مكانة العلماء:
يواجه علماء أهل السنة في عصرنا هجمات شديدة، وأذى كثيراً منوعاً، ليس على مستوى واحد بل على مستوى أعداء الدين من العلمانيين، ومستوى بعض السلطات المعادية للتوجهات الدينية، ومستوى الفرق الضالة وعلى رأسهم الشيعة، ومستوى بعض المنتمين إلى التيارات الدينية.
وهنا لا بد من وقفة بل وقفات، فعلماء الأمة هم قادتها الحقيقيون، وهم أملها في عودة الأمة إلى سابق عهدها من العزة والمنعة والرفعة، وهم هداتها إلى طريق الأمن والأمان كلما كثرت الفتن. ووَضْع العلماء اليوم وعلاقتهم بمشكلات الأمة والمحنة التي تمر بها لا ينبئ بخير ما لم تتضافر الجهود لدعم مكانتهم ودورهم؛ ليقوموا بواجبهم في إنقاذ أمتنا الإسلامية.
ولو أردنا تلخيص ما يواجهه العلماء اليوم فهناك جوانب ثلاثة رئيسة تجمع لنا ذلك:
أولاً: جانب الهيبة:
ففي كثير من البلاد العربية والإسلامية يواجه العلماء، ولا سيما العاملون الناصحون منهم، صنوفاً من الأذى، سواء في بعض الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت بالسخرية منهم والتهكم مما يقولون، ورميهم بالتشدد، وإثارة الفتن، والبعد عن الواقع والعيش في الماضي، أو بجرجرة بعضهم إلى المعتقلات والسجون، حيث التعذيب والضرب والأذى النفسي والبدني، وقد يصل الأمر إلى حد التعذيب القاتل، كما حدث ويحدث لعلماء السنة في إيران وفي العراق المحتل وبعض البلدان الأخرى. وقد يهان في هذه الأيام بعض علماء المسلمين في بلادهم في حين أن من يؤذونهم لا يتجرأ أحد منهم على التعرض لأجنبي ينتهك حرمات المسلمين، أو كافر نصراني يسب النظام ويلعن رموزه!
ثانياً: جانب المكانة:
المكانة في الإعلام اليوم صارت لحثالة الناس وأهل المجون من الراقصين والمغنيين والمهرجين، تُقام لهم المهرجانات وحفلات التكريم، وتُوزع عليهم الجوائز، وتُعطى لهم الحوافز. واستمع وانظر إلى كثير من البرامج التي تقدم في وسائل الإعلام، فسترى أنها تبرز حياة أهل المجون والفسق، وتكثر الحديث عن سيرتهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم وأعمالهم. في حين لا يُكرم العلماء إلا قليلاً، وما يُذكر في ما ينزل بهم من تهجم واعتداءات أكثر مما يمكن أن يذكر في ما وقع لهم من تكريم وتوقير.
ولا شك أن ذلك ترك أثره في مكانة العلماء في النفوس، حيث تقلصت في نفوس كثيرة تلك المكانة الجليلة للعلماء، ومن السهل أن ترى بعض الناس يقع فيمن لا يحبه من العلماء بالسخرية والاستهزاء باسمه أو لقبه. بل على مستوى المنتمين إلى تيارات المتدينين تجد ما يحزن القلب ويؤلم النفس، ومن ذلك كثرة تعدي بعض منهم على العلماء في بعض المنتديات، حيث يتعدون فيها عليهم بالسخرية والتهكم والشماتة، وتصيد الزلات والكلمات الموهمة، ووضع أقوالهم في غير سياقها، وتصنيفهم هذا ضال وهذا حزبي وهذا خارجي وهذا موال للحكومة وهذا..ولا يراعون في ذلك الأخوة الإسلامية وآداب الكتاب والسنة.
ثالثاً: جانب التأثير في حياة الناس ونفوسهم:
وبعيداً عن المنتمين للتيارات الإسلامية والمتدينين؛ فإن كثيراً من الناس سواء المثقفين والعوام يجهلون علماء الأمة العاملين، ولا يعرفون سيرتهم وعلمهم وأعمالهم، وهذا دليل على بعد أثر العلماء عن فئات عريضة من الناس، وضعف أثر كلمتهم في نفوسهم، وخصوصاً فئة الشباب؛ إذ لا يعرف كثير منهم علماء الأمة المعاصرين الصالحين، ولا يعرفون مكانتهم، لأن كثيراً من الشباب فُتنت عقولهم بأهل الفسق والمجون والغناء والموسيقى والأفلام والتمثيليات وغيرها من جهات الفساد.
أسباب ضعف مكانة العلماء في عصرنا:
أسباب هذا الضعف والهوان كثيرة، يرجع بعضها إلى عوامل تاريخية، وبعضها إلى عوامل خارجية، وبعضها إلى عوامل داخلية، فمن العوامل التاريخية تغلغل الطرق الصوفية في حياة كثير من الناس، وتقديم صورة مزرية غير سوية لمعنى كلمة الشيخ والمقرئ، مما أسقط صورة نفسية تاريخية هي اليوم محل تندر بعض العوام والعلمانيين.
ومن العوامل الخارجية الاحتلال الذي ربى الشعوب على أن يكون خريجو المدارس الحديثة أعلى مكانة وأرفع قدراً وراتباً من علماء الشريعة، فضعفت مكانة دراسة العلوم الشرعية في نفوس عدد من الناس، فبعضهم لا يحب أن يكون ابنه شيخاً – بسبب تلك الصورة النمطية المشوهة – وإنما يريد أن يكون مهندساً أو طبيباً. وكذلك ساهم الإعلام العلماني التابع للفكر الغربي والتيار الإلحادي في ترسيخ صورة نمطية للعلماء خصوصاً والمتدينين عموماً، فصار هذا الإعلام يسخر منهم، ويقدم إلى الجمهور عبر أنواع الاتصال المؤثرة، من تمثيلية وفيلم ومسرحية، صوراً ساخرة منهم تسقط مكانة العلماء والصالحين، وتحجز بين الناس وبين التأثر بهم.
ومن العوامل الداخلية فقر بعض العلماء فبعضهم لا يملك المال الكافي لتنفيذ مشاريعه الدعوية والعلمية. ومنها خوف بعضهم من تعريض نفسه لهجوم أجهزة الإعلام وألسنة العلمانيين الطويلة، وبعضهم ألزم نفسه العزلة صيانة للدين وبعداً عن الفتن. ومن الأسباب المهمة ما قد يقع من خلافات بين بعض العلماء، مما قد يدفع بعض الأتباع إلى التعدي بالقول، وتحذير الناس من المخالفين لعالمهم، وهو ما يجعل أبناء الصحوة متنازعين متباغضين مما يؤدي إلى سقوط الهيبة من القلوب.
ومن الأسباب الانفتاح العالمي في وسائل الاتصال، حيث سهلت الوسائل الحديثة نشر أهل البدع لبدعهم وأهل الضلال لضلالهم، فكثرت الشبهات، وأثيرت الشكوك، وزادت وسائل الوقيعة والنميمة، فأدت هذه الأجواء إلى تجرؤ كثيرين على العلماء وعلى كلامهم وأقوالهم، وتعلم بعض الشباب كيف يجادل أهل العلم ويرد عليهم ويعبث بأقوالهم قبل أن يتعلم مبادئ العلم الأولية، وصار بعض العلمانيين وبعض الشباب يتعاملون مع كلام أهل العلم بصورة ممتهنة تجعله عرضة للنقاش والجدال دون علم.
ومن الأسباب تأخر عدد من المجامع العلمية المعتمدة، أو إحجامها أحياناً، عن بيان موقف الإسلام من القواصم التي تنزل بالمسلمين، مما يؤدي إلى ضعف مكانتها ومكانة القائمين عليها لدى الناس، والنظر إليهم بأنها مؤسسات رسمية بما لكلمة (رسمية) من دلالة معروفة لدى الناس. بل هذا يضعف مكانتها ومكانة العاملين فيها لدى أبناء الصحوة، ويفتح الباب للتنازع والخصومات في تقويم النوازل ومواجهة الأزمات. وهناك أسباب أخرى، لكن لعل ما سبق هي أهم الأسباب التي تؤثر في دور العلماء اليوم ومكانتهم في قيادة الأمة.
نظرات في علاج المشكلة:
لا بد من السعي الحثيث لعلاج هذه المشكلة الكبيرة، فأعداء الأمة يتقدمون في طريق تغيير هوية الأمة ومحو أصالتها ومسخ شبابها بخطى حثيثة، والعلماء هم أمل الأمة في إخراجها من هذه المآزق التي تمر بها، وفي إصلاحها وصيانتها وحفظها، وفي توجيهها نحو النصر على أعدائها، وهم قادتها الحقيقيون في الأزمات، ولا بد أن تكون كلمتهم في الإصلاح هي السائدة، وخطواتهم هي الرائدة؛ لا خطوات العلمانيين والليبراليين وكلماتهم، ولا يتأتى ذلك وقدرهم عند الناس ضعيف، ومكانتهم مهدرة، وكلمتهم مستخف بها، وإنما يكون للعلماء هذا الدور في إصلاح الأمة حين تكون لهم هيبة ظاهرة، وكلمة نافذة، ونصيحة مسموعة، ومكانة مرفوعة، وصورة لدى الناس محبوبة. قال الغزالي: (… الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا)(1) ، قال الرشيد لشيبان عظني: فقال يا أمير المؤمنين؛ لأن تصحب من يخوفك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى تدرك الخوف. فقال فسر لي هذا. قال من يقول لك أنت مسؤول عن الرعية فاتق الله؛ أنصح لك ممن يقول لك أنتم أهل بيت مغفور لكم…)(2).
حماية مكانة العلماء والعمل على صيانتها ورفع قدرها في نفوس الناس؛ هي حماية للدين، وصيانة لمقدساته وأركانه، ونحن الآن نرى الصحف العلمانية ملأى بالتعدي على أركان الدين ومعالمه بين الحين والآخر، وما تجرأ هؤلاء على ذلك إلا بعد تجرؤهم على مكانة العلماء، وتجاوز حدود الأدب معهم، ولو علموا أن المساس بكرامة أحد من العلماء سوف توقعهم في غضب العلماء والمؤسسات الدينية جميعاً، وعدم تركهم إلا بعد تأديبهم لما تجرأ بعضهم على أركان الدين ومقدساته؛ لأنه سيعلم أن الغضب سيكون أشد والعقاب أكبر.
فينبغي لنا عدم التهاون مع من يتجاوز مع أهل العلم حدود النقاش العلمي، ويحاول الاستخفاف بهم والتنقيص من قدرهم لدى الناس، عن أبي وائل أن ابن مسعود – رضي الله عنه – رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك. فقال وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك. فقال له عبد الله: إني لست مثلك إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس.. فبلغ ذلك عمر فجعل يضرب الرجل ويقول أترد على ابن مسعود؟(3).
عن عمار بن أبي عمار: أن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – ركب يوماً فأخذ ابن عباس – رضي الله عنه – بركابه، فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد أرني يدك. فأخرج يده فقبلها فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا(4). ولا بد هنا من أن ينصر العلماء بعضهم بعضاً في القضايا الواضحة التي لا جدال في أنها ظلم واقع على بعضهم. وأن يكثر الخطباء والدعاة في دروسهم وخطبهم من التعريف بقدر العلماء، وفي العصر الحاضر عدد كبير من العلماء، ينبغي تعريف الناس بدورهم، وما قدموه من تضحيات غالية في سبيل بيان الحق، وإبراز سيرتهم ومواقفهم.
العمل على دعم مكانة أهل العلم يبدأ من أهل العلم وطلابه والدعاة؛ بأن تُنشط روح التعاون والتسامح مرة أخرى بينهم، وأن تسود بينهم أخوة الإسلام بآدابها وقيمها وحقوقها. وأن تقام المؤتمرات بين الحين والحين التي تجمع بين أهل العلم على مختلف الاتجاهات المنهجية والفقهية حتى يرى أتباع الدعوة أولاً، وغيرهم من المثقفين والحكام والعوام، أن العلماء هم قدوة الأمة في الاتحاد والتعاون والتقارب والحوار والألفة، وأن ما بينهم من خلافات فقهية لا تتعدى كونها خلافات فقهية، ولا يمكن أن تحول إلى خلافات تولد العداوة والبغضاء. فصلاح الأمة يبدأ من صلاح ذات البين بين العلماء، وتعاونهم على نبذ الخلاف، وتوطيد الأواصر والعلاقات فيما بينهم، فالأمة اليوم في أشد الحاجة لأن يكون علماؤها أقوياء مجتمعين متحدين، لهم مكانتهم في النفوس، قائمين بدورهم في الإصلاح.
قوة العلماء اليوم يمكن أن تعود وتنمو بنزول المعتزلين منهم إلى معترك الحياة اليومية، واضعين أيديهم في أيدي من سبقوهم إلى العمل والدعوة، حتى يسمع الناس صوتهم، ويرون تعاضدهم وتعاونهم. سوف تعود قوة العلماء وتعلو مكانتهم مرة أخرى في المجتمع إذا اتفقوا على ألا يسمحوا لأحد أن يطعن في أحد منهم، أو أن يستغل أقوالهم في نصب الخلاف بين أبناء الأمة، أو أن يضرب أقوال بعضهم بأقوال بعضهم الآخر، وذلك بأن يقفوا دائماً موقف الإنكار أمام تلك المحاولات التي تفرق الشباب وتشتت جهود العلماء في الإصلاح الحقيقي الذي تنتظره الأمة.
صورة العلماء اليوم لدى الناس تحتاج إلى الوضوح لتأخذ مكانها في حياة الناس، علماء يثق الناس في علمهم وفي قوة ترابطهم، لا يريد الناس أن يروا لكل واحد من العلماء جماعة تتعصب ضد جماعة عالم آخر، إنما يحتاجون، ولا سيما الشباب، إلى العالم الذي يؤلف القلوب مهما اختلفت الآراء، ويجمع النفوس مهما تنوعت الرؤى.
ومن أسباب قوة مكانة العلماء دعمهم مالياً في أعمالهم ومشاريعهم الدعوية والعلمية، وبذل المال لهم، هذا فضلاً عن أن يسعى أهل العلم أنفسهم إلى الارتقاء بمستواهم المالي، قال ابن الجوزي: (فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى ويبالغ في الكسب،… فإنه يصون بعَرَضه عِرضه، وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلّف مالاً، وخلّف سفيان الثوري مالاً وقال لولاك لتمندلوا بي… ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة)(5). عن الفريابي قال: سمعت سفيان الثوري – رحمه الله – يقول: يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفياً؛ فإن الآفات إليه أسرع، وألسنة الناس إليهم أسرع(6). وقال أيضاً: لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس(7).
ومن أسباب عودة مكانة العلماء وقوة كلمتهم أن تنشط المؤسسات الرسمية في بلاد المسلمين في مجال الدعوة والإرشاد، وأن تسعى إلى محو الصورة الماضية لها في أذهان الناس وتصحيحها، وأن تسد الفجوة بينها وبين العلماء غير المنتسبين للمؤسسات الرسمية وأصحاب الدعوات.
ومن أسباب عودة مكانة العلماء وقوة كلمتهم، أن يكون لقرارات المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية والمذكرات والبيانات التي يصدرها مجموعات من العلماء مكان التقديم في الإعلام لا سيما في القضايا المصيرية، وذلك لجمع الكلمة قدر الإمكان وتوحيد الصفوف.
ومن الأسباب التي تدعم مكانة أهل العلم والدعاة وتزيد من محبة الناس لهم معاونتهم للناس في الصعاب، ومساعدتهم للفقراء، والمحتاجين، والمظلومين، قال مسلم بن إبراهيم عن شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث وهو يصفه: كان أبا الفقراء وأمهم، وسمعته يقول: والله لولا الفقراء ما جلست لكم(8).
إن الأمة بحاجة ماسة في هذا العصر إلى أن يكون للعلماء حضور في حياتهم، ومكانة في قلوبهم، وقوة لكلمتهم، فهم أمل الأمة نحو العزة والنصر، ومصابيح هدايتهم في الفتن.