمراء، أي أن وجودهن في المجتمع كان أمرًا غير مستنكر ولا مستغرب.
– واحتقار المرأة وامتهان كرامتها والتنقيص من قدرها كان العرف السائد لدى كثيرٍ من قبائل العرب.
إلى غير ذلك من القيم الفاسدة والأعراف الباطلة، التي كان يمكن للمصطفى- صلى الله عليه وسلم- أن يستغلها في تأجيج نيران ثورة اجتماعية أخلاقية، وكان سيجد-بلا ريب- أناسًا أصحاب فطرة سوية ونفوس كريمة تأبى هذه الفوضى وترفض هذا الانحلال، ثم بعد أن يصلَ إلى هدفه ويُحقق غرضه يُعلن نبوته ورسالته ويقضي على تلك الفوضى الخلقية.
ولكنَّ الله تعالى لم يختر لنبيه- صلى الله عليه وسلم- هذا الطريق للتغيير والإصلاح في الجانب الاجتماعي، وإنما كان الطريق فيه- كما في سابقيه- طريق الإيمان العميق الذي يملك أقطار النفوس ويتغلغل في أعماق القلوب، فينتج عنه حتمًا الالتزام الخلقي والانضباط السلوكي:
– فلم يعد للظلم ومنطق القوة والبقاء للأقوى وجود في المجتمع الإسلامي الذي أنشأه وربَّاه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصنعه على عينه، وصار الناس جميعًا سواسيةً كأسنان المشط، لا تفاضلَ ولا تمايز بينهم في أصل الخلقة أو لون البشرة أو اللغة، وميزان التفاضل بينهم هو الميزان الإلهي العظيم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات)، "أيها الناس، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضلَ لعربي على أعجمي ولا لأبيضَ على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح"، ويغضب النبي- صلى الله عليه وسلم- حينما يعير أبو ذر الغفاري أخاه بلالاً الحبشي بسواد بشرته قائلاً: "يا ابن السوداء"، فيقول له المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "أعيَّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية"، ويقول الصديق رضي الله عنه في أول بيانٍ له عقيب توليه الخلافة: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".
– واندحرت الخمر وزال سلطانها على القلوب والنفوس، وسارع المؤمنون بالاستجابةِ في المرحلة الأخيرة من مراحل تحريمها قائلين جميعًا: انتهينا ربنا انتهينا، حينما قال لهم ربهم ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ (المائدة: من الآية 91).
– وماعز والغامدية حينما ارتكبا جريمة الزنا ولم يطلع عليهما أحدٌ من الخلق، أتيا بإرادتهما الحرة ورغبتهما المطلقة دون ضغط أو إكراه أو اعتقال، يطلبان من النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يطهرهما من دنس ورجس الجريمة التي ارتكباها، ويصران- في إيمانٍ عميقٍ- على الإقرار والاعتراف رغم مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم لهما عدة مرات.
– كما نالت المرأة حريتها وأعاد الإسلام لها اعتبارها وكيانها، ونجت من الوأد والتحقير والمهانة، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (النساء: من الآية 1)، ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ (النساء: من الآية 25) ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾.. إلخ.
هكذا حدث التغيير وتحقق الإصلاح، بالتربية الإيمانية التي أولاها النبي- صلى الله عليه وسلم- فائق عنايته وبالغ اهتمامه فأثمرت هذا الجيل الرباني الفريد الذي عدَّل وجه الحياة وغير مجرى التاريخ.. وإنه لن يتحقق التغيير والإصلاح الاجتماعي الآن إلا بالطريقة ذاتها وبالمنهج نفسه، فالأدواء والأمراض الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية المعاصرة- بل والمجتمع العالمي ككل- هي تقريبا- العلل ذاتها التي واجهها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وختامًا: المنهج السلمي للإصلاح النبوي الكريم:
في كافة الجوانب السابقة لم نعثر على أي أثرٍ للعنف أو القوة في الإصلاح والتغيير الذي أحدثه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في المجتمع المحلي والإقليمي الذي وُلد وبعث فيه، وإنما قام منهجه الإصلاحي على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والتركيز الشديد على الجوانب التربوية وتكوين الشخصية المؤمنة بحق الملتزمة بصدق.
وهذا ما نحب أن نؤكده بشدة ونلفت النظار إليه بقوة، فإن البعض قد ظن العنف والقتل والإتلاف هو الطريق الأقرب والسبيل الأمثل لإحداث التغيير المنشود في المجتمعات الإسلامية، فعاثوا في الأرض فسادًا واعتدوا على الحرمات وسفكوا الدماء، وما حادث التفجير الذي وقع مؤخرًا في حي الأزهر بالقاهرة عنا ببعيد، وقبل ذلك بكثير كان اغتيال السادات، مرورًا بحوادث عديدة في مصر واليمن والسعودية والكويت… وغيرها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد نبَّه بشدة على حرمة دم المسلم وماله وعرضه، فقد قال في حجة الوداع: "…فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، وخاطب الكعبة يومًا فقال لها: "ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك".
كما أن غير المسلم الذي لم يثبت عليه محاربته للإسلام بأي شكلٍ من أشكال المحاربة، أو المعاونة في حربه وتشريد المسلمين، تثبت له حرمة الدم والمال والعرض حينما يحصل على تأشيرة الدخول لبلد إسلامي، فهذه التأشيرة هي عقد الأمان الذي تحدثت عنه كتب الفقه الإسلامي، والمولى عز وجل يقول: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)﴾ (الممتحنة)، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قتل قتيلاً من أهل الذمة حرَّم الله عليه الجنة" (حديث صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص)، ويقول أيضًا: "مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة" (رواه البخاري).
————-
* أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المساعد بكلية أصول الدين جامعة الأزه