مقاصد العلم والمعرفة في السنة النبوية
المقدمه
الحضارة الإسلامية جعلت العقل والعلم مرتكزاً للخطاب الشرعي المتوجه للإنسان
من المعلوم أن مصدرية السنة النبوية لا تنحصر في الجانب التشريعي فقط، بل فيها من الزيادات الجمة، والفوائد المهمة، ما هو جدير بالبحث والدراسة. فمن هذه الجوانب المتشعبة، والفوائد المتنوعة، الجانب الحضاري، الذي ملأ به دعاة الحضارة والمدنية ـ في هذا العصر ـ الدنيا صراخاً، وكأنهم هم الذين ابتدعوه، وأخرجوه للناس.
فكان من الواجب، التنبيه بأننا مطالبون، باستخراج هذه الدُّرر المتعلقة بالقيم الحضارية في السنة النبوية، انطلاقاً من تراثنا المفعم بالمفاهيم والقيم الحضارية والمدنية، وذلك تعريفا للمسلمين، وإرشاداً لهم، لهذه الكنوز الثمينة، والمنابع الصافية، التي تتضمن المبادئ العامة، والمنطلقات الأساسية، التي تنهض بالأمة، وترقى بها لمدارج الكمال البشري المنشود.
إنَّ من المعلوم بداهةً، أنَّ من الممارسات الحضارية في السنة النبوية، مكانة العلم والمعرفة ومدى اهتمام السنة بهما، لذلك تبلورت فكرة البحث في بيان وتوضيح أن السّنة النبوية المطهرة قد سبقت كل النظم الوضعية، المعاصرة منها والقديمة، باهتمامها بزوايا متعددة من العلم والمعرفة.
ولقد تميّزت الحضارة الإسلامية بخصائص جعلتها فريدة بين الحضارات الأخرى من حيث شمولها ومقدرتها على إسعاد الإنسانية جمعاء، ومن هذه الميزات عقيدة التوحيد، والأصالة في البناء، وميزة أخرى مهمة تتمثل في إعطاء الدور المحوري للعقل والعلم. إذ ان الحضارة الإسلامية جعلت العقل والعلم مرتكز الخطاب الشرعي المتوجه للإنسان، باعتباره كائناً عاقلاً مدبراً، بغض النظر عن ملابسات الزمان والمكان والجنس واللون.
لذلك فلا غرو أن تتضح بعضُ القيم الحضارية – للدَّارس المتحقق، وللقارئ المُنْصِف ـ واضحةً وجليةً في مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بضرورة طلب العلم والمعرفة، وحضه المسلمين على البحث عنه، وأخذه من أي وعاء كان. مع العلم أن التقوى، هي جماع الخير، ومنبع الفضائل، ومعدن الأخلاق الفاضلة ولا تتأتى لأحد من الناس، إلاّ باتباع صادق مخلص للنبي صلى الله عليه وسلم.
ويستنتج من ذلك الترابط الوثيق بين العلم والعمل، والثمرة المرجوة من ذلك، فلا فهم للعلم إلاّ بالأدب، ولا قيمة للعمل إلا بالعلم، ولا ثمرة للعمل إلاّ بالإخلاص لله عز وجل. حيث نستخلص أن توجيه المجتمع نحو العلم والعمل به أمر ضروري ومطلوب، لأنه الباب الذي يلج منه المجتمع الإنساني من البداوة إلى الحضارة، ومن الفوضى إلى التخطيط.
أما إذا دلفنا لمعرفة القيم الحضارية في عملية الإفراج عن أسرى بدر مقابل التعليم فنلحظ موقف النبي صلى الله عليه وسلم الحضاري الفريد غير المسبوق منه في عقل العرب، بجعل فداء إطلاق سراح ذوي العلم من أسارى غزوة بدر الكبرى، أن يعلّم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين، بتعليمهم القراءة والكتابة اللتين كانتا يُفْتقرُ إليهما في الجزيرة العربية وبخاصة في المدنية المنورة.
فنستنج أن عملية توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وحثه على أن يكون فداء بعض أسرى بدر مقابل التعليم، مسألة تتوازن تماماً مع مسألة فداء الأسرى لأنفسهم بالمال. وفي ذلك من تقدير العلم والمعرفة والتشجيع على تعليم القراءة والكتابة والسعي في طلبها ما لا يحتاج إلى توضيح.
لذا فقد كانت الحكمة النبوية ناجحة من حيث اهتمامها بالبُعد الحضاري فيما يتعلق بالعلم والمعرفة والحث عليهما. فمن نتائج هذا البعد الحضاري أن أنشأ رجالاً أفذاذاً مثل الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي، الذي كان ممن عُلم الكتابة ضمن غلمان المدينة المنورة فداءً لبعض أسرى بدر. لذا فإننا نرى من المهم جداً أن يفتخر المسلمون ويعتزوا بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم فتح أول مدرسة للتعليم ومحو الأمية في الجزيرة العربية.
وتوالت السنة النبوية ـ تترى ـ في إظهار القيم الحضارية، كمثل الذي نجده في عملية الإحصاء والعدِّ حيث أعطت نماذج متعددة لاستخدام هذا الأسلوب الحضاري العلمي التخطيطي الدقيق، وهذه النماذج تتعدد بحسب نوع الاستخدام المطلوب.
فمثلاً حال التخطيطات المستقبلية التي لا تستغني عن الإحصاءات الدقيقة في تحديد وتحقيق الأهداف، وتقدير الموانع المحتملة في طريق الوصول إليها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة يأخذ مما يمكن للبشر أخذه في إنجاح هذه الخطط، والتي تعتبر بُعداً حضارياً سامقاً، كاختياره صلى الله عليه وسلم بلاد الحبشة أرضاً للمهجر، وهجرته صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة.
ونموذج آخر يتضح فيه بعض الأساليب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالإحصاء والعد. كاستعداده صلى الله عليه وسلم لغزوة بد الكبرى، وإحصائه صلى الله عليه وسلم وعده المسلمين. فمن ذلك كلِّه نستخلص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملماً بالطرق العلمية الإحصائية والتخطيطية الدقيقة، في كل حياته الحافلة بمثل هذه المواقف المذكورة آنفاً.
مما يُؤخذ منها دورس كثيرة، لإرشاد المجتمعات الإنسانية إلى حياة أكثر تحضراً ورقياً، باستخدام الوسائل الأكثر دقة في التقديرات، وتحليل البيانات، في كلِّ المجالات المتعددة، وما إلى ذلك من الظواهر المتجددة في الحياة البشرية.
وينبغي أن لا ننسى أن السنة النبوية أشارت أيضاً إلى قيم حضارية في منحيً آخر يتعلق بإنشاء الترجمة والاهتمام باللغات، لعلمها أن الترجمة هي الوسيلة الوحيدة لتبادل العلم والمعرفة والحضارة والآراء والأفكار بين الأمم ولها فوائد جمة نظراً لحاجة المجتمع الإنساني لهذا النشاط، طالما أنه متعدد في أجناسه ومختلف في ألسنتِهِ، فلا يمكن الاستغناء عنها.
وفي تقديرنا أنه صلى الله عليه وسلم، بعد ما خرج من بلده مكة إلى بلدة جديدة ذات قوميات مختلفة ولغات متباينة، أحس صلى الله عليه وسلم بضرورة الترجمان بينه وبين هؤلاء القوم الآخرين، لسلامة العلاقة، وإمكانية التعارف الصحيح، وكذلك الحيطة والحذر من مكر الماكرين وحيل المتربصين، او تفادي إصدار الأحكام دون معرفة بأقوال المتهمين.
وهذا يعني أن الترجمة تقوم بدور عالمي مهم وفاعل في كل المجالات الحياتية. حيث أسهمت بفعالية في نقل وتلاقح الثقافات والآداب والعلوم، عن طريق تبادل المعلومات العلمية والحضارية بشتى أنواعها وأجناسها. مما يعتبر هذا بُعداً حضارياً شامخاً وراقياً، نبّهت إليه السنة النبوية المطهرة.
حيث وضعت اللبنة الأولى لهذا البناء الذي أصبح سامقاً ومهماً في عصرنا هذا. مما يزيدنا يقينا واطمئناناً بأن في السنة النبوية المطهرة من كنوز العلم والمعرفة وما يتعلق بهما من القيم الحضارية، ما يجعلنا نشدُّ المئزر بحثاً عنها، لنعلن للعالم كلِّه بأن الإسلام دين يَصْلُح لكل زمان ومكان.
فما أحرى بنا أن نعود لتراثنا الإسلامي وبخاصة في السّنة النبوية المطهرة. إن السّنة النبوية المطهرة منبع غني بكنوز دفينة في الأعماق، فلابدَّ من استخراج هذه الكنوز وعدم الاكتفاء بما استخرجه الأوائل، جزاهم الله خيراً، وأنها مصدر عظيم وثر للحضارة الإنسانية فضلاً عن الحضارة الإسلامية، كما أنّ للحضارة الإسلامية ـ بمرجعية الكتاب والسنة النبوية المطهرة ـ ميزات عديدة وخصائص متفردة وهي قابلة للتطور ضمن إطارها الثابت المعين، تواكباً مع الرّقي الحضاري للأمم والشعوب.
إن السنة النبوية، قد سبقت كل النظم الوضعية المعاصرة منها، والقديمة، باهتمامها بزوايا مختلفة من العلم والمعرفة. كما تأكَّد أن العلم ليس محصوراً في العلوم الشرعية فحسب، بل المراد به كل علم يقرب الإنسان إلى خشية الله تعالى وعبادته وذكره. حتمية توجيه المجتمع نحو العلم والعمل به أمر ضروري ومهم لأنه الباب الذي يلج منه المجتمع الإنساني من البداوة إلى الحضارة ومن الفوضى إلى التخطيط والنظام.
اتضح جلياً مما لا يدع مجالاً للشك أن في فداء بعض أُسارى غزوة بدر الكبرى لأنفسهم مقابل التعليم لغلمان المسلمين، من تقدير العلم والمعرفة والتشجيع على تعلم القراءة والكتابة والسعي في طلبها، ما لا يحتاج لتوضيح أو بيان. وأنه يجوز للمسلم، وفي بعض الأحيان يجب عليه أن يأخذ العلم، من أي وعاء كان، ولو كان من غير المسلمين، مع الحيطة والحذر، وهذا يعتبر بُعداً حضارياً شامخاً وراقياً، قد جاءت به السنة النبوية المطهرة.
أرشدتنا السنة النبوية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملماً بالطرق الإحصائية والتخطيطية الدقيقة، في كل حياته الحافلة بمثل هذه المواقف المذكورة في البحث. كما أن عملية الإحصاء والعدّ المذمومة والتي عليها المؤاخذة في الشرع، إنما هي التي تأتي من جهة الإعجاب أو خشية النفاد بسبب الإنفاق، أما إذا كانت مما ذُكر في حيثيات هذه البحث مما يتعلق بفعله صلى الله عليه وسلم، فهي لا شك محمودة مرغب فيها.
من خلال تتبع السنة النبوية اتضح أنّ الترجمة هي الوسيلة الوحيدة لتبادل المعرفة والحضارة والآراء والأفكار بين الأمم والشعوب. وأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أول من وضع اللَّبِنة المنهجية الأولى في تعلُّمِ اللغات والتشجيع عليها. كما ينبغي أن يعتقد أنّ تعلُّمَ اللغات الأخرى ومعرفة الترجمة، لابدّ منه، حتى يُمكن للداعي من تبليغ الدعوة لجميع الناس، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، بالصورة المثلى، والأسلوب الحكيم والمنهج الدعوي الأصيل.
الخاتمه
إنْ كانت ثمَّة توصية لابدَّ من الإشارة إليها فإنما هي توصية لجميع علماء الأمة، وبخاصة المهتمين بالسنة النبوية المطهرة وعلومها، أن يصبوا جهودهم وإمكاناتهم المختلفة في البحث في متطلبات وفقه الأحاديث النبوية، لاكتشاف واستخراج ما بقي مخبوءاً فيها من العلوم الإنسانية الراقية، حتى يتأهلوا لمواجهة كل تحديثات الحضارات والفلسفات الإنسانية الأخرى، غير المؤسسة على الوحي الإلهي، والمنهج النبوي.
المصدر: جريدة البيان