السيرة الذاتية
السيرة الذاتية فن، يغري الكثير من الكتاب لتوثيقه، وبخاصة بعد أن يكون لهم باع طويل في الكتابة الروائية أو الفكرية، وقد تطورت في عصرنا الحالي، فلم تعد حكراً على الكتاب أو الشعراء فقط.
بل أصبح يكتبها الرؤساء والملوك والسياسيون ليوثقوا فيها تجاربهم الذاتية في الحياة السياسية والأحداث التي واكبت حياتهم والأشخاص الذين قابلوهم واصطدموا معهم، كما يحاول كتابتها ناس عاديين ليصبحوا معروفين.
فالسيرة الذاتية تأريخ للأحداث الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية للمكان والزمان؛ توثيق للتاريخ، وتوثيق للخبرات. فكاتب السيرة يتناول فيها أحداثا من مراحل حياته المختلفة، ربما تكون حروبا أو أحداثا تاريخية مهمة شاركوا في تتبعها، أو تشابكت تفاصيلها مع تفاصيل حياتهم.
لكن، الخوف وثقافة المجتمع المحكوم بالعادات والتقاليد، وأسباب أخرى تدفع الكثير من الكتاب الأردنيين –والعرب بالعموم- إلى الابتعاد عن كتابة سيرهم الذاتية، ليجنح أكثرهم إلى كتابتها في أعمالهم الروائية بأسلوب غير مباشر، ليُقرأ كاتبها بين سطورها.
"نحن كأشخاص عاديين وليس كتاب، لا نتجرأ على قول المستور"، تقول الروائية جميلة عمايرة "بثقافتنا قد نؤذي آخرين، وقد نمس مشاعرهم وهم لا زالوا أحياءً".
كتب السير الذاتية في الأردن محدودة جداً، كما ترى القاصة ورئيس تحرير مجلة تايكي الثقافية، بسمة النسور، وتقول "يمكن أن أعتبرها ظاهرة تخص المجتمع الأردني، فالكتابة بهذا النوع محدود جداً".
لو كان الرزاز حياً
(السيرة الجوانية) تجربة للروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز، لكنها لم تكتمل بعد، بسبب وفاته، وتقول النسور "أتصور أن مؤنس لو كتبها لكانت سيرة صادمة، باستثناء ذلك لا أذكر كاتب أردني كتب سيرته الذاتية واستعرض فيها حياته ومعاناته أو الكشف الجواني له".
لكن هناك كتاب للأكاديمي الأردني خالد الكركي "سنوات الصبر والرضا" وفيه ضمن بعضاً من حياته ونشأته في قريته ومراحل تعليمه حتى وصوله إلى مناصب عليا في الدولة، لكنها ذهبت للحديث عن علاقاته الأسرية وببعض من تركوا بصمة في حياته.
وإذا جنحنا إلى الأدب العربي فالقائمة تطول لعل أبرزهم: فدوى طوقان، جبرا إبراهيم جبرا، إدوارد سعيد وإحسان عباس، وتتحدث بسمة النسور "من الصدفة أننا في العدد القادم من مجلة تايكي نشتغل على هذا
الموضوع تحديداً، وخصوصاً السيرة الذاتية لدى المرأة، ووجدنا أن بصعوبة كتبت امرأة سيرتها، باستثناء الراحلة فدوى طوقان، السؤال مطروح والجواب عليه يحمل أكثر من اجتهاد".
"تركيبة المجتمع العربي بالعموم محافظ، وهناك الكثير من التابوهات ولا توجد الجرأة لاقتحامها، وإن تحدثنا عن المجتمع الأردني، فطبيعته لا يعبر عن نفسه بسهولة، وهذا ينطبق على المبدع باعتباره ابن البيئة، ودائما نتحفظ بالتعبير عن ذواتنا، وحوارنا دائما يكون في المعظم جواني والمرأة خصوصا عليها الكثير من القيود"، تقول بسمة النسور لبرنامج برائحة القهوة.
وتعلق الروائية جميلة عمايرة "لا يوجد أي عمل أدبي؛ قصصي أو روائي، إلا ويحمل بذرة ولو صغيرة جداً من الكاتب، حياته هواجسه أحلامه وانكساراته، ولأنني أتحدث معك وبين يدي رواية إلياس فركوح مقامات الزبد فيها جزء كبير من الذات، ومن السيرة الشخصية للكاتب، وكذلك رواية شجرة الفهود لسميحة خريس فيها جزء كبير من السيرة الذاتية".
وتعود وتقول عمايرة "الكاتب العربي تربى على التابوهات والممنوعات التي تحد من القول المباشر، وكل ذلك عكس الآخر والذي هو الأدب الغربي والاعترافات والجرأة العالية، لكن الأدب العربي ومن ضمنه الأديب الأردني لم يحدث، وإن كان هناك محاولات لكتابات فيها من الجرأة الكثير وتسمى الأسماء فيها كما هي".
حياة عادية وغياب الأحداث.. أم خوف من البوح
خليل السواحري، كاتب وقاص وصاحب دار الكرمل للنشر، حدثنا عن السير الأدبية، ولماذا لا يكتب الأديب الأردني سيرته الذاتية، يقول "ليس هناك سيرة ذاتية مائة بالمائة سواء كتبها كتاب أردنيين أو عرب أو أجانب، وأعتقد أن اعترافات جان جاك روسو التي صدرت في أواخر أيام حياته في بدايات القرن العشرين، كانت أصدق كتابات السير الذاتية. هنا، لا يتطرق الكاتب إلى كتابة سيرته الذاتية، لعدة أسباب أولها أن الروائي والقاص عادة ما يكتب بعض من جوانب سيرته الذاتية من خلال إبداعه القصصي أو الروائي، فيغطي هذا الجانب من جوانب حياته".
ويتابع.."أو عدم وجود أحداث مفصلية ذات أهمية في حياته، فالسيرة الذاتية تحتاج لأحداث كبيرة، فإذا كانت حياة الكاتب عادية يقرأ ويكتب فقط، أي ليس لديه تجربة اجتماعية أساسية كبيرة، هذا يجعله يعزف عن كتابة السيرة الذاتية، وهناك وجه آخر لعزوفهم عن الكتابة، وهو تجنب البوح بأحداث لا يريد البوح بها، فتكون بحياته أحداث سياسية أو جنسية أو اجتماعية لا يريد أن يعرض لها صراحة، وبالتالي لا يكتب سيرته الذاتية".
هل تمنع الأعراف والتقاليد الكاتب من كتابة سيرته الذاتية؟
"نعم"، يؤكد السواحري ويتابع "فحسان أبو غنيمة الراحل بدأ بكتابة سيرته الذاتية، فاكتشف أنه سيقع في مطبات كثيرة فعزف عن كتابتها، وأنا أكتب بعض فصول من سيرتي، فهناك نوع من السيرة الذاتية وهي عبارة عن مختارات من حياة الكاتب، فيختار مفاصل سياسية أو ثقافية أو لقاءات مع كتاب آخرين. فأنا أكتب مقاطع من السيرة الذاتية وليس السيرة الذاتية كاملة مثلما فعل طه حسين، وإنما يختار الكاتب الأحداث التي يحس أنها ذات أهمية ليطلع القارئ عليها".
في حين أن كتاب آخرين مثل فيصل الحوراني كتب خماسية عن النكبة في حدود 1200 صفحة كما يشير السواحري، "هي عبارة عن سيرة ذاتية مخلوطة بالوقائع الفلسطينية، والوقائع الفلسطينية غنية وسريعة ومتلاحقة، فهو كتب ابتداءً من خروجه من المسمية وانتهاءً بوجوده في غزة بعد أوسلو، وتناول فيها القضية الفلسطينية بشكل عام؛ أرخ لأحداث القضية الفلسطينية من خلال اشتباكه فيها ومع الأشخاص القياديين والأحزاب".
لما العزوف !
الروائية سميحة خريس، ورئيسة القسم الثقافي في جريدة الرأي، ترى أن هناك كٌتُابا أردنيين كتبوا سيرهم الذاتية، "مثلاً إحسان عباس كتب وغيره الكثير، ولا يمكن تسمية ذلك بعزوف الكاتب، لأن المعظم الموجود بالساحة لم يصل إلى السن الذي يلح عليهم بضرورة كتابة السيرة الذاتية، ولأن مخاوف عديدة تحد من قدرتهم على التعبير عن تجاربهم الشخصية، والرقابة الاجتماعية التي قد تطالها بالتحديد".
إذا هي جرأة بالنهاية؟
"فيها جرأة ولا يخفى عليك ما كتبه الروائي الراحل مؤنس الرزاز في السيرة الجوانية، وفيها الكثير من السيرة الذاتية النفسية لحياته؛ وهي جرأة غير معهودة أصلا في الأدب العربي".
ورغم الخوف والرقابة الاجتماعية على الكاتب، فأنه يبقى عاشقا لأن يعبر عن ذاته في أي عمل يكتبه لذلك يظل متحفزاً لكتابتها، "ولدينا إحساس بضرورة أن نكتب شيء من داخلنا ونسرب بعضها في داخل نصوصنا الروائية".
وهو ما يمكن قراءته في روايتك شجرة الفهود؟
"لا، ليس تماما أنا أستفيد من تجاربي في العمل والحياة العامة وأسخرها، لكني لم أكتب السيرة الذاتية داخل النص".
وهل هناك نية لكتابة سيرة ذاتية بالمستقبل؟
"قد يكون. ولكن ليس بمعنى السيرة الذاتية، فقد يكون اجتزاء جزء وأعبر عنه".
البيئة تحكم على الكلمة
البوح للآخر والكتابة بواقعية، ليست من عادات المبدع العربي، وهو حال أي إنسان عادي، وكما يقول الناقد فخري صالح ورئيس القسم الثقافي في الدستور أنه "ليس لدي جواب قاطع بهذا الشأن لكن أظن أن المشكلة الأساسية تنطبق ليست على الكاتب أو المثقف فقط وإنما على كافة العاملين في المجال العام في الحياة الأردنية. وهنا أقصد رجال السياسية والعاملين في الحقول التي تجعلهم معروفين أمام الناس".
"علينا الاعتراف بأننا نعيش في بيئة تقليدية ُيحكم على الشخص من كلمة يقولها، ولهذا السبب ربما يتجنب الكتاب والمثقفون، أن يكتبوا بصراحة، وأن يفتحوا سجلاتهم بطريقة تضيء في المستقبل الأعمال الأدبية التي يكتبونها" يقول فخري صالح.
ومع هذا، فهناك خوف يتملك المبدع، فإذا كتب يتسبب بالأذى لأولاده وأقرباءه، وهنا يتجاوز الخوف الذاتي إلى الخوف والحرص على من حوله، ويقول الناقد صالح حول ذلك ، "هي مشكلة أساسية، ونجيب محفوظ مثلا حاول ذلك، فعندما قام رجائي نقاش بكتابة سيرة نجيب محفوظ رُفعت على محفوظ قضايا من قبل أقرباءه حتى من ابن أخته، وذلك بسبب ما قاله عن العائلة، وحتى أصدقاء لمحفوظ كان يعرفهم فقد كتب أبناؤهم ضده بسبب ما قاله في هذه المذكرات".
ومن هنا لا يستطيع المبدع أن يبوح، كما في الغرب، "وعندها يُفضل أن يكتب أعماله الإبداعية، ونحن علينا أن نستنتج فيما إذا كانت هذه الأعمال لها علاقة بحياته الشخصية أم لا".
سير ذاتية بدون أقنعة
"الكتابة العارية"، وصف يطلقه الأدباء على السير الذاتية، وذلك لأن نقل الواقع كما هو سيترتب عليه نقل لأحداث لم تجد طريقها للنشر، وتسليط الضوء على علاقات بين أشخاص تطال شخصيات أدبية وسياسية واجتماعية معروفة في الغالب، وهنا تأتي السيرة الذاتية للمؤرخ المصري عبد الرحمن بدوي التي وصفها الكتٌاب بأنها "مدفوعة برغبة في الانتقام وتصفية حسابات شخصية وأحقاد لم يدفنها الزمن" بالمقابل هناك سيرة باتت من الأساسيات في التراث الأدبي ونشير بهذا الصدد إلى سيرة الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان (سيرة جبلية، سيرة صعبة) وفيها تناولت حياتها كامرأة وكيف ساعدها أخيها الشاعر الراحل إبراهيم طوقان على التعلم والخروج من عباءة مجتمع تحكمه العادات والتقاليد.
هل بالضرورة أن تتحدث السيرة عن فضيحة؟ ليست بالضرورة أن تكون كذلك، لكن يذهب الكثيرون إلى قراءة السير لأجل "الفضيحة والتطرق إلى المحرمات وتحديدا الجنس"، فالحديث على الورق هو طريقة لتفريغ الكبت الذي يعانيه القارئ في مجتمعه ومن هنا يربط البعض بين السيرة والمذكرات الشخصية وكأنها قراءة داخلية حميمة تستدعي الاهتمام والفضول فيما كتبه الكاتب.
لا ينكر أحد الأهمية التي تميز السير الذاتية للأدباء والشخصيات المختلفة، فهي تذكي التاريخ والثقافة بكم كبير من الأحداث التي توثق وتؤرخ فيها. فالسيرة الذاتية تنافس الروايات في عصرنا الحاضر في نسب القراءة، لفضول القارئ المتعطش دائما لمعرفة أسرار كتابهم أو شخصياتهم المفضلة، أو لمعرفة حياة هؤلاء وما عاصروه في فتراتهم من أحداث وأزمات.
للمزيد حول الموضوع زيارة صفحة برنامج "برائحة القهوة".
عمل ( م.م . ن مدونة تعليمي آخر
__________________
ان شاء الله بس فادكم ^^