بحث جاهز عن البيئة :
مقدمة
الاهتمام بالبيئة المحيطة بالبشر قديم قدم الإنسان نفسه، فالإنسان لا ينفك عن الاحتياج إلى بيئته والتفاعل معها، والانشغال المتخصص بالبيئة والحفاظ على توازنها بالاستخلاف والعمارة وميزان المقاصد الشرعية من الشواغل المهمة في الفقه الإسلامي؛ ولهذا الغرض خٌصصت الأوقاف وفُصلت الأحكام الشرعية تقييدًا لسلطة الإنسان وحركته بإطار الخلافة لله وأمانة الإصلاح في الأرض وعمارتها، وهكذا دخلت علاقة الإنسان بالبيئة في مراتب الضروريات والحاجيات و التحسينيات في مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والعرض، وفي هذا الباب كلام كثير مبثوث في أمهات الكتب بل والمؤلفات الأدبية.
أما الاهتمام بالبيئة وقضاياها في الغرب عبر السياسات البيئية فحديث نسبيًا، وقد ظهر اصطلاح "علم البيئة" ecology عام 1866 على يد عالم الحيوان الألماني إرنست هايكل. ويشتق اصطلاح "علم البيئة" ecology من الكلمة اليونانية oikos والتي تعني الموطن، وقد استخدمه هايكل للإشارة إلى "البحث في مجموع علاقات الحيوان ببيئته العضوية وغير العضوية". ومنذ أوائل القرن العشرين عُرف "علم البيئة" بكونه فرعًا من فروع البيولوجي (الأحياء) يبحث في علاقة الكائنات الحية ببيئتها. ولكنه أخذ يتحول إلى اصطلاح "سياسي"، خصوصا من ستينيات القرن العشرين حيث استخدمته حركات "الخضر" المتصاعدة، وتثير تلك الأيديولوجيا الجديدة وأجندتها قدرًا كبيرًا من الجدل.
البيئة والخضر وشبكة الحياة
منذ خمسينيات القرن العشرين استخدم اللون "الأخضر" ليشير إلى التعاطف مع الموضوعات والمشروعات البيئية، ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين تبنى هذا الاصطلاح عدد متزايد من الأحزاب البيئية كان أولها الألمان الخضر (Die Grünen)، وما لبث أن ظهر موازيًا اصطلاح "البيئية"Environmentalism الذي استخدم لوصف أفكار ونظريات تعتقد في جوهرها أن الحياة البشرية لا يمكن فهمها إلا من خلال سياق العالم الطبيعي، وهي بذلك تضم تنوعًا واسع النطاق من المعتقدات العلمية والدينية والاقتصادية والسياسية بدلا من أن تنطوي على مجموعة معينة من السياسات كتلك التي تدعمها حركة الخضر المعاصرة.
ويعود تراجع "البيئية" إلى أنه أحيانا يستخدم للإشارة إلى تناول معتدل أو إصلاحي للبيئة يستجيب إلى الأزمات البيئية، لكن دون بحث الافتراضات التقليدية عن العالم الطبيعي من أساسها. وتكمن فضيلة "المذهب البيئي" ecologism في تأكيده الأهمية المحورية لعلوم البيئة وتناوله لفهم سياسي يختلف اختلافًا نوعيًا عن التناول التقليدي.
وقد أدت دعوة "المذهب البيئي" التي نادت بتغيير سياسي اجتماعي راديكالي وإعادة تفكير جذري في علاقة الإنسان بالطبيعة إلى تطور أفكاره إلى إيديولوجيا قائمة بذاتها.
والأهمية السياسية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في الغرب تعد حديثة الجذور نسبيا، فحتى ستينيات القرن العشرين لم تكن الطبيعة بالنسبة إلى أغلب المفكرين السياسيين الغربيين إلا "مورداً اقتصاديا" على الإنسان أن يستخدمه بكفاءة. وقد تغيرت هذه النظرة بسبب الإدراك المتزايد بأن إساءة استغلال الطبيعة يهدد بقاء الجنس البشري. ومن أوائل الكتابات التي نبّهت إلى وجود أزمة بيئية متزايدة كان كتاب ريتشيل كارسون "الربيع الساكن" (1962)، الذي كان نقداً لما لحق بالحياة البرية وعالم الإنسان من أضرار من جراء الاستخدام المتزايد للمبيدات الحشرية والكيماويات الزراعية الأخرى، والمطالبة باستخدام رشيد للموارد الطبيعية خاصة تلك التي أوشكت على النفاد.
وعلى الرغم من أن السياسات الخضراء والسياسات البيئية الحديثة لم تظهر إلا في ستينيات القرن العشرين فإنه يمكن تتبع الأفكار البيئية إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد رأى الكثيرون أن مبادئ المذهب البيئي المعاصر يضرب بجذوره في الديانات الوثنية القديمة التي أكدت مفهوم "الأرض الأم" Mother Earth، وكذلك الديانات الشرقية مثل الهندوسية والبوذية والطاوية.
ومع ذلك يظل المذهب البيئي بالأساس رد فعل على الآثار السلبية للتقدم الصناعي خاصة مع القرن التاسع عشر؛ حيث ولّد امتداد الحياة الصناعية ونمو المدن حنينًا إلى الوجود الريفي النموذجي كما بدا في أعمال روائيين مثل توماس هاردي والمفكرين السياسيين مثل ويليام موريس البريطاني الاشتراكي المؤيد لمذهب الحرية في القرن التاسع عشر، وبيتر كروبوتكين من اللاسلطويين (الأناركيين)، وغالبا ما اشتدت ردود الأفعال المماثلة في أكثر الدول التي شهدت تقدما صناعيا سريعا، وهو ما أثمر تلوثًا بيئيًا وساهم في قيام حركة "العودة إلى الطبيعة" بين الشباب الأوروبي، واشتد الاهتمام بالبيئة بسبب تهديد النمو الاقتصادي لبقاء العنصر البشري والكوكب نفسه الذي يقله. وجاء التعبير عن هذه المخاوف في تقارير منظمات دولية مثل تقرير الأمم المتحدة غير الرسمي "أرض واحدة فقط" (1972) وتقرير "حدود النمو" لنادي روما (1972).
وفي الوقت نفسه نشأ جيل جديد من جماعات الضغط النشطة، مثل: السلام أخضر Green-peace، وأصدقاء الأرض Friends of the Earth التي تسلط الضوء على الموضوعات البيئية كأخطار الطاقة النووية والتلوث وتضاؤل احتياطيات الوقود، وهو ما أثمر تأسيس جماعات أكبر مثل الصندوق الدولي للبيئة – وظهور حركة بيئية شديدة القوة وذائعة الصيت.
ومع ثمانينيات القرن العشرين وصاعدًا احتلت المسائل البيئية الصدارة في الأجندة السياسية للأحزاب الخضراء الموجودة حاليا في معظم الدول الصناعية.
وقد لفتت السياسة البيئية الانتباه إلى موضوعات؛ كالتلوث وصيانة الأنهار والغابات والأمطار الحمضية، والأهم من ذلك قدّم علماء البيئة مجموعة راديكالية جديدة من المفاهيم والقيم لفهم وتفسير العالم، منها النظرة للحرب، والدفاع عن حقوق المرأة.
ويبتعد المذهب البيئي عن الاعتقادات السياسية التقليدية؛ حيث إنه يبدأ بتناول ما تجاهلته تلك الاعتقادات كالعلاقات التي تربط الإنسان بباقي الكائنات الحية والأكثر من ذلك ما يربط الإنسان بـ"شبكة الحياة"، ويصف الخضر الألمان ذلك في شعار "لا اليسار ولا اليمين بل إلى الأمام".
▲
الإنسان أم العودة إلى الطبيعة ؟
انتقد علماء البيئة الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الفكر السياسي الغربي بشأن "مركزية البشرية" أو التمركز حول الإنسان، أي أن البشر هم مركز الوجود. وهو ما دمر وشوه العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، وبدلا من المحافظة على كوكب الأرض واحترامه واحترام الفصائل المختلفة التي تعيش على سطحه سعى الإنسان -كما وصفه جون لوك- ليصبح "سيدا للطبيعة ومالكها"، وساعدت الفردية الليبرالية على انطلاق مشروع التراكم الرأسمالي التحديثي بمقاييسه الاقتصادية النقدية بعيدًا عن التكلفة الإنسانية والطبيعية، معطيًا الإنسان الضوء الأخضر للسيطرة على الطبيعة والزعم بالقدرة على معرفة كل أسرارها بالعلم بعد التحرر من الغيب والدين، فتم استنزاف الطبيعة لراحة الإنسان ومصلحته.
والتقسيم التقليدي بين اليمين واليسار في السياسة والصراع بين الجماعية و الفردانية أو اشتراكية مقابل رأسمالية، يخفي حقيقة مهمة هي أن الموقفين يرميان إلى الهدف نفسه الذي يتمثل في مزيد من الوفرة المادية عبر مزيد من الاستنزاف الفعال للعالم الطبيعي الذي هو أفق العقل الآن وهنا فحسب.
ولم يكن العالم الطبيعي وحده هو الذي تهدد من جراء ذلك، بل أوشك الجنس البشري كله على الدمار في ظل سياسات التصعيد النووي إبان الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويمثل علماء البيئة نمطا جديدا من السياسة تبدأ من تصور للطبيعة بأنها شبكة من علاقات هشة تربط بين الفصائل الحية بما فيها الجنس البشري وبين البيئة الطبيعية، ولم يعد الجنس البشري يحتل وضعا مركزيا بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة ومن ثم وجب على الأفراد التحلي بالتواضع والاعتدال والرقة والتخلي عن الحلم المضلل الذي يجعل من العلم و التكنولوجيا حلاً أسطورياً لجميع المشكلات.
مستقبل المذهب البيئي في القرن الحادي والعشرين
قد تبدو التوقعات بخصوص المذهب البيئي للقرن الحادي والعشرين شديدة الارتباط بحالة الأزمة البيئية والمستوى العام لفهم القضايا والمشكلات البيئية؛ فمن المتوقع أن يزيد البحث عن بديل للتقدم الصناعي المولع بالنمو، وإحدى المشاكل التي تواجه الأحزاب الخضراء أن منافسيهم قد اتخذوا مواقف "صديقة للبيئة" كانت قبل ذلك حكرًا على الخضر (مثلما اتخذت الرأسمالية بعد نقد الشيوعية لها سياسات دولة الرفاهة والحقوق الاجتماعية)؛ إذ لن يكون للجنس البشري بدٌّ في القرن الحادي والعشرين من قلب السياسات والممارسات التي كادت أن تدمر كل من الجنس البشري والعالم الطبيعي.
وتواجه النظرية البيئية عددًا من المشكلات:
الأولى: صعوبة جعل المذهب البيئي أيديولوجية عالمية، فيبدو أن القيود التي تكبل الدول النامية قد سلبتها فرصة اللحاق بركب الغرب، حيث تطورت الدول الغربية بالصناعات الكبيرة وباستنزاف الموارد المحدودة والتلوث… إلخ، وهي ممارسات يسعون الآن إلى إنكارها على الدول الساعية للتقدم. والغرب الصناعي مثله مثل العالم النامي غير مهيأ لأخذ الأولويات البيئية في الاعتبار، حيث يعني ذلك التخلي عن الرخاء الذي ينعم به بوصفه أكبر مستهلك للطاقة والموارد.
والمشكلة الثانية: تتمثل في الصعوبات التي تحف رسالة المذهب البيئي المعادية للنمو، فسياسة النمو المستديم أو اللانمو قد تكون غير مشجعة للجماهير بحيث تستحيل عمليًا كخيار انتخابي.
ثالثًا: قد يكون المذهب الأخضر greenism ما هو إلا بدعة حضرية أو شكل من أشكال رومانسية ما بعد الحركة الصناعية، وهو ما يملي أن الوعي البيئي ما هو إلا رد فعل مؤقت للتقدم الصناعي، ويميل إلى الاقتصار على الشباب والأغنياء الذين يملكون ترف الاحتجاج.
رابعاً: أن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنها تتضمن تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة، فالبيئية الحقيقية أكثر راديكالية من الاشتراكية والفاشية والحركة النسائية أو أي اعتقاد سياسي آخر، فهذا المذهب لا يقتصر على المطالبة بتحول النظام الاقتصادي أو إعادة تنظيم العلاقات بين السلطات داخل النظام السياسي فحسب، بل لا يرضى بأقل من إقامة نمطا جديدًا للوجود أي أسلوب مختلف في تجربة الوجود وفهمه. والأكثر من ذلك أن نظرياته وقيمه وأحاسيسه تتعارض كلية مع تلك الخاصة بالمجتمعات التي يهيمن عليها التقدم الصناعي.
▲
البيئة والاستخلاف الرباني: مدخل نظرية المقاصد
ربما يثير اللبس دومًا البحث عن مصطلح من لغة ما في فكر لغة أخرى، وعند افتقاده يقال بأن هذا الفكر لم يقدم إسهامًا تحت هذا المصطلح أو العنوان، وهو ما يقال أحيانًا بشأن موقف الإسلام من حقوق الإنسان ومن قضايا البيئة ومن حقوق المرأة، في حين أن النظر للإشكاليات في جوهرها والألفاظ في معانيها مشترك بين العقول ومتكرر في أي سياق حضاري رغم اختلاف التوصيف والتصنيف، وبذلك لو أخذنا معالم نظرية البيئة لوجدنا الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكوناتها، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني بأقسامه، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها، فالرؤية الكلية Holistic تدخل في المكونات الإبستمولوجية للنظرية البيئية، وتدخل في المقابل في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدًا في الكون -لا سيدًا للكون-، ومستخلفًا من الله على الكون بكائناته ومخلوقاته، فلا هي مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسان الطبيعة، ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسئولة في الدنيا.. واليوم الآخر.
والاستدامة تدخل في نظرية المقاصد في العدل كمقصد وحفظ المال، ومراتب هذا الحفظ من حفظ بقاء لحفظ أداء لحفظ نماء. والقيم الأخلاقية لا تقتصر على المسئولية تجاه الأجيال بل المسئولية أمام الله بالأساس عن الموارد والكائنات، بدءاً من التوجيه النبوي بعدم الإسراف في الماء ولو للوضوء، مروراً بالرحمة الواجبة بالحيوانات التي قد تدخل الجنة ونقيضها قد يدخل النار-مع تسخيرها للإنسان للأكل والانتفاع-، وأخيرًا -وليس آخرًا- بالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية بل و الجمادات التي يؤمن الإنسان بأنها تسبح لله.
ويحكم الإنسان في كل موقف ميزان الضرر والنفع، في الحال والمآل.
والأمة توفر لسياسات البيئة التمويل عبر الأوقاف ، وتضمن الالتزام بالقواعد والنظم بالقانون، والأهم من ذلك عبر إدماجها في السلوكيات والآداب اليومية العبادية والفردية والجماعية.
وفي مقابل رؤية الأيدلوجيات للبيئة كدائرة حيوية يجعلها الإسلام أمانة على الإنسان التعامل معها بمنطق العمارة، والإنسان هنا يحمل قيمًا ربانية، ويستوي في حملها الرجال والنساء؛ فليست المرأة أقرب للطبيعة من الرجل، ولا هو أكثر إفسادا لطبع فيه من النساء كما تذهب النسوية، بل المناط التقوى والالتزام بالعدل والقسط، والرحمة صفة المؤمن وليست شيمة النساء، وهكذا في كل قضية تندرج تحت نظرية البيئة وتجد لها في خريطة الفكر والفقه الإسلامي موضعًا يرتبط بملامح تلك الخريطة المتأسسة على عقيدة التوحيد لله الأعلى الذي خلق الإنسان ويسأله في يوم لقيامة عما استرعاه.
ومن اللافت أن أجندة التيارات الإسلامية السياسية المعاصرة لم تستنبط هذه المقاصد المرتبطة بالبيئة، وتصوغها بلسان معاصر تأسيسًا على تراث غني، بل انصرفت لرؤية مركزية للدولة، وبالتالي لتعريف ضيق للسياسة همّش قضايا البيئة رغم كونها من أولويات المشروع الحضاري الإسلامي في الواقع البيئي الدولي الراهن.
المصدر :http://www.khayma.com/almoudaress/takafah/albiaa.htm
اختي أتمنى انج توضحين طلباتج من خلال العنوان ..والله يوفقج وان شاء الله قدرت أفيدج