السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
.
تفضلي طلبج
علم التاريخ وأهميته للفقيه وطالب العلم
(التاريخ) من الكلمات التي تشيع عند العامة والخاصة على السواء، ولعل كثيرًا منا يفهمها فهمًا يختلف عن الآخرين، وكذلك فلعل المعنى المفهوم من هذه الكلمة يختلف باختلاف ثقافات الناس، فالمفهوم من هذه الكلمة عند العرب قد يختلف عن مفهومها عند الأعاجم، والمفهوم منها عند المعاصرين قد يختلف عن مفهومها عند القدماء.
ولعل الكثير منا -إن لم يكن كلنا- لا يجادل في أهمية التاريخ وفائدته العظمى للباحثين ولطلبة العلماء وللعلماء، وأيضًا للعامة أو المثقفين منهم.
ولذلك تجد في كلام أهل العلم كثيرًا من المدائح المنظومة والمنثورة للتاريخ علمًا وفنًّا؛ قال ابن سينا في كتاب السياسة:
((إن أنفع الأمور التي يسلكها المرءُ في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم؛ ما شهدها وما غاب عنها مما سمعه وتناهى إليه منها، وأن يمعن النظر فيها، ويميز بين محاسنها ومساوئها، وبين النافع والضار لهم منها، ثم ليجتهد في التمسك بمحاسنها؛ لينال من منافعها مثل ما نالوا، وفي التحرز والاجتناب من مساوئها؛ ليأمن من مضارها ويسلم من غوائلها مثل ما سلموا)).
والتاريخ -بأي معنى من معانيه- مرتبط بالزمن، فالمقصود من التاريخ في جميع معانيه بيانُ شيء متعلق بالماضي، وكلمة الماضي هنا معناها كل ما سبق اللحظة الحالية.
فإذا كنت تتكلم عن راو من رواة الحديث؛ من حيث ذكر أخباره أو رواياته أو شيوخه أو تلاميذه أو بيان جرحه وتعديله، فهذا ينتمي للتاريخ، وهذا هو المعنى الخاص عند كثير من المحدثين، ولذلك يعبرون عن الكلام في الرواة بـ(التاريخ)؛ كالتاريخ الكبير للبخاري، وكتب تواريخ البلدان المعروفة.
وقد يكون الكلام عن أمة من الأمم، فيكون معنى التاريخ هنا أعم من المعنى السابق، مثلما تجد التأريخ للرومان والهند والبربر، وكذلك التاريخ لدول الإسلام المعروفة.
وقد يكون الكلام عن حقبة من الحقب وزمن معين، فيكون معنى التاريخ هنا أعمَّ من المعنى السابق من وجه وأخصَّ من وجه، فهو أخص من حيث إنه يحدد زمنًا معينًا، وأعم من حيث إنه لا يخص أمة دون أمة، وهذا تجده فيما يذكرون من كتب تاريخ القرون الوسطى، أو تاريخ العصور القديمة، أو نحو ذلك.
والنوعان السابقان يحتملان نوعين من التأريخ، وهما التأريخ العام والتأريخ الخاص.
فالتأريخ الخاص بذكر أخبار خاصة عن هذه الدول أو هذه الحقب، كذكر من تولى الإمارة أو الخلافة أو الملك، وذكر من جيّش الجيوش، وأخبار الحرب والسلم وغير ذلك من الأخبار الخاصة المنقولة نقلا ليس للرأي ولا للفكر فيه مدخل.
والتأريخ العام بأن يستقري المؤرخُ أخبارَ هذه الدول أو العصور ويستخرج منها المعاني العامة والقواعد الكلية التي تعطي للقارئ صورةً إجمالية عن هذه العصور، كأن يقول مثلا: (انتشرت المكتبات ودور العلم، وكثرت المدارس، وتفرغ كثيرون للتدريس، وشاع السلم، وانصرف الناس عن التفكير في الحرب)، فهذا الكلام ليس نقلا عن شيء بعينه، ولكنه بيان للأحوال العامة بناء على الاستقراء.
ويتبع هذا النوعَ نوعٌ آخر أعم منه، وهو استقراء السنن الربانية والنواميس الكونية في أحداث التاريخ:
كأن يقول المؤرخ مثلا: (متى انتشر الفساد في بلد فلا بد أن يزول).
أو أن يقول: (إذا انصرف الحاكم عن مراعاة مصلحة الرعية فلا بد أن يخلع).
أو أن يقول: (استقرار الأمان بداخل الدولة لا يمكن أن يتم بغير جيش قوي).
فكل هذه القواعد لا تعبر عن أحداث معينة في التاريخ، ولا تعبر أيضا عن تشابه لحادثة متكررة، وإنما هو تعميم مجرد يستنبطه المؤرخ من استقراء الحوادث في أزمنة مختلفة وفي دول مختلفة، فإذا وجد الأمر مستمرًّا لا يتخلف أطلق ذلك.
وهذا الاستقراء لا يستطيعه آحادُ الناس، وكذلك لا يستطيعه الخاصة إلا بعد زمن طويل من النظر والتأمل والاطلاع والبحث والتفتيش والتتبع لحوادث الخاصة والعامة في مختلف الدول، ومستمر النوازل والحقب.
ولا شك أن كثيرًا من الناس في حاجة إلى معرفة هذه القواعد والأصول، ومن أشد الناس احتياجًا لها الملوك والوزراء ومن شابههم، وهؤلاء كثيرًا ما يرثون الملك وراثة أو بحظ طارئ فلا يكون عندهم هذه الخبرة.
ولهذا السبب كثرت حاجة القدماء لوضع الكتب التي ترشد الملوك والوزراء لأمثال هذه الأمور، ومن أقدم هذه الكتب كتاب السياسة لأرسطو، وكتاب كليلة ودمنة لبيدبا الفيلسوف، ومن كتب العصور الوسطى كتاب الأمير لمكيافيلي.
ومن الكتب المهمة أيضًا في هذا الباب مقدمة ابن خلدون، وكتاب السياسة للوزير المغربي، وكتاب الشهب اللامعة للمالقي، وغيرها.
وكذلك كتب الأحكام السلطانية، والإمامة والسياسة، والتراتيب الإدارية، والسياسة الشرعية، وتخريج الدلالات السمعية
ومع أنك تجد كثيرًا من الناس يبينون أهمية التاريخ، عمومًا، وفي بعض المعاني السابقة خصوصًا، إلا أنك لا تكاد تجد أحدًا يبين أهمية التاريخ لطلبة العلم، خصوصًا من يقتصرون على فن معين كالفقه أو التفسير أو اللغة أو نحو ذلك.
والحقيقة أن الأمر يفوق مجرد المعرفة والثقافة العامة، ولا يقتصر على كونه من ملح العلم التي تروّح عن طالب العلم إذا ضاق صدرُه بالدرس، أو تعبت نفسُه من ثقل العبارات العلمية المركزة.
فالذي أراه أن علم التاريخ مهم جدا لطالب العلم، بل أهميته لا تقل عن أهمية أصول هذه العلوم التي يدرسها، والإخلال بمعرفة هذا العلم كثيرًا ما يوقعُ طالبَ العلم في إشكالات، تجعله يصدر أقوالا عجيبة لا يمكن أن تصدر عنه إن كان له أدنى اطلاع ومعرفة بهذا العلم.
وقد حكوا عن بعض السلف أن شيخه عاتبه على ترك درس الفقه وحضور درس المغازي، فقال له: لو لم تكف عن العتاب وإلا سألتك على رءوس الأشهاد: أيما كان قبلُ بدر أو أحد، فإنك لا تعلم!!
ولسائل أن يسأل: وما الفائدة لطالب الفقه من معرفة أيما قبل بدر أو أحد؟!
والجواب أن الفائدة عظيمة جدا، ومتنوعة، وهذه بعض أمثلتها:
أولا: إذا عرفت أن فلانا من الصحابة مات في أحد وفلانا مات في بدر استطعت أن تعرف المتقدم والمتأخر منهما، فيفيدك ذلك في معرفة المرويات والترجيح بينها.
ثانيا: إذا عرفت أن لأهل بدر من الفضائل ما ليس لأهل أحد استطعت أن تعرف مراتب الصحابة في الفضل.
ثالثا: إذا عرفت أن هذه الآية نزلت في بدر وأن هذه الآية نزلت في أحد استطعت أن تعرف الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر في ترتيب نزول القرآن.
رابعا: إذا عرفت أن هذا الحديث قيل قبل بدر، وأن هذا الحديث قيل بعد أحد استطعت أن تعرف الراجح والمرجوح والناسخ والمنسوخ.
والمتأمل يستطيع أن يجد فوائد كثيرة غير ذلك.
ولسائل أن يسأل: هذه الفائدة التي تقولها هي لعلم السيرة خاصة، فما سبب تعميم الكلام في التاريخ جملة؟!
والجواب: أن الجهل بالتاريخ يجعل كثيرًا من الناس يصدقون من الحوادث ما لا يمكن أن يقع، ويكذبون من الحوادث ما هو ممكن الوقوع بل شائع الوقوع، ولا شك أن الإمكان وعدمه مما لا بد منه عند المنتسبين للفقه، ولا سيما القضاء.
وكذلك فالعلماء كثيرا ما يطلقون أمثال هذه العبارات:
♦ هذا ممتنع في العادة.
♦ ذاك كثير في العادة.
♦ هذا يرجع إلى العرف.
♦ ذاك لا يعرف في الشاهد.
♦ هذا من العلوم الضرورية عند الناس.
♦ هذا من بدائه العقول.
♦ هذا مما اتفق عليه العقلاء.
وهذه الكلمات وأمثالها يذكرها أهل العلم في الاحتجاج على مسائل عظيمة في أصول الدين وفروعه، فضلا عن الاحتجاج بها في مسائل خلافية، فإذا كان الباحث أو طالب العلم لا يعرف عادات الناس ولا تاريخهم ولا أخبارهم ولا حوادثهم، فكيف يحكم على أن هذا ممتنع؟ وكيف يقطع بأن هذا لا يعرف في الشاهد؟ وكيف يجزم بأن هذا من العلوم الضرورية؟ وكيف يحكي اتفاق العقلاء، وهو لم يعرف شيئا من أخبارهم أصلا؟!!
ولذلك تجد كثيرًا من الطوائف يتتابعون على القطع بإثبات ما يُعلم ضرورةً عند أهل العلم أنه مقطوع ببطلانه!!
بل تجد بعض العلماء يحكون إجماع العقلاء على ما أجمع العقلاءُ على خلافه، أو على الأقل قال أكثرهم بخلافه!!
والاقتصار في الاطلاع على أحوال طائفة معينة قد يجعل الباحث أو العالم يظن أن القول الخارج عن أقوال هذه الطائفة لا يقوله عاقل، بل لعله لا يخطر بباله أصلا أن القول بهذا القول متصور الوقوع!!
ولذلك تجد عند كثير من الناس من الأقوال الباطلة ما الله به عليم؛ كالباطنية، والسمنية، والشيعة الرافضة، وغلاة الفلاسفة، وغلاة الجهمية، والحلولية، وبعض فرق النصارى، والمسفسطة ومنكري العلوم، وأهل تكافؤ الأدلة، وغير ذلك مما لا يكاد يصدقه العاقل إلا إذا اطلع عليه.
والاطلاع على تواريخ الأمم وأحوالها في الأزمنة المختلفة، ومعرفة أقوال الطوائف قديمًا وحديثًا هو العلاج الناجع في معرفة بطلان هذه الأقوال، وهذا مع أنه عجيب إلا أنه حق؛ لأنه قد يدخل في باب (وداوِنِي بالتي كانت هي الداء)، أو لعله من باب (عرفت الشر لا للشر)، ولكنه مع ذلك يجب أن يكون بحذر؛ حتى لا تقع فيما وقع فيه ابن أبي الحديد وأمثاله إذ قال:
وأسائل الأمم التي اختلفت ……….. في الدين حتى عابدي الوثن
فإذا الذي استكثرت منه هو الـ ……. ـجاني علي عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم ………. وغرقت في بحر بلا سفن
إن كثرة المطالعة لأخبار حقبة من الحقب، تورث -مع العقل السليم- علمًا إجماليًّا بأحوال هذه الحقبة، فيستطيع العاقلُ المميز أن يتبين بعد ذلك -إن ورد عليه خبر لا يعرفه- هل هذا الخبر ممكن الوقوع أو غير ممكن؟
وهل هو يتعارض مع ما عُرف بالضرورة من أحوال هذا العصر أو لا؟
وهل هو بعيد الوقوع أو راجح الوقوع؟
وقد أشار إلى ذلك ابن دريد في المقصورة بقوله:
من قاس ما لم يره بما رأى ……….. أراه ما يدنو إليه ما نأى
وهذا مفيد جدًّا لطالب العلم، بل هو يغنيه عن كثير من البحث والتنقيب الذي قد يرجع منه بخفي حنين قائلا: لم أقف عليه.
وإليك مثالين على هذا الباب، حتى تتبين عظم أهمية هذه المسألة:
المثال الأول:
إذا قرأت مقالا فيه أمثالُ هذه العبارات: (الحرب الباردة.. الدولتان العظميان.. العولمة.. الشرق الأوسط.. دول العالم الثالث.. إلخ) فإنك تقطع بأن هذا المقال وليد العصر الحديث، ولا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى القرن الخامس الهجري مثلا، فضلا عن أن ينتمي إلى عصر الصحابة والتابعين، فضلا عن أن ينتمي إلى العصر الجاهلي!!
وهذا مثال واضح، ولكن إذا تعمقت في البحث وأكثرت من المطالعة، وأمعنت في التنقيب، فإنك تستطيعُ -مع إدمان الممارسة- أن تحصّل ملكةً تقدر بها أن ترجع بكل نص إلى عصره الذي قيل فيه، وأحيانًا تستطيع بهذه الملكة أن ترجع كل نص إلى العالم الذي قاله!
والفائدة هنا ليست في معرفة ذلك على وجه التحديد، بقدر ما تكون في نفي نسبة قول لقائل بعينه، كما عرفنا بطلان نسبة قول معين لأحد التابعين ذكر فيه الرافضة؛ لأن اصطلاح (الرافضة) لم يكن قد عُرف أصلا في هذا الوقت!!
وإخالُك لو لم تعرف هذه المسألة تقول: ما الفائدة المرجوة في معرفة (متى ظهر اصطلاح الرافضة)!!
المثال الثاني:
ذهب بعضُ المتأخرين إلى جواز الزيادة على أربع في النكاح، وبنى كلامه هذا على أن آية ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3] ليس فيها نهي عن الزيادة، وحديث (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) ضعيف، وليس في الباب إجماع يثبت!
ولا أريد هنا مناقشة المسألة فقهيًّا، ولكن أشير فقط إشارة تاريخية لو استحضرها هذا القائل لغير قوله فيما أحسب؛ وبيان ذلك أن نقول:
يَفترض هذا القائلُ أن الزيادة على أربع جائزة شرعًا، ولا شك أن الزيادة على أربع لو كانت جائزة شرعًا لكان ذلك معروفًا عند بعض الصحابة على الأقل، وعند بعض التابعين على الأقل، وعند بعض أتباع التابعين على الأقل، وهكذا إلى عصرنا هذا؛ لأن هذه المسألة مما تتشوف بعضُ النفوس إليها؛ لأن العرف والعادة المطردة التي لا تتخلف أن كثيرًًا من الأمراء والملوك والوزراء والوجهاء والكبراء يحبون النكاح والاستمتاع بالنساء، وقد وجدنا كثيرًا منهم على مر التاريخ يرتكب أكبر الفواحش وأعظم الآثام وأقصى المظالم في سبيل شهواته وملذاته، فلو كان مثل هذا الأمر جائزًا لما تخلف بعضُهم على الأقل عن فعله، ولو فعله بعضهم لما تخلف الناس عن نقله؛ لأن الناس مولعون بنقل الغريب والعجيب.
فهذه المقدمة عند التأمل والتدبر والبحث مما يبين للناظر أنه من المحال أن تكون الزيادة على أربع جائزة شرعًا مع هذه الأمور المناقضة لها؛ لأن النقيضين لا يجتمعان.
ولا بد لطالب العلم كذلك من معرفة متوازنة بأحوال العصور المختلفة؛ فلا ينبغي أن يكون واسعَ المعرفة بأحوال قرن من القرون معدومَ المعرفة بقرن آخر؛ لأن هذا أيضًا قد يؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة مبنية على قصور النظر وضيق الأفق، وأيضًا لأن التفاوت بين أحوال العصور المتوالية لا يمكن أن يصير شاسعًا بين ليلة وضحاها، فإذا خفي على طالب العلم أن عصر الصحابة مثلا أقربُ القرون إلى أحوال عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بعيد عن ضبط هذا الباب، وكذلك ينبغي أن يعرف أن عهد التابعين أقرب العهود إلى قرن الصحابة وهكذا.
وهذه القاعدة تنفع طالبَ العلم في كثير من المسائل؛ منها أن يرُدّ على من يزعم أن التابعين أجمعوا في مسألة على خلاف ما أجمع عليه الصحابة مثلا؛ أو أن التابعين جميعًا أخطئوا في فهم مراد أحد الصحابة، أو أن علماء القرن الرابع جميعًا ابتدعوا بدعة لم يعرفها من قبلهم دون أن ينكرها عليهم أحد من عصرهم، فكل هذه الأمور ممتنعة في العادة وإن كان امتناعُ بعضها أشد من بعض، ولا يُعرف ذلك إلا بمعرفة أحوال هذه العصور، وكذلك يُعرف التفاوت بين درجات هذه الأمور بالعلم الواسع بأحوال كل عصر، وهذا ما تميز فيه النوابغُ من علمائنا الأوائل والأواخر، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما قال: أعرف كل بدعة في الإسلام وأول من ابتدعها.
والله أعلى وأعلم، وبه الهداية ومنه التوفيق.
.
.
م