لقد امتن الله عز وجل على الإنسان بأن منحه نعمة العقل الذي يميزه عن سائر الحيوانات؛ فقال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[70] ؛ فبالسمع تسمعون، وبالأبصار تبصرون، وبالأفئدة تعقلون، ولكن قليلا ما تشكرون[71].
فالأفئدة هي محل العقول، كما قال سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[72]؛ فجعل العقل في القلب، ثم أخبر أنه يتغطى على هذا العقل الذي في الصدور.
يقول الإمام الشوكاني (ت 1250 هـ): (وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع)[73]. ويستأنس لهذا بقول الفاروق عمر رضي الله عنه عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: (ابن عباس فتى الكهول، له لسان سئول، وقلب عقول)[74].
وإضافة العرب الشيء إلى الشيء إما لكونه هو هو، أو مكانه. وليس القلب عقلا بإجماع. لم يبق إلا أنه محل العقل، بإضافة الشيء إلى محله. ومن خلق العقل أعلم بمحله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[75]. فالعقل محله القلب، وهو نعمة، وهبة من الله، أعطاه عباده بلا عوض.
وهذه النعمة هي التي ترفع صاحبها إلى مستوى التكاليف الشرعية الإلهية، وتؤهله لإدراكها وفهمها؛ فالعقل مناط التكليف. يقول أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513 هـ) موضحا معنى التكليف:
(وهو المطالبة بالفعل أو الاجتناب له، وذلك لازم في الفرائض العامة؛ نحو التوحيد، والنبوة، والصلاة، وما جرى مجرى ذلك، لكل عاقل، بالغ…)[76]، فالتكليف للعاقل.
ويقول الآمدي (ت 631 هـ): (اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا، فاهما للتكليف؛ لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال؛ كالجماد، والبهيمة)[77]. ويقول الطوفي (ت 716 هـ): (من شروط المكلف: العقل، وفهم الخطاب؛ أي: يكون عاقلا، يفهم الخطاب، ولا بد منهما جميعا)[78].
فالمكلف لا بد أن يكون عاقلا يفهم الخطاب. ومن هنا لم يكلف المجنون؛ لأن مقتضى التكليف: الطاعة والامتثال، ولا تمكن إلا بقصد الامتثال. وشرط القصد: العلم بالمقصود، والفهم للتكليف؛ إذ من لا يفهم، كيف يقال له: افهم، ومن لا يسمع، لا يقال له: تكلم. وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة، فهو كمن لا يسمع…)[79]. فالعقل هو الذي يرفع الإنسان إلى مستوى التكاليف الإلهية.
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني، وتكريمه، والاعتزاز به والاعتماد عليه في فهم النصوص، كالعقيدة الإسلامية.
بل إن العقيدة الإسلامية تدعو العقل إلى تشغيل طاقاته وتستثيره ليؤدي دوره الذي خلقه الله من أجله وتنبهه ليتدبر ويتفكر وينظر ويتأمل مدللة بذلك على أن الدعوة إلى الإيمان قامت على الإقناع العقلي.
ويبدوا هذا واضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم تكررت عشرات المرات في السياق القرآني، مدح الله عز وجل من خلالها مسمى العقل ورفع من شأنه[80] من خلال توجيهه إلى النظر والتفكر والتدبر والتأمل؛ مثل قوله سبحانه وتعالى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[81] ، وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[82] ، وقوله جل جلاله:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[83] . وقوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[84] وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}[85] ، وقوله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }[86] وقوله سبحانه وتعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[87] وغير ذلك من الآيات إلى لا يمكن حصرها في مكان واحد.
وقد اعتنى الإسلام بالعقل؛ فأمر جل جلاله بالمحافظة عليه، ونهى عن كل ما يضر به، أو يعطل عمله.
فحرم سبحانه وتعالى المسكرات والمخدرات لما لها من أثر سيئ على عمل الإنسان؛ فالخمر سميت خمرا بسبب تخمرها العقل؛ أي ستره وتغطيته. يقال: خمر إناءك، إذا طلب منك أن تغطيه[88].
من أجل ذا حرمها المولى جل جلاله في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[89] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[90].
فالخمر في حال سترها للعقل تجعل متعاطيها أشبه بالسفيه الذي لا يحسن التصرف، أو المجنون الذي لا يشعر بما يرتكب من جرائم تخل بالدين والشرف.
وأشد من الخمر في الفتك بالعقل: المخدرات، التي تزيل العقل، وتفسد القلب، وتجعل متعاطيها يعيش في غيبوبة دائمة، هاربا من واقعه.
من أجل ذا حرمها الإسلام – كما حرم الخمر – لجامع السكر في الاثنين؛ فرسولنا صلى الله عليه وسلم «نهى عن كل مسكر ومفتر»[91]. وأخبر أن «ما أسكر كثيره، فقليله حرام»[92] ، وأن «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[93] . وقد قاس ابن تيمية (ت 728 هـ) حكم قليل "الحشيش" على قليل"المسكر"، بجامع مخامرة كل منهما للعقل، فقال: (وأما قليل الحشيشة المسكرة، فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات)[94].
والمخدرات كلها مسكرة، والوعيد المترتب على تعاطي الخمر، هو الوعيد المترتب على تعاطي أنواع المخدرات المختلفة، بجامع اشتراك الكل في إزالة العقل، ولعموم نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن كل مسكر ومفتر.
فكل ما جاء في وعيد شارب الخمر، يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات؛ (لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه؛ لأنه الآلة للفهم عن الله تعالى، وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – والمتميز به الإنسان عن الحيوان، والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص. فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر)[95].
ولا ريب أن النهي عن هذه الأشياء المضرة بالعقل، من أقوى الأدلة على عناية الإسلام به، ومحافظته عليه.
وعلينا أن لا ننسى أن العقل واحد من الضروريات الخمس التي عني الإسلام – كسائر الشرائع – بحفظها.
فالشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية خمسه أمور، هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، ويسمونها الضروريات الخمس، وهى: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض، حفظ المال.
وتتجلى حماية الإسلام للعقل في[96]:
1 – تربيته على حسن المعرفة، والمنطق العلمي، والفكر الاستدلالي، والمنهج التجريبي.
2 – النهي عن كل ما يضر به، أو يعطل وظيفته؛ كالنهي عن المنكرات والمفترات، كما مر.
3 – الأمر بتغذيته بالعلوم النافعة، واستعماله في الخير.
4 – النهي عن الاعتداء عليه بأي نوع من أنوع الاعتداء؛، كالضرب ونحوه.
ولقد جعل الإسلام الدية كاملة في حق من ضرب آخر، فأذهب عقله.
يقول عبد الله ابن الإِمام أحمد بن حنبل -رحمهما الله -: (سمعت أبي يقول: في العقل دية؛ يعني إذا ضرب، فذهب عقله)[97].
وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين[98] ؛ لأن العقل (أكبر المعاني وأعظم الحواس نفعا؛ فإن به يتميز من البهيمة، ويعرف به حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضره، ويدخل به في التكليف. وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس)[99].
فأي تكريم أعظم من هذا التكريم ! !
* هذا البحث هو أحد البحوث المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية العدد (79).
[[70] سورة الملك الآية 23
[71] ابن جرير الطبري، 1412 هـ 12 172.
[72] سورة الحج الآية 46
[73] الشوكاني، 1383 هـ، 3 459.
[74] ابن عبد البر، 1398 هـ، 2 352.
[75] سورة الملك الآية 14
[76] ابن عقيل، مصدر سابق، 1 68.
[77] الآمدي، 1388هـ، 1 150.
[78] الطوفي، 1419هـ، 1 180.
[79] ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر، 1404 هـ، 1 137.
[80] ابن تيمية، النبوات، 1405هـ، ص 93.
[81] سورة البقرة الآية 73
[82] سورة يوسف الآية 2
[83] سورة النور الآية 61
[84] سورة يونس الآية 24
[85] سورة الأنعام الآية 98
[86] سورة ص الآية 29
[87] سورة النساء الآية 82
[88] الرازي، 1973 م، ص 189.
[89] سورة المائدة الآية 90
[90] سورة المائدة الآية 91
[91] سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب في النهي عن المسكر. وأحمد في المسند 4 273.
[92] سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب في النهي عن المسكر. وسنن ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، مرجع سابق، 2 702، ح 3128، وصحيح سنن ابن ماجه، 1408 هـ، 2 245، ح 3393.
[93] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وكتاب الأدب، باب ما لا يستحيا من الحق، وكتاب الأحكام، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع. وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر.
[94] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 34 254.
[95] الهيتمي، (د. ت)، 1 212.
[96] النحلاوي، 1399 هـ، ص 67.
[97] الإمام أحمد، المسائل برواية عبد الله، 1408هـ، ص 417.
[98] ”نص على ذلك الإمام ابن قدامة المقدسي في كتابه ””المغني””، 1410 هـ، 12 151. ”
[99] ابن قدامة، المغني، مصدر سابق، 12 152
والسموحة بغيير عنوان الموضوع للفائدة