تقرير التفسير بالرأي ..مفهومه.. حكمه.. أنواعه
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
مفهوم الرأي: الرأي: مصدر رأى رأياً. مهموز، ويُجمع على آراء وأرءاءٍ.
والرأي: التفكّرُ في مبادئ الأمور،ونظر عواقبها،وعلم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب(1).
والتفسير بالرأي: أن يُعْمِلَ المفسر عقله في فَهْمِ القرآن، والاستنباط منه، مستخدمــــاً آلات الاجتهاد. ويَرِدُ للرأي مصطلحاتٌ مرادفةٌ في التفسير، وهي: التفسير العقلي، والتـفـسـيـر الاجتهادي. ومصدر الرأيِ: العقلُ، ولذا جُعِلَ التفسيرُ العقليُ مرادفاً للتفسير بالرأي.
والـقـول بالـــــرأي: اجتهادٌ من القائل به، ولذا جُعِلَ التفسيرُ بالاجتهادِ مرادفاً للتفسير بالرأي.
ونتيجة الرأي: اسـتـنـبــــاط حكم أو فائدةٍ، ولذا فإن استنباطات المفسرين من قَبِيلِ القول بالرأي.
أَنْوَاعُ الرّأي، وموقف السـلـف مـنـهـــــا: يحمل مصطلح (الرأي) حساسية خاصة، تجعل بعضهم يقف منه موقف المتردِّد؛ ذلك أنه ورد عن السلف، آثارٌ في ذمِّه.
بَيْدَ أنّ المستقرئ ما ورد عنهم في هذا الـبـــاب (أي: الرأي) يجد إعمالاً منهم للرأي، فما موقف السلف في ذلك؟
لنعرض بعض أقوالهم في ذلك، ثمّ نتبيّن موقفهم منه.
أقوالٌ في ذمِّ الرأي:
1- ورد عـــــن فـــاروق الأمة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قوله: (اتقوا الرأي في دينكم)(2).
وقال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا برأيهم، فضلّوا وأضلوا)(3).
2- وورد عن الحـســن البصري (ت: 110) قوله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم)(4).
أقوالٌ في إعمالِ الرأي:
ورد عن عمر بن الخطـــاب والحسن البصري – اللذين نقلت قولاً لهما بذمِّ الرأي ما يدلّ على إجازتهما إعمال الرأي، وهذه الأقوال:
1- أما ما ورد عن عمر فقـولـــه لشريح – لما بعثه على قضاء الكوفة: (انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحـــــداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله، فاتبع فيه سنة رسول الله لله، وما لم يتبيّن لك فيه سنة، فاجتهد رأيك)(5).
2- أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟
فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولـكـــــنّ رَاًيـَـنــــــا لهم خيرٌ من رأيهم لأنفسهم)(6).
هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:
* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.
* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.
وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت: 463هـ) – لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة: الحسن وابن سيرين، وقد جــــــــاء – عنهما وعن الشعبي – ذمّ القياس، ومعناه عندنا قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم)(7). والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.
العلوم التي يدخلها الرأي:
يدخـــــل الـرأي فـي كـثـير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.
أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة). ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع)، وهم الذين قالوا برأيهم في ذات الله – سبحانه.
وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه: (قياساً)، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.
وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً)، ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي).
وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو مذموماً.
حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:
سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً – وإن كان يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام – وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم، ورأي محمود.
أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:
ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله – تعالى – وسنة نبيِّه لله، كما ورد نهي السلف عنه.
وحَدّ الرأي المذموم: أن يـكون قولاً بغير عـلمٍ وهـو نوعـان: علم فاسد ينشأ عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهـل، ويكون منشؤه الجهـل أو الهوى.
وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.
أمّا من كتاب الله فما يلي:
1- قوله – تعالى: ((قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33].
2- وقوله – تعالى: ((وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 168، 169].
3- وقوله – تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولاً)) [الإسراء: 36].
في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله بغير علم.
وأما في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم :
فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله – عز وجل – لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف القياس)(8).
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
1- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – والحسن البصري – رحمه الله – من نهيهما عن الرأي.
2- عن مسروق (ت: 63هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله يضلّ)(9).
3- وقال الزهري (ت: 124هـ): (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها)(10).
وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: 33هـ) من الصحابة، وابن سيرين (ت: 110هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: 104هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم(11).
صور الرأي المذموم:
ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛ لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:
1- القياس على غير أصل(12).
2- قياس الفروع على الفروع(13).
3- الاشتغال بالمعضلات(14).
4- الحكم على ما لم يقع من النّوازل(15).
5- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه(16).
6- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل(17).
7- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن(18).
هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور أخرى تخصّ التفسير.
ثانياً: الرأي المحمود:
هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ(19)، وما كان كذلك فإنه خارج عن معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.
ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:
1- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم يجوز.
2- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:
أ – عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك، فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله – ولم يَقُلْهُ نبيّه – فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به الصالحون – وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه – فليجتهد رأيه، ولا يقول: أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم)(20).
قال ابن عبد البر (ت: 463هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره)(21).
ب – وعن الشعبي (ت: 104هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك)(22).
ج – وعن مسروق (ت: 63هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال: أكان هذا؟
قلت: لا.
قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك رأينا)(23).
الرّأيُ فِي التّفْسِير:
اعلم أن ما سبق كان مقدمة للدخول في الموضوع الأساس، وهو التفسيـر بالـرأي، وكان لا بدّ لهذا البحث من هذا المدخل، وإن كان الموضوع متشابكاً يصعب تفكيك بعضه عن بعض، ولذا سأحرص على عدم تكرار ما سبق، وسأكتفي بالإحالة عليه، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وسأطرح في هذا ثلاثة موضوعات:
الأول: موقف السلف من القول في التفسير.
الثاني: أنواع الرأي في التفسير.
الثالث: التفسير بين المأثور والرأي.
وسيتخلّل هذه الموضوعات مسائل عِدّة؛ كشروط القول بالرأي، وأدلة جواز الرأي في التفسير، وصور الرأي المذموم…. إلخ، وإليك الآن تفصيل هذه الموضوعات:
أولاً: موقف السلف من القول في التفسير:
التفسير: بيان لمراد الله – سبحانه – بكلامه، ولما كان كذلك، فإن المتصدي للتفسير عرضة لأن يقول: معنى قول الله كذا.
ثم قد يكون الأمر بخلاف ما قال. ولذا قال مسروق بن الأجدع (ت: 63هـ): (اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله – عز وجل).
وقد اتخذ هذا العلم طابعاً خاصاً من حيث توقِّي بعض السلف وتحرجهم من القول في التفسير، حتى كان بعضهم إذا سئل عن الحلال والحرام أفتى، فإذا سئل عن آية من كتاب الله سكت كأن لم يسمع.
ومن هنا يمكن القول: إن السلف – من حيث التصدي للتفسير – فريقان: فريق تكلّم في التفسير واجتهد فيه رأيه، وفريق تورّع فقلّ أو نَدُرَ عنه القول في التفسير.
وممن تكلم في التفسير ونُقِلَ رأيه فيه عمر بن الخطاب (ت: 23هـ) وعلي بن أبي طالب (ت:40هـ) وابن مسعود (ت: 33هـ) وابن عباس (ت: 67هـ) وغيرهم من الصحابة.
ومن التابعين وأتباعهم: مجاهد بن جبر (ت: 103هـ) وسعيد بن جبير (ت: 95هـ) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 107هـ) والحسن البصري (ت: 110هـ) وقتادة (ت: 117هـ) وأبو العالية (ت: 93هـ) وزيد بن أسلم (ت: 136هـ) وإبراهيم النخعي (ت: 96هـ) ومحمد ابن كعب القرظي (ت: 117هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) وعبد الملك بن جريج (ت: 150هـ) ومقاتل بن سليمان (ت: 150هـ) ومقاتل بن حيان (ت: 150هـ) وإسماعيل السدي (ت: 127هـ) والضحاك بن مزاحم (ت: 105هـ) ويحيى بن سلام (ت: 200هـ)، وغيرهم.
وأما من تورّع في التفسير فجمعٌ من التابعين (24) من أهل المدينة والكوفة.
أما أهل المدينة، فقال عنهم عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع(25).
وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام – وكان أعلم الناس – فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع)(26).
وقال هشام بن عروة بن الزبير: (ما سمعت أبي يتأوّل آية من كتاب الله قطّ)(27).
وأمّا أهل الكوفة فقد أسند إبراهيم النخعي إليهم قَولَه: (كان أصحابنا – يعني: علماء الكوفة – يتّقون التفسير ويهابونه)(28).
هذا.. ولقد سلك مسلك الحذر وبالغ فيه إمام اللغة الأصمعي (ت: 215هـ)، حيث نقل عنه أنه كان يتوقّى تبيين معنى لفظة وردت في القرآن(29).
فما ورد عن هؤلاء الكرام من التوقي في التفسير إنما كان تورّعاً منهم، وخشية ألاّ يصيبوا في القول.
ثانياً: أنواع الرأي في التفسير:
الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم.
النوع الأول: الرأي المحمود.
إنما يحمد الرأي إذا كان مستنداً إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ. ويمكن استنباط أدلةٍ تدلّ على جواز القول بالرأي المحمود.
ومن هذه الأدلّة ما يلي:
1- الآيات الآمرة بالتدبّر:
وردت عدّة آيات تحثّ على التدبّر؛ كقوله – تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد: 24]، وقوله: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص: 29]. وغيرها من الآيات.
وفي حثِّ الله على التدبر ما يدلّ على أن علينا معرفة تأويل ما لم يُحجب عنا تأويله؛ لأنه محالٌ أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له: اعتبر بما لا فهم لك به(30).
والتدبّر: التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبِّر تدبّراً انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر(31).
والتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبـر من أجل فهـم معاني الخطـاب القرآني ومراداتـه، ولا شك أن ما يظهر له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيه الذي وصل إليه.
2- إقرارُ الرسول – اجتهادَ الصحابة في التفسير: لا يبعد أن يقال: إن تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك وقائع يمكن استنباط هذه المسألة منها، ومن هذه الوقائع ما يلي:
أ – قال عمرو بن العاص: – بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام ذات السّلاسِلِ، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثمّ صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟
قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أَهْلَكَ، وذكرتُ قول الله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] فتيمّمْتُ، ثم صليت، فضحك – ولم يقل شيئاً)(32).
في هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاجتهاد والرأي.
ب – وفي حديث ابن مسعود، لما نزلت آية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] قلنا يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13])(33)، ترى أن الصحابة فهموا الآية على العموم، وما كان ذلك إلا رأياً واجتهاداً منهم في الفهم، فلما استشكلوا ذلك سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم إلى المعنى المراد، ولم ينههم عن تفهّم القرآن والقول فيه بما فهموه. كما يدل على أنهم إذا لم يستشكلوا شيئاً لم يحتاجوا إلى سؤال الرسول. والله أعلم.
3- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل) وفي إحدى روايات البخاري: (اللهم علمه الكتاب)(34).
والتأويل: التفسير، ولو كان المراد المسموع من التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيره(35)، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن(36)، وهذا الفهم إنما هو رأيٌ لصاحبه.
4- عمل الصـحــابة: مما يدل على أن الصحابة قالوا بالرأي وعملوا به ما ورد عنهم من اختلافٍ في تفسير القرآن؛ إذ لو كان التفسير مسموعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقع بينهم هذا الاختلاف.
ومما ورد عنهم نـصــــاً في ذلك قولُ صدِّيق الأمة أبي بكر – رضي الله عنه – لما سئل عن الكلالة، قال: (أقول فـيـهــــــا برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان)(37).
وكذا ما ورد عن علي – رضي الله عـنـه – لما سئل: هل عندكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ سوى القرآن؟ قـال: (لا، والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إلا أن يُعطِي الله عبداً فهماً في كتابه)(38).
والفهم إما هو رأي يتولّد للمرء عند تفهّم القرآن؛ ولذا يختلف في معنى الآية فهم فلان عن غيره.
الهوامش :
(1) الغيث المسجم في شرح لامية العجم للصفدي، 1/63.
(2) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، 190، وانظر، ص 192، الأثر رقم 217.
(3) المدخل إلى السنن الكبرى، 191، وانظر قولاً لمسروق في جامع بيان العلم، 2/168، وقولاً للزهري، 2/169.
(4) المدخل إلى السنن الكبرى، 196. معهد الامارات التعليمي uae.ii5ii.com
(5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/71، وانظر، ص 74.
(6) جامع بيان العلم، 2/75.
(7) جامع بيان العلم، 2/77، وانظر كلام ابن بطال في هذا الموضوع في فتح الباري، 13/301.
(8) انظر الحديث في فتح الباري، (13/295).
(9) جامع بيان العلم، 2/168.
(10) جامع بيان العلم 2/169.
(11) انظر: جامع بيان العلم، 2/77، وفتح الباري، 13/310.
(12) جامع بيان العلم، 2/70، 71، 77.
(13، 14، 15) جامع بيان العلم، 2/170.
(16) الاعتصام للشاطبي، 1/104.
(17) فتح الباري، 13/303.
(18) جامع بيان العلم، 2/169.
(19) العلم يقابل الجهل المذكور في حدِّ الرأي المذموم، أما الهوى، فيقابله الورع؛ لأنّ الوَرَعَ يقي صاحبه من مخالفة الحقِّ.
(20) جامع بيان العلم، 2/70 ـ 71.
(21، 22) جامع بيان العلم، 2/71.
(23) جامع بيان العلم، 2/72، وانظر غيرها من الآثار، ص 69 ـ 79.
(24) لم أجد نقلاً عن أحد من الصحابة يدل على أن مذهبه كهذا المذهب الذي برز عند التابعين.
(25) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/85.
(26) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/86.
(27، 28) فضائل القرآن لأبي عبيد، 229.
(29) انظر في ذلك: الكامل للمبرد (تحقيق: الدالي) 2/928، 4135، تهذيب اللغة 1/14، إعجـاز القـرآن للخطابـي (تحقـيق: عبد الله الصديق) 42.
(30) انظر: تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/82 ـ 83.
(31) التحرير والتنوير، 23/252.
(32) مسند الإمام أحمد، 4/203، 204، وأبو داود برقم 335، وانظر تفسير ابن كثير، 2/480، والدر المنثور، 2/497.
(33) أخرجه البخاري في أكثر من موضع، كتاب الإيمان ح/32، أحاديث الأنبياء/3360، 3428.
(34) انظر: فتح الباري، 1/204، وانظر شرح ابن حجر، 1/204 ـ 205.
(35) انظر: تفسير القرطبي، 1/33، وجامع الأصول، 2/4.
(36) انظر: فتح الباري، 1/205.
(37) انظر قوله في تفسير الطبري، (ط شاكر)، 8/53، 54.
كما يمكن الاستفادة من الفقرات التالية
التفسير بالرأى : تعريفه "هو الاجتهاد" مناهل العرقان – الزرقاني .. او .. " أصحاب القياس لأنهم يقولون برأيهم فيما لم يجدوا فيه حديثاً أو أثراً" القاموس المحيط – الفيروزآبادي
فمما نرى ان هذا التفسير يعتمد على الاجتهاد والنظر والقياس .. والترجيح بين احتمالات اللفظ وما شابه ذلك .. ولكى يفسر المفسر بجب عليه ان يلتزم بضوابط ومنهج معين .. حتى لا يعتقد احد ان الامر متروك على الغارب لكل من هب ودب .. فاذا التزم المفسر بذلك اعتبر تفسيره وقتها مقبولاً .. أما من لم يلتزم بالاسس والضوابط فمصير كلامه الرفض والذم .. كما قال الشيخ الزرقاني :"فإن كان الاجتهاد موفقاً أي مستنداً إلى ما يجب الاستناد إليه بعيداً عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود وإلا فمذموم" مناهل العرفان .
الضوابط التى على المفسر ان يلتزم بها :
1- البحث عن تفسير الآية في القرآن الكريم أولاً والسنة الصحيحة ثانياً فإن وجده فيهما فلا يعدل إلى رأيه البتة.
2- فإن لم يجد بحث في أقوال الصحابة فإن صحت فلها حكم المرفوع إذا كانت مما لا مجال للرأي فيه – كأسباب النزول – ولها حكم الموقوف على الصحابي فيما عدا ذلك ولكنها أيضاً حجة لقوة احتمال سماعها من الرسول صلى الله عليه وسلم ولوفرة ما تهيأ للصحابة رضوان الله تعالى عليهم من أسباب فهم كتاب الله تعالى كشهود تنزيله وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم إياه وسلامة لغتهم ومعايشة ملابسات الوحي وغير ذلك.
3- مراعاة ما تقتضيه اللغة العربية خصوصاً معاني الألفاظ والتراكيب عند العرب وقت التنزيل، وعدم الخروج عن قواعد اللغة عند التفسير بالرأي.
4- مراعاة ما يقتضيه الشرع وما تدل عليه أصول الشريعة فلا يحكم بمجرد المعنى اللغوي بل يراعي ما يناسب مقاصد وأصول الشريعة، وأن هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس وينهاهم به وليخبرهم عن ربهم جل في علاه، فينبغي مراعاة ذلك.
5- ألا يخوض في ما استأثر الله تعالى بعلمه كالمشتبهات التي ليس إلى تحديد مرادها من سبيل سوى النقل ولا نقل.
6- ألا يقطع بأن ما توصل إليه بالرأي والتدبر والنظر هو مراد الله تعالى.
7- ألا يعتقد رأياً ويحمل آيات القرآن عليه، فلا يجعل هواه حكماً على القرآن بل العكس.
فهذه لمحة موجزة عن التفسير بالرأي، وخلاصة أمره أنه تفسير قائم على الدراية، وهو – في نظري – جزء متمم للنوع الأول من التفسير القائم على الرواية، وباجتماعهما تكتمل حلة التفسير ما بين رواية قائمة على النقل الصحيح ودراية قائمة على تدبر العقل الصريح.
المصدر : الاختلاف في التفسير حقيقته وأسبابه د.وسيم فتح الله
……………………. ……………………. ……………………. ……………….
تفسير القرآن بالرأي
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ، حدثنا مؤمَل، قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الأعلى،عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(88).
حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) وبه إلى الترمذي قال حدثنا عبد بن حميد قال حدثني حبان بن هلال قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي قال: حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب قال:قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن برأية فأصاب فقد أخطأ ))(89) ، قال الترمذي هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم,وهكذا روي عن بعض أهل العلم عن أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم.وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم . وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأية فقد تكلف ما لا علم به، وسلك غير ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، والله أعلم.
الشرح
ولهذا كان من اجتهد فأخطأ فله أجر، كذلك من لم يجتهد ولو أصاب فقد أخطأ إذا كان ما تكلم فيه ليس محلا للاجتهاد.
وتفسير القرآن بالرأي تارة يفسره الإنسان بحسب مذهبه كما يفعله أهل الأهواء . فيقول المراد بكذا وكذا. كذا: وكذا مما ينطبق على مذهبه ، وكذلك هؤلاء المتاخرون الذين فسروا القرآن بما وصلوا إليه من الأمور العلمية الفلكية أو الأرضية والقرآن لا يدل عليها، فإنهم يكونون قد فسروا القرآن بآرائهم ، إذا كان القرآن لا يدل عليها، لا بمقتضى النص ولا بمقتضى اللغة، فهذا هو رأيهم ولا يجوز أن يفسر القرآن بهذا.
وكذلك أيضاً لو لم يكن عند الإنسان فهم للمعنى اللغوي ولا للمعنى الشرعي الذي تفسر به الآية فإنه إذا قال قولا بلا علم، فيكون آثما، كما لو أن أحداً من العامة فسر آية من القرآن الكريم على حسب فهمه من إلي مستند- لا لغوي ولا شرعي-فإنه يكون حراماً عليه ذلك؛ لأن مفسر القرآن يشهد على الله بأنه أراد كذا، وهذا أمر خطير، لأن الله حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) ، فأي إنسان يقول على الله ما لا يعلم في معني كلامه أو في شيء من أحكامه فقد أخطأ خطأ عظيماً.
وهكذا سمي الله تعالى القذفة كاذبين فقال: (َفَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(النور: 13) فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به وتكلف ما لا علم به، والله أعلم.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: (( أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ))(90) وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن ابا بكر الصديق سئل عن قوله: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (عبس:31) ، فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ، إسناده منقطع.
الشرح
فلو أن رجلاً قيل له ما معني قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) قال (َأَبّاً) يعني أب أي: الوالد، فيكون قد فسر القرآن برأيه وجهله؛ لأنه صار يسمع الناس يقولون الأب ويشددون الباء ، وهي ليست مشددة فظن أن قوله تعالي : (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) يعني فاكهة وأبَا يعني وأبا فيكون هذا قال في القرآن برأية.
وكذلك من ينزل القرآن على غير ما أراد الله مثل قول بعضهم إذا سئل عن شيء قال: ( لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(المائدة:101) ، هذا أيضاً من تنزيل القرآن على غير ما أراد الله.
ومنه نعرف خطأ ما نقل مدحاً لامرأة يسمونها المتكلمة بالقرآن.
ذكرها في جواهر الأدب ، امرأة لا تتكلم إلا بالقرآن ، وقيل إنها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيغضب عليها الرحمن، وأظن فعلها هذا زلًة لأنها بهذا تنزل القرآن على غير ما أراد الله.
***
وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد ،عن حميد عن أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فقال: ما الأب؟ فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر!
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن صرب، قال حدثنا بن زيد، عن ثابت ، عن أنس،قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (عبس:31) فقال : ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه؟!
الشرح
في قوله: (( وفي ظهر قميصه أربع رقاع)) الفائدة فيه من حيث مصطلح الحديث أنه أدل على ضبط الرواي، يعني أن الراوي قد ضبط هذه القصة أو هذه القضية بحيث إنه أدل على ضيط الراوى يعنى أن الرلوى قد ضبط هذه القصة أو هذه القضية بحي إنه لم يخف عليه ما في ثوبه من الرقاع، أما الفائدة فيها من حيث السلوك فهو أن نعرف ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من عدم الأثرة، وأنهم يعدون أنفسهم كغيرهم من الناس ، لا يمتازون على أحد، وأن حالهم كحال غيرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حرم على نفسه أن يأكل من الطعام الطيب واقتصر على اقل ما يطعم . كل هذا من أجل ألا يستاثر بشيء على رعيته رضي الله عنه.
ولكن كان ذلك حين كانت الرعية مستقيمة على أمر الله ورعة عما لا يحل لها، ولهذا قيل: قال رجل لعلي بن أبي طالب: ما بال الناس قد خرجوا عليك ولم يخرجوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: كانت الرعية في وقت أبي بكر وعمر مثل على بن أبي طالب، وكانت الرعية في وقتي مثلك.
وكذلك هشام بن عبد الملك أو عبد الملك لما رأى من الناس تذمراً جمع أعيانهم وشرفاءهم وخطب فيهم وقال لهم: أما بعد فإنكم تريدون أن نكون لكم كأبي بكر وعمر، فكونوا لنا كالرجال في عهد أبي بكر وعمر. نكن لكم كأبي بكر وعمر. وجاء في الأثر: كما تكونون يولي عليكم.
* * *
وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف ماهية الاب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) .
الشرح
(وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) هي محل الشاهد فعلم من قوله (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) أنه مما تنبت الأرض، ولا يخفى على أبي بكر وعمر أن الأب نبات من الأرض لكنهما أرادا- رضي الله عنهما- تعيين هذا الأب ما هو؟ وأي شجر هو؟فأشكل عليهم، وقد قيل في تفسيره أن الأب هو نبت يشبه القت عندنا، والظاهر والله أعلم أنه نبت صالح، يعنى بمعنى أنه شامل عام لكل ما يكون نبتاً.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي ملكية أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبي أن يقول فيها، إسناده صحيح.
الشرح
أي أن ابن عباس- رضي الله عنهما- الذي دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يعلمه الله التأويل (91)، يقول لو يسأل عن الآية التي لو سئل عنها بعضكم الآن لأجاب. وهذا يدل على أنه يجب التحري في تفسير كلام الله سبحانه وتعالي.
* * *
وقال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي ملكية قال: سأل رجل ابن عباس عن: ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) (السجدة:5) فقال ابن عباس فما ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4) فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني ، فقال ابن عباس: (( هما يومان ذكرهما الله في كتابه والله أعلم بهما)) فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.
الشرح
قد سبق لنا أن يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة كما في سورة المعارج في قوله تعالى: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في مسلم (92)، في مانع الزكاة أنه يعذب بها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وأما التي في سورة السجدة: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهذا – والله أعلم- في الدنيا؛ لأنه قال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وأما قوله تعالي : ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(الحج: 47) فما دام عند الله، فنحن لا نعلمه ، وهذا اليوم الله أعلم به.
* * *
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن فقال: أحرج عليك إن كنت مسلما لما قمت عني، أو قال: أن تجالسني.
الشرح
وهذا محمول على الورع وعدم المضى في التكلم في معني كلام الله عز وجل ، وإلا فليس المعني إذا جاء رجل فسأل عن معني آية تقول له: لا تجلس عندنا ، أو قم، أو ما أشبه ذلك . ولمن بناء على شدة تحريهم وتحرجهم كانوا يقولون مثل هذا.
وقال مالك عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب : إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئاً.
وقال الليث عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب: إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة.
وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم ابن عبد الله ، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب ، ونافع .
وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط.
وقال : أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن ، فـاتق الله وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه، قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله.
وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم قال: أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه.
***
ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا يعلم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالي: ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: من187)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (93).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالي ذكره. والله سبحانه وتعالي أعلم.
الشرح
إذاً هذه أربعة أقسام: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وهو ما يعرف في اللغة مثل: الكهف والعرش والسرر ومنضودة والطلح وما أشبه ذلك، والثاني تفسير لا يعذر أحد بجهالته وهو تفسير ما يجب اعتقاده أو العمل به، كتفسير قوله تعالي: ( أَقِيمُوا الصَّلاة) فيجب علينا أن نعرف معنى إقامة الصلاة التي أمرنا بها. وكذلك ما يجب علينا اعتقاده كالإيمان بالرسل ونحوهم ، فإنه لا يعذر أحد بجهالته ، والثالث تفسير يعلمه العلماء مثل العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وما يتعلق بذلك من الأحكام ، فإن هذا ليس كل أحد يعرفه، وليس واجباً على كل أحد بل هو فرض كفاية، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعي علمه فهو كاذب، كما جاء في بعض ألفاظ الأثر مثل العلم بحقائق صفات الله عز وجل وكيفيتها، وكذلك العلم بحقائق ما أخبر الله به عن اليوم الآخر وعن الجنة والنار وما أشبه ذلك مما لا يمكننا إدراكه ، فهذا من ادعى علمه فإنه كاذب، لأنه لا يعلمه إلا الله.
* * *
(88) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، (2950).
(89) رواه أبو داود، كتاب العلم باب الكلام في كتاب الله بغير علم، رقم (3652) ، والترمذي، كتاب تفسير القرآن باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، (2952).
(90) رواه ابن أبي شيبة (6/136).
(91) سبق تخريجه
(92) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (987)
(93) رواه أبو داود، كتاب العلم باب كراهية منع العلم، (3658)، والترمذي ،كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم، (2649)، وابن ماجه في المقدمة، (261).
……………………. ……………………. ……………………. ……………
. التفسير بالرأي :وهو التفسير بالاستنباط والاجتهاد.
"والرأي في الأصل مصدر "رأى الشيء يراه رأياً" ثم غلب استعماله على المرئي نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى، ثم استعمل في الشيء الذي يُهوى؛ فيقال: هذا هَوَى فلان، والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا لا يعلم بالقلب ولا يرى بالعين رأياً، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فِكْرٍ وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات؛ فلا يقال لمن رأى بقلبه أمراً غائباً عنه مما يحس به إنه رأيه، ولا يقال أيضاً للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض في الأمارات إنه رأى، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها " .
* ويقسم أهل العلم الرأي إلى قسمين:
أ. الرأي المحمود:
وهو ما كان مبناه على علم أو غلبة ظن، بحيث إنه يجري على موافقة معهود العرب في لسانها وأساليبها في الخطاب، مع مراعاة الكتاب والسنة وما أثر عن السلف. فالمفسر هنا من يبذل جهده ووسعه في فهم النص القرآني، وأصول الشريعة في الفهم والاستنباط، مع الاطلاع على المأثور في تفسير الآية.
وقد قال أبو بكر : "إني قد رايت في الكلالة رأياً، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء".
وقال ابن المبارك: "ليكن الذي تعتمد عليه هذا الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث".
وسلوك هذا السبيل جائز لا حرج فيه لمن اجتمعت عنده أدواته، وساق بعضهم أدلة تقرر هذا الحكم يضيق عنها المقام هنا .
ب. الرأي المذموم:
وهو التفسير بالجهل والهوى.
وهذا النوع حرام لا يجوز الإقدام عليه كما قال شيخ الإسلام: "فأما التفسير بمجرد الرأي فحرام".
والأدلة والآثار في تحريمه وذمه كثيرة جداً.
فالمتكلم في هذا النوع متقحم متكلف ما لا علم له به، لم يراع في تفسير القرآن قوانين اللغة ولا نصوص الشريعة وأصول الاستنباط ، قد جعل هواه رائده ومذهبه قائده
وبالتوفيق …