خواني ما عليكم أمااااره بس بقيت درس بوربوينت عن(( رجال تحت الشمس ))
واقول مشكوريين أذا رديتوا ولا ما رديتوااا
يكفي أنكم بتنورون الصفحه
والسمووووووووحه يا الطيبين
أراح أبو قيس صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته : ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه … في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقا قاسيا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخرا :
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض"، أي هراء خبيث .! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهوَمة في عروقه؟. كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه انه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد .. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيبا .. الخفقان ذاته : كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيرا..
الأرض الندية-فكر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا،أمس لم تمطر! . لا يمكن أن تمطر السماء الآن ألا قيظا وغبارا ! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟
دور جسده واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه واخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر اسود يحلق عاليا وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ، فجأة، بشعور آسن من الغربة، وحسب لوهلة انه على وشك أن يبكي .. كلا، لم تمطر أمس، نحن في آب الآن .. أنسيت؟ كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود .. أنسيتها؟ مازال الطائر يحوم وحيدا مثل نقطة سوداء في ذلك الوهج المترامي فوقه.. نحن في آب ! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ انه الشط! السبت تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟
-"وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرا واحدا اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى… "
الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود، وكان هو مارا حينذاك حذاء المدرسة في قريته .. فارتقى حجرا واخذ يتلصص من الشباك :كان الأستاذ سليم واقفا أمام التلميذ الصغير وكان يصيح بأعلى صوته وهو يهز عصاه الرفيعة:
-"..وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات…" وكان الصغير يرتجف هلعا فيما سرت ضحكات بقية الأطفال في الصف ..مد يده ونقر طفلا على رأسه فرفع الطفل نظره إليه وهو يتلصص من الشباك:
-"… ماذا حدث؟"
ضحك الطفل و أجاب هامسا:
-"تيس! "
عاد،فنزل عن الحجر واكمل طريقه وصوت الأستاذ سليم مازال يلاحقه وهو يكرر:
-"وحين يلتقي النهران الكبيران…"
في تلك الليلة شاهد الأستاذ سليم جالسا في ديوانية المختار يقرقر بنرجيلته: كان قد أرسل لقريتهم من يافا كي يعلم الصبية، وكان قد أمضى شطرا طويلا من حياته في التعليم حتى صارت كلمة استاذ جزءا لا يتجزأ من اسمه، وفي الديوانية سأله أحدهم، تلك الليلة،
-".. وسوف تؤم الناس يوم الجمعة.. أليس كذلك؟"
وأجاب الأستاذ سليم ببساطة:
-"كلا، إنني أستاذ ولست إماما.."
قال له المختار:
-"وما الفرق؟لقد كان أستاذنا إماما.."
-"كان أستاذ كتاب، أنا أستاذ مدرسة.."
وعاد المختار يلح:
-"وما الفرق؟."
لم يجب الأستاذ سليم بل دور بصره من وراء نظارتيه فوق الوجوه كأنه يستغيث بواحد من الجالسين، إلا أن الجميع كانوا مشوشين حول هذا الموضوع مثل المختار..
بعد فترة صمت طويلة تنحنح الأستاذ سليم وقال بصوت هادئ :
-"طيب، أنا لا اعرف كيف اصلي.."
-"لا تعرف؟"
زأر الجميع، فأكد الأستاذ سليم مجددا:
-"لا اعرف! "
تبادل الجلوس نظرات الاستغراب ثم ثبتوا أبصارهم في وجه المختار الذي شعر بان عليه أن يقول شيئا، فاندفع دون أن يفكر :
-"..وماذا تعرف إذن؟"
وكأن الأستاذ سليم كان يتوقع مثل هذا السؤال، إذ انه أجاب بسرعة وهو ينهض:
-"أشياء كثيرة.. إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا .."
وصل إلى الباب فالتفت، كان وجهه النحيل يرتجف:
-"إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع"
***
ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم! . يا رحمة الله عليك ! لا شك انك كنت ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية اكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك .. ولكنك على أي حال بقيت هناك .. بقيت هناك ! وفرت على نفسك الذل والمسكنة أنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما افعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟
نهض، واستند إلى الأرض بكوعيه وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك . إذن هذا هو شط العرب : "نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات .."
هكذا صاح ابنه، قيس، بسرعة حين سأله تلك الليلة :
-"ما هو شط العرب؟"
كان يقصد أن يتحنه، إلا أن قيس صاح الجواب بسرعة، وأردف قائلا:
-"..لقد رأيتك تطل من شباك الصف اليوم.."
التفت إلى زوجه فضحكت، أحس بشيء من الخجل، وقال ببطء:
-"إنني اعرف ذلك من قبل .."
-"كلا، لم تكن تعرفه.. عرفته اليوم وأنت تطل من الشباك.."
-"طيب! وماذا يهمني أن اعرف ذلك أو أن لا اعرفه، هل ستقوم القيامة؟"
رمقته زوجته من طرف عينيها ثم قالت:
-"اذهب والعب يا قيس في الغرفة الأخرى.."
وحين صفق الباب خلفه قالت لزوجها:
-"لا تحكي أمامه بهذا الشكل، الولد مبسوط لأنه يعرف ذلك، لماذا تخيب أمله؟"
قام واقترب منها ثم وضع كفه على بطنها وهمس:
-"متى؟"
"بعد سبعة اشهر"
-"أوف! "
-نريد بنتا هذه المرة.."
-"كلا ! نريد صبيا صبيا"
***
ولكنها أنجبت بنتا سماها"حسنا"، ماتت بعد شهرين من ولادتها وقال الطبيب مشمئزا: "لقد كانت نحيلة للغاية ! "
كان ذلك بعد شهر من تركه قريته، في بيت عتيق يقع في قرية أخرى بعيدة عن خط القتال:
-"يا أبا قيس، أحس بأنني سألد! "
-"طيب، طيب، اهدأي"
وقال في ذات نفسه:
"بودي لو تلد المرأة بعد مئة شهر من الحمل !أهذا وقت ولادة؟"
-"يا الهي! "
-"ماذا؟"
-"سألد."
-"أأنادي شخصا؟"
-"أم عمر"
-"أين أجدها الآن؟"
-"ناولني هذه الوسادة.."
-"أين أجد أم عمر؟"
-"يا الهي..ارفعني قليلا، دعني اتكئ على الحائط.."
-"لا تتحركي كثيرا، دعيني أنادي أم عمر.."
-"أسرع.. أسرع..يا رب الكون! "
هرول إلى الخارج، وحين صفق وراءه الباب سمع صوت الوليد، فعاد والصق إذنه فوق خشب الباب..
صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج و الطائر الأسود ما زال يحوَم على غير هدى.
قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر ..
أحس، أكثر من أي وقت مضى، بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة ونفض عن رأسه كل الافكار التي تجمعت كجيوش زاحمة من النمل .
وراء هذا الشط، وراءه فقط، توجد كل الأشياء التي حرمها هناك توجد الكويت .. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك .. لابد أنها شئ موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لابد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالا ونساء وصغارا يركضون بين الاشجار ..لا ..لا..لا توجد اشجار هناك ..سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سواقا وعاد باكياس من النقود قال انه لا توجد هناك أية شجرة.. الاشجار موجودة في راسك يا أبا قيس.. في راسك العجوز التعب يا أبا قيس .. عشر اشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة اشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب ان تصدق سعدا لانه يعرف أكثر منك رغم انه اصغر منك .. كلهم يعرفون أكثر منك .. كلهم.
في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئا سوى أن تنتظر.. لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق انك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها .. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير .. ماذا تراك كنت تنتظر؟أن تثقب الثروة سقف بيتك .. بيتك؟ انه ليس بيتك .. رجل كريم قال لك :
اسكن هنا! هذا كل شئ، وبعد عام قال لك اعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد .. وبقيت مقعيا حتى جاءك سعد واخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبدا.
-"إذا وصلت إلى الشط بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء..لماذا لا تذهب؟"
سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بين وجهيهما وأخذت تهدهد طفلها من جديد.
-"إنها مغامرة غير مأمونة العواقب! "
-"غير مأمونة العواقب؟ها! ها! أبو قيس يقول : غير مأمونة العواقب .. هاها "!
ثم نظر إليها وقال :
-"أسمعت ما يقول زوجك؟غير مأمونة العواقب ! كأن الحياة شربة لبن! لماذا لا يفعل مثلنا؟ هل هو احسن؟ .."
لم ترفع بصرها ليه، وكان هو يرجو أن لا تفعل ..
-"أتعجبك هذه الحياة هنا؟لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش كالشحاذ .. حرام ! ابنك قيس، متى سيعود للمدرسة؟وغدا سوف يكبر الآخر .. كيف ستنظر إليه وأنت لم.."
-"طيب ! كفى! "
-"لا ! لم يكف! حرام! أنت مسؤول الآن عن عائلة كبيرة، لماذا لا تذهب إلى هناك؟ما رأيك أنت؟"
زوجته ما زالت صامتة وفكر هو : "غدا سيكبر هو الآخر …" ولكنه قال:
-"الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنت .. قد أموت .. "
لم يتكلم أحد في الغرفة، زوجته ما زالت تهدهد طفلها.وكف سعد عن إلحاح ولكن الصوت الغليظ انفجر في رأسه هو :
-"تموت؟ هيه! من قال أن ذلك ليس افضل من حياتك الآن؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك .. قريتك ! هيه! "
عاد فنظر إلى زوجته:
-"ماذا ترين يا أم قيس؟"
حدقت إليه وهمست:
-"كما ترى أنت…"
"سيكون بوسعنا أن نعلم قيس.."
-"نعم"
-"وقد نشترى عرق زيتون أن اثنين .."
-"طبعا! "
-"وربما نبني غرفة في مكان ما .."
-"اجل"
-"إذا وصلت ..إذا وصلت.."
كف، ونظر إليها..لقد عرف أنها سوف تبكي : ترتجف شفتها السفلى قليلا ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويدا رويدا ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر..حاول أن يقول شيئا، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه .. غصة ذات مذاق مثلها تماما حين وصل إلى البصرة وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، وقف أمامه حاملا على كتفيه كل الذل وكل الرجاء اللذين يستطيع رجل عجوز ان يحملهما.. وكان الصمت مطبقا مطنا حين كرر الرجل السمين صاحب المكتب.
_"إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر دينارا."
-"وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟"
-"طبعا ستصل سالما، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل … ولكنك ستصل .."
كانت الغصة ما تزال في حلقه، ولكنه أحس انه إذا ما اجل ذلك الذي سيقوله فلن يكون بوسعه ان يلفظه مرة اخرى :
-"لقد سافرت آلافا من الأميال كي اصل إليك، لقد أرسلني سعد، أتذكره؟ ولكنني لا املك إلا خمسة عشر دينارا، ما رأيك ان تاخذ منها عشرة وتترك الباقي لي؟"
قاطعه الرجل:
-"إننا لا نلعب .. ألم يقل لك صديقك أن السعر محدود هنا؟ أننا نضحي بحياة الدليل من أجلكم.."
-"ونحن أيضا نضحي بحياتنا.."
-"إنني لا أجبرك على هذا "
-"عشرة دنانير؟"
-"خمسة عشر دينارا..ألا تسمع؟"
لم يعد بوسعه أن يكمل، كان الرجل السمين الجالس وراء كرسيه، المتصبب عرقا، يحدق إليه بعينين واسعتين و تمنى هو لو يكف الرجل عن التحديق، ثم أحس بها، ساخنة تملأ مؤقه و على وشك أن تسقط .. أراد أن يقول شيئا لكنه لم يستطع، أحس أن رأسه كله قد امتلأ بالدمع من الداخل فاستدار وانطلق إلى الشارع، هناك بدأت المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع : اتصل أفق النهر بالسماء وصار كل ما حوله مجرد وهج ابيض لا نهائي، عاد، فارتمى ملقيا صدره فوق التراب الندي الذي اخذ يخفق تحته من جديد .. بينما انسابت رائحة الأرض إلى انفه وانصبت في شرايينه كالطوفان.