الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
فإن فقهاء القانون الدستوري إذا تحدثوا عن تاريخ بدء الدساتير المكتوبه عدوا في اولها دستور الولايات المتحده الأمريكية الصادر سنة 1776م والمعروف بدستور فيلاديفيا, والدستور الفرنسي الذي
ظهر في الفترة الثورية سنة 1789-1791م, وهو اول دستور فرنسي مكتوب .
وعتبرت السلطات الحاكمه إذا خرجت عن الدستور او القواعد الدستورية التي كانت الأساس في وجودها, أنها قد هدمت اساس وجوده القانوني, وبذلك تفقد الصفه القانونية, وإذا فقدتها زالت صفة
الشرعية عن تصرفاتها, وعلى ذلك يتعذر تصور وجود الدولة القانونية بدون وجود الدستور , ومن هنا كان وجوده أساساً في اقامة الدوله القانونية .
لكن إذا ماعدنا إلى ما قبل أحد عشر قرناً تقريباً من ظهور هذه الدساتير يتبين لنا أن هناك من الحقائق ما لا يستطيع أحد أن ينكره ذلك أنه على اثر التعاقد السياسي بين النبي ولأنصار
في بيعة العقبة الثانية وهجرةالرسول إلى المدينة تكونت دولة جديدة – متنوعة الاديان والأعراق – على أساس دستور مكتوب – وهو "الصحيفة" – لها ذاتيه مستقله تميزها عن غيرها,
يحكمها قانون واحد ,وتسير حياتها وفقاً لنظام واحد , وتهدف الى غايات مشتركة بين جميع طوائفها .
إن "الوثيقة" التي كتبت بإملاء من الرسول في العام الاول من هجرته إلى المدينة مثلت السياسة الداخلية للدولة الاسلامية مع (الآخر) -اليهودي, والوثني – وهو مايسمى في العصر الحديث
بالقانون الدولي الخاص, وكذلك مثلت نظاماً متكاملاً للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول وهو ماصطلح عليه فيما بعد بالقانون الدولي العام .لقد كان هم الرسول " أن يصل
بيثرب موطنه الجديد إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الحجاز " فأنشأ روح الإخاء الانساني بين سكانها, ونزع أسباب الفرقة والتناحر التي كانت سائدة في المدينة
قبل هجرته إليها .. أحدث ذلك التغيير من خلال " الوثيقة "التي كشفة عن مدى الظلم الاجتماعي الذي كانت تعانيه يثرب قبل ذلك.
إن الدولة الإسلامية التي انشأها محمد في المدينة وفق اسلوب حظاري راق, لا تتعامل مع سلبيات الماضي ورواسبه, وفي طليعة ذلك العصبية القبلية, والنزعة الطائفية, والثارات
الجاهلية, لأن دستورها ينص على أن ( يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة , وأن بين جميع المتعاقدين النصح والنصيحة والبر دون الإثم…) .
لقد كان لدستورها قصب السبق بالنسبة لكل دساتير العالم , فهو يعتبر اول تجربة سياسية إسلامية في صدر الأسلام بقيادة الرسول , فقد كان له دوا بارز في اخراج المجتمع من دوامة
الصراع القبلي إلى رحاب الأخوة والمحبة والتسامح, إذ ركز على كثير من المباد~ الإنسانية السامية كنصرة المظلوم, وحماية الجار, ورعاية الحقوق الخاصة والعامة, وتحريم الجريمة, والتعاون في
دفع الديات , وافتداء الأسرى, ومساعدة المدين, إلى غير ذلك من المبادئ التي تشعر أبناء الوطن الواحد بختلف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم أنهم أسرة واحدة مكلفة بالدفاع عن الوطن أمام أي
اعتداء يفاجئهم من الخارج . فالمساواة قامة بينهم على اساس القيمة الإنسانية وفي اصل التكليف والمس}لية, وأنه ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عناصرها الإنساني وخلقها الأول.
واليكم نص الوثيقة
بسم الله الرحمن الرحيم:
1- هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
2- انهم أمة واحدة من دون الناس.
3- المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الألى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.
5- وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.
6- وبنو جُشَم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
7- وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو النبَّيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
10- وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
11- وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم ان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
12- وان لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13- وان المؤمنين المتقين على من بغي منهم او ابتغى دسيعة ظلم أو اثم او عدوان او فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد احدهم.
14- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا يَنصُر كافراً على مؤمن.
15- وان ذمة الله واحدة، يجير عليهم ادناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض، دون الناس.
16- وانه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والاسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
17- وإن سِلءم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
18- وان كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
19- وان المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
20- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
21- وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
22- وإنه من اعتبط مؤمناً قتلا عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
23- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف.
24- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده الى الله عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم.
25- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
26- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ، إلا نفسه وأهل بيته.
27- وإن ليهود بني النجار مثل ماليهود بني عوف.
28- وإن ليهود بني الحارث مثل ماليهود بني عوف.
29- وإن ليهود بني ساعدة مثل ماليهود بني عوف.
30- وإن ليهود بني جشم مثل ماليهود بني عوف.
31- وإن ليهود بني الأوس مثل ماليهود بني عوف.
32- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ماليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
33- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
34- وإن لبني الشطبية مثل ماليهود بني عوف.
35- وإن البر دون الإثم.
36- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
37- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
38- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
39- وإنه لا ينحجز على ثار جرح.
40- وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.
41- وإن الله على أبر هذا.
42- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
43- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
44- وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
45- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
46- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
47- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
48- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
49- وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله عز وجل، والى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
51- وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
52- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
53- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.
54- وإنهم اذا دعوا الى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين – إلا من حارب في الدين – على كل إناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
55- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
56- وإن البرد دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
57- وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
58- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم او أثم.
59- وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لمن اراد الاستزادة من هذا الموضوع الرجوع إلى
– كتاب الامه العدد 110 وثيقة المدينه المضمون والدلالة المؤلف احمد قائد الشعيبي.
– صحيح البخاري.
– السيرة النبوية لابن هشام.
– الطبقات الكبرى لابن سعد.
– الوثائق السياسية لمحمد حميد الله.