العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
الموضوع :
العالم قبل النبوة
لقد اجتمعت كلمة المؤرخين عامة على أن العالم الإنساني قاطبة ، والعالم العربي بصورة خاصة كان يعيش في دياجير ظلام الظلم والجهل ، وظلمات الطغيان والاستبداد ، تتنازعه الإمبراطوريتان الفارسية شرقاً ، والرومانية غَرْباً . ويؤكد هذه الحقيقة قول الحبيب-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم, عربهم وعجمهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب). فالأحوال متردية ساقطة هابطة في العالم الإنساني بأسره،لا سيما في العالم العربي حيث الفساد في كل جوانب الحياة السياسية منها كالاقتصادية ، والاجتماعية كالدينية الكل سواء .وهذه نظرة خاطفة نلقيها على العالم عامة قبل البعثة الشريفة,وعلى ديار العرب خاصة،وكلمة عابرة نقولها على تلك الأوضاع المتدهورة المتهالكة ،ليُعرَفَ مدى الحاجة إلى فجرِ النُّبوةِ المحمديِّةِ لتبديد تلك الظُلَمْ المتراكمة، وإبعاد تلك الويلات الملازمة للحياة الخاصة والعامة في ربوع ديار العروبة قاطبة ؛ إذ لا فرق بين يَمَنِهَا وشامها، ولا بين حجازها ونجدها.ولِتَعْظُمَ عند دي الوعي العاقل مِنَّةُ أنوارِ الفجرِ المحمديِّ التي غمرتِ الجزيرةَ والكونَ هِدَايةً ونُوراً .
العالمُ قبلَ البعثةِ
قد يألف المرء النعمة،وقد تأنس عيناه النور؛ لكنه لن يعرف حمدًا حتى يدركسلب النعمة وفوات النور، والناظر في دين الإسلام لن يعرف فضله, حتى يبصر كيف تهاوىالإنسان في القرنين السادس والسابع في أودية الظلم،وكيف تردى في درب الشيطان، حينفقد عقله، وخفت في الصدر نور قلبه، وجعل على عينيه غشاوة كفر تحجب عنه الإيمان. ذلكما وصل إليه الأمر في الحضارات السابقة المختلفة،وما وصل إليه الحال في أمم العربقبل البعثة
الحضارات السابقة :
ما أشقى الإنسان حين يبتعد عن منهج ربه، يزعم أنه يعلي من شأن عقله، ويحررإرادته، فإذا عقله يرتع في أودية الضلال، ويُحشى بالأساطير والخرافات، وإذا هو مكبَّلبقيود أطماعه وشهواته، وشرائعه العقيمة التي سنها لنفسه، ثم أنت تتلفت في دياره التي خلف، وآثاره التي ترك، تبحث عن حضارته، فلا تجد إلا أحجارًا منحوتة، ورسومًامنقوشة، وأعمدة شاهقة، وأبنية سامقة، فإذا فتشت عن الإنسان وجدته حائرًا ضائعًا ليسفي قلبه إلا الجزع، وما في عقله إلا الخواء، فأين الحضارة إذن؟! ذلكم ما آل إليهأمر العالم قبل البعثة. الفرس في المشرق، والروم في المغرب، ثم إذا أنت توغلت في آسيا صادفتك أممها الوسطى،ثم الهند, والصين في أقصى شرقها، فإذا أنت عرجتإلىأوروبا لم تجد ما يُبهج فؤادك، وقد تتساءل عن حملة رسالة موسى– عليهالصلاة والسلام-،فلا تجد أمامك إلا اليهود وهم في أشقى حالٍ، وقد تأخذك قدماك إلى الحبشة فيإفريقيا، أو إلى مصر أقدم الحضارات، فلا تجد في هذا القرن الميلادي السادس إلا مايُدمي قلبك ويُدمِع عينيك، لكن لعلها كانت ظلمة الليل البهيم التي تنبئ عن فجرٍ يشرقبعدها!.
الفُرْسُ
كان الفرس يعبدون الله ويسجدونله، ثم أضحوا يُمجِّدُون الشمسَ والقمرَ وأجرامَ السَّماءِ، ثم جاءهم "زرادشت" فدعاهم إلىالتوحيد بزعمه، وأمرهم بالاتجاه إلى الشمس والنار في الصلاة، وظل من بعده يُشرعونلهم حتى انقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار، واقتصرت عبادتهم تلك على طقوسيُؤدونها في المعابد، ثم إذا خرجوا منها تقاذفتهم أمواج الباطل ورياح الضلال في كلسبيل، وأمام فساد الفرس ظهرت دعوة "ماني" في القرن الثالث الميلادي-بمنافسة النوروالظلمة-فحرم الشهوات بالكلية؛ لأنها من الظلام، ودعا باستعجال الفناء انتصارًاللنور، وهو ما أجابه إليه ملكهم حين قتله!!وظل أتباعه بفارس إلى حين الفتحالإسلامي، وظهرت من بعده دعوة "مزدك" بأن المال والنساء مشاع مباح كالكلأ والناروالماء! وما زالت دعوته تلك تظهر حتى صار الرجل لا يعرف ولدَهُ، والولد لا يعرف أباه،والمرء يُغلب على بيته بمن يُشاركه ماله ونساءه في كُلِّ وقتٍ وفي كل حين، أما بالنسبةللنظام الاجتماعي فقد عرف الفرس نظام التميزَ الطبقيَّ في أقسى صوره، وكان مركز المرءيحدد بنسبه، فلا يستطيع أن يتجاوزه، أو يغير حرفته التي خُلِقَ لها-بزعمهم الباطل-. وفيما يخص النظام المالي، فقد كان نظامًا جائرًا مضطربًا، يعتمدُ على الجبايةوالضرائب الباهظة، التي أثقلت كاهل الناس، حتى أهملوا أشغالهم ففشت فيهم البطالةوكثرت بينهم الجناية، وكان الفرس يُقدِّسُون أكاسرتهم، ويعتقدون في ملوكهم الألوهية، وأن لهم حقـًا لا ينازع فيه في التاج والإمارة، وكثرت كنوز ملوكهم في الوقت الذيعانت فيه شعوبهم من شظف العيش. وروي عن "خسرو الثاني" أنه كان في خزانته ثمانمائةمليون مثقال ذهب في العام الثالث لجلوسِهِ على العرش، أما "كسرى أبرويز" فكانت لهاثنتا عشرة ألف امرأة، وخمسون ألف جواد وما لا يُحصَى من أدوات الترف والقصور.والعجيب أنَّ الفرسَ مع ذلك كانوا يُمَجِّدون قوميتهم، ويعتقدون أنها اختصت دون سواهابالشرف, في الوقت الذي كانوا ينظرون فيه إلى الأمم من حولهم نظرة ازدراءوامتهان.
الرُّومُ
كان المجتمع الروميُّيخضع لنظام طبقيٍّ جائر لا يتطلع فيه المرء لمن فوقه, ولا يحق له أن يُغيِّر مهنته وحرفتهالتي يرثها من أبيه، وقد تعاظمت الضرائبُ والإتاوات على أهل البلاد، حتى مقت الناسُحكوماتهم، وحدثت لذلك ثورات عظيمة واضطرا بات، حتى إن ثلاثين ألفًا من البشر قدهلكوا في اضطراب عام اثنين وثلاثين وخمسمائة من الميلاد وحده، وقد انحطت الدولةوتردت للهاوية من كثرة ما انتشر فيها من الرشوة والخيانة، وما ضاع فيها من العدلوالحق، فضاعت التجارة، وأهملت الزراعة، وتناقص العمران في البلدان. أما أهل الرياسةوالشرف فقد استحوذت عليهم حياةُ الترف والبذخ، وطغى عليهم بحرُ المدنية المصطنعةوالحياة المزورة، وارتفع مستوى الحياة وتعقَّدت الحياةُ تعقدًا عظيماً. وكان الواحدمنهم ينفق على جزء من لباسه ما يُطعم قريةً بأكملها. أما عن علاقة المملكة بما يخضعلها من بلدان، فكان المبدأ تقديس الوطن والشعب الرومي، وغيرهما له الاستعباد، أوالفقر والاضطهاد، وكان من أنكرِ ما فعلتْهُ هذه الدَّولةُ تحريفُها للمسيحيةِ، وتحويلها إلىسفسطةٍ عقيمةٍ، وحروبٍ أليمةٍ.
تحريف المسيحية
أغارت وثنية روما على المسيحية فجعلتها مَسْخاً مُشوَّهاً، فلا هي وثنية وقحة، ولا هي توحيد سليم، جمعت أشتاتًا من هنا وهناك طمس "بولس" نورها، وقضى "قُسطنطين" على بقاياها، فعادت تجمع أخلاطًا من عقائد اليونان، والروم، والمصريين القدماء، ومع ذلك تفرق أتباعها شيعًا وأحزابًا، يحارب بعضُهم بعضًا، حاملين بين جوانحهم كُلَّ عداوةٍ وكل بغضاء، ولعل أشد مظاهر هذا الخلاف ما كان بين "المنوفيسيين" في مصر، و"المكانيين" في الشام وروما، فبينما اعتقد الفريق الأولُ بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، إذ أصرَّ الفريقُ الثاني على ازدواجِها!! وقد حدثت في الحروبِ بينهما أهوالٌ عجيبةٌ، حتى جاء هرقلُ-والذي حكم من سنة عشر وستمائة إلى سنة إحدى وأربعين وستمائة من الميلاد (610م-641)-,وأراد أن يجمعَهم على وحدانية إرادة الله وقضائه، في مذهبه "المنوتيلى"، فاجتمعوا على الأولى, واختلفوا في الثانية، فتجددت بينهم الحروبُ, وذكت نارُها المشئومةُ.
أُمم آسيا الوسطى
لم يُعرَفْ عن هذه الأمم حضارةٌ تُذكَرُ، أو نظامٌ يُشَارُ إليه، وإنما كانت بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروةً علميةً، أو نظامـاً سياسياً راقياً، ومن أمثلة هذه الأمم:
الهند
يقول الرحالة الصيني "هوئن سوئنج"واصفاً الاحتفالَ العظيمَ الذي أقامه الملك "هرش"حاكم الهند من سنة ستوستمائة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة من الميلاد(606م/647م): أقام الملك احتفالاًعظيمًا في (قنوج)اشترك فيه عددٌ كبيرٌ جداً من علماء الديانات السائدة في الهند، وقدنصب الملك تمثالاً ذهبيًا لبوذا على منارة تعلو خمسين ذراعاً، وقد خرج بتمثال آخرأصغر لبوذا في موكب حافل قام بجنبه الملك "هرش" بمظلة، وقام الملك الحليف "كامروب" يذبُّ عنه الذباب. ويكفيك هذا الوصف لهذين الملكين, وهما يظلان إلههما من الشمس, ويدفعان عنه شَرَّ الذباب؛ لتعلم ما آلت إليه عقولُ هؤلاء القوم في دينهم. لقد بلغتالوثنية أوجها في القرن السادس الميلادي, حيث تعددت الآلهة من أشخاص تاريخية، وجبال، ومعادن، وأنهار, وآلات للحرب، وآلات للكتابة، وآلات التناسل، وحيوانات أعظمهاالبقرة، والأجرام الفلكية، وغير ذلك إلى أن بلغت ثلاثين وثلاثمائة مليون. واستعرتفي أركان الهند وجنباتها الشهوةُ الجنسيةُ الجامحةُ حتى عبدَ الهنودُ آلةَ التناسلِ لإلههمالأكبر "مهاديو" فصوروها صورة بشعة، واجتمعوا للاحتفال بها رجالاً ونساءً، شيوخاًوشباباً وأطفالاً!!، وعادت دور العبادة مكاناً يُمارس فيه الكهنة والفساق فجورَهموخلاعتَهم، فضلاً عن سائر الأماكن في البلاد. ولم يُعرَفْ في تاريخ الأمم نظام طبقيأعتى وأقسى منه في الهند، وسن لذلك قانون يُدعى "منوشاستر",قَسَّمَ النَّاسَ بمقتضاه إلىطبقات أربع، يتمتع أعلاها بكل المزايا، ولا يبقى لأدناها إلا الذل والاستعباد،وتردت أوضاع المرأة في هذا المجتمع حتى إن الرجل كان يخسر زوجته في القمار، ولايبقى للمرأة بعد وفاة زوجها إلا أن تصبح أمة في بيت زوجها المتوفى تخدمهم دون حق فيمتاع أو زواج أو تحرق نفسها خلفه هربـًا من عبوسة الدنيا وذلِّالحياة.
الصين
عجيب أمر ذلك الإنسانحين يفقد عقله، وتتقاذفه أمواجُ الأيام، حتى يجد نفسه على شاطئ فكرة يعتقدها، ويؤمنبها، ويخلص لها، دون أن يدري كيف وصل إليها، أو كيف وصلت إليه!! هكذا كان حال أهلالصين، حين تخبطوا بين ديانة " لاوتسو" المغرقة في النظريات، وديانة "كونفوشيوس" التي عُنيت بالعمليات، فكانت تعاليمَ تدار بها شئون الدنيا والأمور السياسيةوالمادية والإدارية، دون اعتقاد في وجود إله، ثم الديانة "البوذية"، والتي بدأتكحِكم بسيطة وبليغة، ثم ما لبثت أنْ شابتها الخرافة، وخالطتها الوثنية الحمقاءبتماثيلها، وضاعت بين أركانها فكرة الإله!! حتى إن مؤرخي هذه الديانة لا يزالون فيشكِّ من وجوده بها، وحيرة من قيام دين على أساس رقيق من الآداب، التي ليس فيهاالإيمان بالله.
أوروبا
السائر في دروب تاريخ أوربا الشماليةالغربية، لا يعرف لقدميه موطئًا أو سبيلاً، ذلك لأنه يتجول في ديار خيَّمت عليهاسحائبُ الظلام، واكتنفتها حروب ومعارك لا تُوصف إلا بالوحشية والضراوة. وبالاختصار،كانت أوربا في هذه الحقبة بمعزل عن الحضارة، لا تعرف عن العالم، ولا يعرف العالمالمتمدن عنها إلا قليلاً.
اليهود
بين آسيا وإفريقياوأوروبا انتشر اليهود، وعلى ما كان في أيديهم من مادة في الدين، وقرب لفهم مصطلحاتهومعانيه، إلا أن ذلك لم يثمر حضارة تذكر، أو نظامًا يُشار إليه. قضى عليهم أن يتحكمفيهم غيرُهم، وأن يكونوا عُرْضةً للاضطهاد والنفي والبلاء، وفشت بين أممهم أخلاقُ الخُنُوعِعند الضَّعفِ، والبطش عند الغلبة، والقسوة والأثرة، وأكل المال بغير الحق، والجشعوتعاطي الربا، والنفاق، والصد عن سبيل الله.وبهذا الانحطاط النفسيِّ، والفسادالاجتماعيِّ، عُزِلُوا عن إمامةِ الأممِ، وقيادةِ العالمِ. ورغم أنَّ أقربَ ديانةٍ لهم في الأرضكانت المسيحية– فكلاهما من مشكاة واحدة خرجت- إلا أن العداء بين اليهود والنصارىلم يكنليهدأ, إلا ليعاود الاستعار من جديد.
العداء بين اليهود والنصارى
الناظر في تاريخ العداء بين اليهود والنصارى، يجزم بلا ريبةٍ، ويقسم بلا شك، أن مثل هذه القسوة وتلك الضراوة في العداء والاعتداء لم تُعرَفْ أو تحدث على الأرض في مملكةٍ من ممالكِ الحيواناتِ، لقد كانوا يُوقعون ببعضهم البعض، ويتحينون الفُرص، ويهدمون في ساعةٍ ما وقع تحت أيديهم من معابد، ويقتلون ما وصلت إليه سيوفُهم من أرواحٍ، فكيف يكون لإحداهما إذن حَقٌّ في قيادةِ البشريةِ؛ لتحقيقِ رسالةِ الحقِّ والعدلِ والسَّلامِ؟!.
في إفريقيا: الحبشة
كانت الحبشة علىالمذهب "المنوفيسى" المصري للنصرانية، والعجيبُ أنها على تنصرها كانت تعبد أوثاناًكثيرة، استعارت بعضها من الهمجية، فخلطت هذا بذاك.ولم تكن أمةٌ ذات روح في الدين،أو طموح في الدنيا، حتى إنه لم يكن لها استقلال بأمورها الدينية, إنما هي تابعةلكرسي الإسكندرية.
مصر
على عراقة حضارتها,وكثرة خيراتها، إلا أن مصر قد طُحِنت في عهد الرومان بين استبدادٍ سياسيٍّ، واستغلالاقتصاديٍّ، واضطهاد دينيٍّ. ففي مجال السياسة لم يكن لها من أمرِها شيءٌ، ومجال الاقتصادلم تعرف عنها روما سوى أنها شاةٌ حلوبٌ تستنزفُ مواردَها، وتمتصُّ دَمَهَا, وكانت ضرائبُهمالباهظة على كُلِّ شيء، حتى على النُّفوسِ، وكان فَلَّاحُو مصر يكدحُون لرفاهيةِ وترف الحفـنةِالباغيةِ في روما، والعجيبُ أنَّ الحرب الشرسة التي قامت بين المصريين والرُّومان، لم يكنالقصد منها التحرر السياسي، أو البحث عن العدل الاقتصادي، إنما كانت نارًا تذكِّيهاالخلافاتُ الدينيةُ، والمجادلات العقيمة. كان الناس لا يأبهون إلا بخلافِ العقيدةِ،يُخاطِرون في سبيلِها بحياتِهم، ويتعرَّضُون من أجلها في عشر سنين لما ذاقته أوروبا في عهدالتفتيش لعقودٍ عديدةٍ، وقع خلال هذه الحرب ما تقشعر منه الجلودُ من تعذيبٍ وإغراقٍ،وإحراقٍ بالمشاعل، وتفنن في الإبادة والتعذيب، حتى إنهم كانوا يصفون المصريين فيأكياس الرمل ثم يلقون بهم في اليم. وبالجملة لم تعرف مصرُ النصرانيةُ في عهد روماالمسيحيةِ إلا أشدَّ الشَّقاءِ، وأقسى العذابِ.