السيرة الغيرية الذاتية
المقدمة :
تبرز السيرة الغيرية ، وفيها يكتب المؤلف ما يعرف عن صاحب السيرة مما خبره وعايشه ، كما فعل "ميخائيل نعيمة" مع "جبران" مما يعدّ فتحا ، أزعم أن الأدب العربي لم يتجاوزه ، وإن جاءت محاولة "عبد الرحمن منيف" في تناوله لـ "عروة الزمان الباهي" ، إضافة نوعية لتلك الخطوة.
الموضوع :
مكن القول بداية بأن تلقي المنجز الإبداعي للكاتب و الروائي ” الطيب صالح ” ، انحصر بالأساس في رائعته ” موسم الهجرة للشمال ” ..هذا الانحصار قاد إلى تشكيل رؤية ضيقة بصدد متنه الإبداعي
باعتبار أن الأعمال الإبداعية اللاحقة لم تنل الحظوة النقدية المستحقة ، و أشير أساسا إلى ” عرس الزين ” ، ” دومة ود حامد ” ، و ” ضو البيت ” ..و هي أعمال تنم عن ذات الكفاءة الإبداعية، و القوة الأدبية التعبيرية ..
على أن المفترض و بخصوص تناول أيها تجربة إبداعية ، و لأي كاتب مهما علا شأنه و مقامه ، يتطلب تشكيل تصور جامع عن آثاره كلية ، بغية تقديم الصورة النقدية التي ترتهن لقراءة نوعية الاستمرارية ، إلى استحضار الحس المقارن بين النصوص المبدعة ، فلا يكفي ـ أصلا ـ الإبداع الواحد المفرد للتقويم و التقييم أمام امتداد الآثار و تناسلها ..
و اللافت أن التجربة الإبداعية ل ” الطيب صالح ” قد عانت قطيعة على مستوى الفعل و الإنتاج ، و هو ما جعل بعض النقاد و الباحثين و الدارسين يستبعدونه من جائزة الرواية العربية ، التي منحت له هذه السنة في مصر ..و الواقع أن المتتبع الحصيف يلاحظ بأن ” الطيب صالح ” كان و لا يزال يحوز قوة المبدع فيه : سردا و كتابة ، وفق ما دلت عليه الكتابات الإبداعية التي نشر بعضها بشكل متقطع
إلى المقالات التي وجدت طريقها إلى إحدى المجلات العربية سابقا..و أرى إلى أن المختارات التي تنشر حاليا ، تعكس هذا الجانب من الاستمرارية و التواصل غير المنقطع..
في هذا السياق يستوقفني نصه الإبداعي ” منسي : إنسان نادر على طريقته ” ، الصادر ضمن لائحة هذه المختارات ..
” منسي ” : قصة ، رواية أم كتابة سردية ؟
لم يحدد ” الطيب صالح ” نوعية الجنس الأدبي الذي تندرج فيه ” منسي “.و هذا يخلق على مستوى التلقي إشكالية التعامل و المكتوب..و الواقع أن هذا الغفل يفسح للتلقي إمكانيات واسعة للقراءة ، كما التأويل ..على أن ” الطيب صالح ” لا يمثل نسيج وحده في هذا السياق ، و إنما نجد كتابات أدبية في باب السيرة الذاتية أصلا ، لا ينصص على كونها كذلك ، و نذكر ما جاء به لويس عوض ، إحسان عباس ، و طه حسين نفسه..
إن التحديد الوارد بخصوص هذه الكتابة يكتفي بالقول : ” منسي : إنسان نادر على طريقته “..
فالاسم العلم منسي لا يحيل في العمق على اسم محدد متداول معروف تمت الكتابة بهدف التوثيق له / عنه ، و إنما الغاية هنا أساسا التعريف بشخصية ربطتها علاقة و المؤلف ” الطيب صالح ” ،مما قد يفيد المتلقي و العكس ، علما بأن القيمة أصلا تتجسد في الصيغة التدوينية لهذا ال ” منسي ” الذي استطاع تشكيل شخصية في الواقع نادرة ، بالإضافة إلى كون الآصرة أو الرابطة تتم و ” الطيب صالح ” الروائي و الكاتب و المالك للقيمة الاعتبارية ..و أرى أن في الكتابة عن هذه الشخصية ، ما يؤهل النص لأن يمثل سيرة غيرية تتخللها عناصر ذاتية من حياة الطيب نفسه ، بحكم العلاقة الوثيقة..
من هنا فالنص يزاوج بين الخيالي و الواقعي ..الخيالي على مستوى استحضار و ترتيب الأحداث ، و
الواقعي انطلاقا من كون ” منسي ” شخصية واقعية تركت أثرها في ” الطيب صالح ” مما دفعه للكتابة عنها ، و التأريخ لمحطات في حياتها ..
إن التعامل مع نص ” منسي ” يجدر أن يندرج ـ كما سلف ـ في باب السيرة الغيرية / الذاتية ..
الغيرية مادام السرد يدور حول شخصية ” منسي ” المجهولة لدينا ..و الذاتية مادمنا ننمي معارف سابقة و نوسعها عن ” الطيب صالح ” ..
وعي الكتابة :
إن ما تفضي إليه إشكالية التجنيس ، قضية الوعي بالكتابة ، ليس من حيث كونها الصيغة الفنية الجمالية ، و إنما حصيلة الأحداث التي تشكل شخصية ” منسي ” محورها ومدارها..فالسيرة الغيرية / الذاتية وفق التجنيس الممنوح سابقا ، لم تتم روايتها من طرف ” منسي ” ل ” الطيب صالح ” ..بمعنى
آخر إن الأحداث المحكية ، المسرودة في هذا التأليف ، عيشت حقيقة دون أن تكون كاملة و شاملة.
و من تم تعد محطات أو فصول من حياة ” منسي ” ، بعيدا عن أن تطول شخصيته بالكامل ..و في هذه الحالة فقد كتبت بناءا على دعوة من زوجة ” منسي “..و كأني بها كتابة انبنت على طلب ، دون أن تحوز خاصة التلقائية التي تفعل على الدوام لما تكون الشخصية اسما علما اعتباريا ..فقد يكون ” الطيب صالح ” غير راغب البثة الكتابة عن هذه الشخصية ، إلا أن الدعوة تفرض الانغمار في الكتابة و التأليف ، بقصد تحويل الشخصية من النسيان ، و قد طواها الموت ، إلى حقل التداول و المعرفة ، و لا يغيب عن بالنا كوننا نتعرف على السواء ـ و كما سلف ـ عن ” الطيب صالح ”
و كأن الذات تتمرأى في الآخر ..
“” طبعا سوف تكتب عن ( منسي ) “” ( ص / 57 )
لعل ما تفرضه السيرة الذاتية الغيرية ، الترتيب الزمني المنطقي للأحداث ، و في هذا السياق يفترض الإلمام بمطلق الأحداث ، إلى التركيز على ما يكتسب قيمة و أهمية تؤهله لأن يندرج / يدرج ضمن السيرة ..لكن موت ” منسي ” حال دون الإحاطة بالأحداث كاملة ، مثلما شكل صعوبة فيما يتعلق بالكتابة و التدوين من طرف غيره..
“” الآن ، ، بعد موته ، لا أدري ..توجد أحداث
لا أعرفها ..و أشياء كان أحسن أن يرويها هو ، بطريقته
سوف أفكر ..لعلني أكتب عنه ، ولكن بعد حين..” ( ص / 57 )
إن إرجاء الكتابة زمنيا ، يتحكم فيه انتفاء الأحداث..و أيضا التفكير في النوعية التي يمكن صياغتها و الإحاطة بها وفاءا لروح ” منسي ” ..
قوة الشخـصية :
إن الشخصية الأساس و الرئيسة في هذا العمل السيري : ” منسي” ( مصري الجنسية ) ..و لقد تحقق بناؤها بناءا دقيقا ، استنادا لحصيلة المعارف الممتلكة عنها..إذ يتضح بأن ندرته وليدة مقدرته على خلق علاقات شخصية في ظروف جد دقيقة ، و من خلال فضاءات مجهولة عير معروفة..هذا التوجه في الحياة و في صناعة المستقبل ، حول الشخصية من لا شيء ، إلى ذات مكانة و قيمة من الصعوبة على أي بلوغها و إدراكها ..و يمكن القول على السواء بأن هذه الشخصية تعاملت مع الزمن بحرقه مرحلة مرحلة ، كي تصل لأن تصبح مادة للحوار و النقاش و التفاعل..
” رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا وشغل مساحة
أكبر مما كان متاحا له ، و أحدث في حدود العالم
الذي تحرك فيه ، ضوضاء عظيمة .” ( ص / 9 )
على أن نواة التحول تجسدت في المستوى الاجتماعي ، حيث ارتبط ” منسي ” أسريا و سلالة
” توماس مور ” ..هذا الارتباط فتح آفاق نحو الارتقاء في العلاقات و الصداقات ، و أيضا أهل لتحصيل مكاسب و حيازة أخرى مما لم يكن يحلم به على الإطلاق..بيد أن ما طبع الشخصية إلى الكتابة عنها ، الحس الساخر ، خاصة و أن من طموحات ” منسي ” ، إن لم يكن توجهه الفعلي ، أن يصبح ممثلا فاعلا ليس في الحياة ، و إنما في الفن أساسا ..
” ..ثم تأكدنا أنه تزوج بالفعل فتاة من أسرة
إنجليزية عريقة تنحدر من سلالة سير توماس
مور ..” ( ص / 17 )
” ..و لكنه كان ممثلا موهوبا في الحياة فقط
أما في ” الفن ” فكان شيئا آخر .” ( ص / 29 )
بيد أن قوة الشخصية ، و مدى أهميتها ، اكتسب انطلاقا من العلاقة التي ربطت ” منسي” ب ” الطيب صالح ” ..و يمكن القول بأن الأول استغل الثاني في جميع المرافق ، و كافة الفضاءات ، و هو ما منحه الندرة المتحدث عنها ، إذا ما علمنا بأن ” الطيب صالح ” تبوأ مناصب رفيعة عربيا و دوليا
و هنا نتعرف على شخصيته كذلك ..
” لقد زار الدوحة أول عهدي بها ، منذ خمسة عشر
عاما و تعرف بطريقته العجيبة إلى عدد كبير من
الناس في وقت قصير ” ( ص / 21 )
” و قد رفعوني إلى رتبة رئيس قسم و لما أبلغ الثلاثين
و كان ذلك أمرا عزيزا تلك الأيام .” ( ص / 32 )
” كذلك كنت أول عربي يرسلونه إلى نيويورك ل ” تغطية ”
اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ذلك الحدث المشهود
الذي أمه معظم زعماء العالم ، و كنت شاهدا حين خلع نيكيتا
خروشوف حذاءه ، و ضرب به المائدة احتقارا ، و رئيس
وزراء بريطانيا واقفا يخطب .” ( ص / 34 )
إن قراءة ” منسي ” هي التعرف على شخصيتين في زمن واحد..شخصية ” منسي ” الذي لم يكن شيئا ، ليصبح كل شيء ..و هو المهيمن على النص ..و ” الطيب صالح ” باعتبار علاقته و “منسي”
إلى المكانة التي يحوزها ، و لئن كانت الإحاطة بشخصيته ضيئلة ، إذا ما ألمحنا لكون قصدية الكتابة
تطول ” منسي ” أصلا ..و الواقع أن شخصية ” الطيب صالح ” من خلال ” منسي ” تمثل صورة حقة عن المثقف الجامع ..
” منسي ” سحر الكتابة و جاذبيتها :
إن قارئ ” الطيب صالح ” في مختلف آثاره الإبداعية : الحكائية و الفكرية ، يقف على الخاصة السردية التي تسم كتاباته ..إنه يحكي في مقام الحكاية ، مثلما يسرد في مقام المقالة ..هذه الخصوصية تجعل التلقي موسوما بالملاحقة..ذلك أن القارئ يستشعر جاذبية الإقبال على النص الذي هو بصدده.
و هي جاذبية لا تعود في الجوهر إلى وتيرة الأحداث و مدى الرغبة في معرفة جديدها ، و إنما التمكن الدقيق من صيغة الكتابة ، و بالأخص في جانبها اللغوي..إن اللغة في كتاباته ليست الوسيلة و حسب و إنما الوسيلة المرتهنة لمقصد الغاية ، بعيدا عن حس التجريب الذي قد يكون مستهدفا بالكتابة للوصول إلى ترسيخ الجدة في الكتابة و التأليف..إن لغته تراثية دون أن تكون ” مقعرة ” بحكم الحرص على تأكيد بلاغة الصيغة ، و سلامة الجملة على طولها أحيانا..
و الواقع أن هذه السمات لا تخلو منها ” منسي ” ، و التي بالرغم من توزيع جسم النص فيها إلى أرقام متسلسلة ، فإن الحكاية ، حكاية ” منسي ” تنطبع بجاذبيتين : جاذبية ملاحقة الحدث ، و سحر السرد الذي بالرغم من تضاؤل درجة الخيال فيه ، انتصارا للموضوعي الواقعي ، فإنه لا يخلو من الوصف و المقارنة و السخرية ، إلى التوظيف الثقافي الفكري الذي يعكس ـ كما سلف ـ شخصية
” الطيب صالح ” المثقف ..
على أننا بصدد التوزيع المعتمد في ” منسي ” ، لا يمكننا التوقف عند وحدات حكائية صغرى متكاملة
و إنما تبقى ” منسي ” الحكاية السيرية الكبرى المتكاملة العناصر و المواصفات ، الشيء الذي يجعل القارئ يعتقد بأنه بصدد قصة خيالية طويلة ، و ليس نصا غيريا / ذاتيا ..
إن ” الطيب صالح ” ، و في هذه التجربة التي لم يسبق الاطلاع على ما يماثلها ، يستند في كتاباته إلى مرجعيات عربية و غربية أصيلة و مؤصلة ، بمثابة المتكأ المعتمد في الكتابة و التأليف..
يبقى نص ” منسي ” :
1 / تجربة إبداعية غيرية / ذاتية ..
2 / تعيد إنتاج حياة شخصية واقعية..
3 / ترتهن إلى صيغة إبداعية تروم جانب التقليد الإبداعي دون التوغل فيه..
4 / إنها إضافة جديرة لآثار ” الطيب صالح ” و الأدب العربي ككل
الخاتمة :
………………………………………….. …………………………………………..
المصادر :
محرك البحث عربي – الانترنت عربي – الإنترنت العربية تبدأ هنا
موقع اتحاد كتاب الانترنت العرب .: اتحاد كتاب الانترنت العرب :.
معهد الامارات التعليمي معهد الامارات التعليمي
والخاتمه عليكم