والي يحط اي بحث من موضوع الكتاب ما مشكلة
انهيار السدود الوثنية أمام الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 – 26].
تتناول هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة يوم حنين وما حفل من وقائع وأحداث جسام، انتهت بانهيار السدود الوثنية أمام الإسلام، وهو الأمر الذي أكسب انتصار المسلمين في غزوة حنين ميزات على غيرها من الانتصارات السابقة عليها.
ذلك أن وقائع غزوة حنين جاءت بعد خمسة عشر يومًا من فتح مكة، الذي حدث لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وهو الفتح الذي جاء فتحًا مبينًا؛ حيث أزال دولة الوثنية من مكة، وحطم الرسول الكريم الأصنام بالكعبة، واتسع نطاق الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم بالمدينة المنورة لتضم مكة أهم مدن الحجاز.
وكان فتح مكة قد أفزع المشركين من أتباع الوثنية، وعمدوا إلى تكوين حلف قبلي منهم، يكون قادرًا على إفساد هذا النصر الذي ناله المسلمون بالقضاء على رأس الوثنية في مكة، وتشكيل سدود مانعة تحول بين الإسلام والانتشار من معقله الجديد في مكة، حيث أخذت سائر القبائل العربية تتطلع إلى الدين الإسلامي الحنيف، وتفهم تعاليمه وأهدافه السامية بعد أن استسلمت رأس المقاومة، وهي قبيلة قرش.
وكانت قبيلة هوازن النازلة آنذاك في جنوب شرق مكة أول من أحس خطورة فتح مكة على كيان الوثنية، وتولى زعيمها مالك بن عوف النصري الدعوة إلى عقد تحالف وثني يقف أمام المسلمين في مكة.
ويشرح ابن هشام في "سيرة النبي" خطوات هذا الحلف الوثني قائلاً: "ولما سمعت هوازن برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما فتح الله عليه من مكة – جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال"، وهو حشد قبلي وثني خطير.
وبادر مالك بن عوف النصري الاستعداد للحرب؛ جريًا على النظام القبلي التقليدي؛ حيث بعث عيونًا من رجاله لاستطلاع المسلمين في مكة.
وقد حمله تقرير عيونه على الاستمرار في الاستعداد للحرب؛ حتى لا تضعف روح رجاله المعنوية، ذلك أن عيونه قد أتوا إليه – كما ذكر ابن هشام – وقد تفرقت أوصالهم؛ فقال: "ويلكم! ما شأنكم؟! فقالوا: ((رأينا رجالاً بيضًا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى".
وجمع مالك بن عوف النصري قواته في "أوطاس" – وهو وادٍ في ديار هوازن – وعقد مجلسًا حربيًّا للتشاور مع قادة رجاله، وكانت تعبئة هذا الحلف الوثني تجري على النظام القبلي البائد، القائم على اصطحاب الجيش للنساء والأموال؛ استثارةً لحمية المقاتلين وحملهم على الاستماتة في القتال دفاعًا عن نسائهم وأموالهم، وانتقد أحد قادة هذا التحالف – وهو "دريد بن الصمة" شيخ "جشم" – هذه التعبئة القبلية، حين سمع أصوات هذا الحشد الكبير، وما اختلط به من أصوات الدواب.
وشرح ابن هشام في "سيرة النبي" الحوار الذي دار بين "دريد بن الصمة"، و"مالك بن عوف" قائلاً: "سأل دريد مالكًا: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار – صوت – الشاة؟، قال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم؛ فقال دريد: ولم ذاك؟! فقال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم! وسخر دريد من هذا اللون من التعبئة، وقال لمالك: إنك راعي ضأن – أي: لا علم له بالقتال – والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ورفض مالك الاستماع إلى رأي دريد، وتمادى في تنفيذ رأيه، والقيام بعدوان على المسلمين.
وكان الرسول الكريم حين بلغته أنباء هذا الحلف الوثني قد بعث عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي ليستطلع الخبر، وعاد إلى الرسول الكريم يؤكد له صحة هذا التجمع الوثني الخطير، وسار الرسول الكريم إلى وادي حنين على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، ممن سبق لهم فتح مكة، فضلاً عن ألفين من المقاتلين الذين انضموا إلى هذا الجيش ممن أسلموا من أهل مكة، واستولى الزهو بالمسلمين لكثرة عددهم، وقالوا: "لن نهزم بعد اليوم من قلة"، واندفعوا عبر الشعاب المؤدية إلى وادي حنين.
وكان الحلف الوثني يترصد مسيرة المسلمين، وكمن لهم في شعاب الوادي، ثم هاجم القوات الإسلامية في غسق الليل السابق مباشرة للفجر، وهو الأمر الذي أدى إلى اضطراب الطلائع الإسلامية أمام هذا الهجوم المباغت الذي أعد له قائد الحلف الوثني كل عدته، اعتمادًا على تخطيطه القبلي، وأشار القرآن الكريم إلى ما حدث في قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
وتحطمت هذه الهجمة الوثنية المفاجئة أمام ثبات جأش الرسول الكريم وشجاعة أفراد الجيش الإسلامي، الذين لم تتزلزل قلوبهم، إذ أمر الرسول الكريم العباس بن عبد المطلب – وكان يتميز بصوت جهوري – أن يصيح في المسلمين يحثهم على الثبات، وعلى الالتفات حوله؛ فكان ينادي كل مجموعة:
"يا معشر أصحاب الشجرة
يا معشر أنصار الله وأنصار رسوله
يا معشر الخزرج"..
فأجابوه: لبيك لبيك.
واندفعوا اندفاعًا سريعًا، بحيث كان الرجل منهم يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه في عنقه، ثم يأخذ سيفه وترسه ويؤم الصوت، حتى اجتمع عند الرسول الكريم نحو مائة، وهو يقول: ((الآن حمي الوطيس))، حيث عادت الجولة لجيش المسلمين، بعد أن زالت عنهم صدمة الهجوم الوثني المفاجئ، وأخذ النظام الإسلامي وما تحلى به المسلمون من روح الجهاد الإسلامي يظهر جليًّا في انهيار السدود الوثنية سريعة، وانقلاب الموقف، حيث أخذت حشود الوثنية تفر من ميدان المعركة، وعلى رأسها قائد الحلف الوثني نفسه، وهو "مالك بن عوف" الذي فر إلى الطائف، حيث حلفاؤه من "قبيلة ثقيف".
وذكر القرآن الكريم هذا التبدل في موقف المسلمين في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
وجمع الرسول الكريم غنائم هوازن وأرسلها إلى الجعرانة حتى ينتهي من تتبع فلول الحلف الوثني، وكانت غنائم كبيرة، بلغت من السبي ستة آلاف ما بين نساء وذرية، وعدد الإبل أربعة وعشرون آلفًا، وعدد الغنم أكثر من أربعين ألف شاة، ومن الذهب أربعة آلاف أوقية.
وضرب الرسول الكريم وجيشه الحصار حول الطائف التي التجأت إليها فلول هوازن، وعلى رأسها شيخها وقائد الحلف الوثني، وهو مالك بن عوف، ولكن كان شهر ذي القعدة، – وهو من الأشهر الحرم – قد اقترب، ومن ثم رفع الرسول الكريم الحصار عن الطائف، التي غدت تقف وحدها، بعد أن انهار تحالف الوثني مع هوازن، وغدا أهلها – وبخاصة قادة قبيلة ثقيف – يدرسون أمثل السبل للتخلي عن عنادهم الوثني، والدخول في الدين الإسلامي، وساعد على سرعة تبدد تلك السدود الوثنية التي رغبت هوازن وثقيف في إقامتها أمام الإسلام تلك السياسة الرفيعة التي اتبعها الرسول الكريم في توزيع الغنائم، التي كانت في "الجعرانة" في انتظار عودته من الطائف.
وكان من أهم ما أظهر عظمة الإسلام، وأوضح لمن وقع في أوهام الوثنية سوء ظنهم بالدين الجديد: أن الرسول الكريم أعاد جميع السبايا؛ حيث ردهن مكرمات، بعد أن كساهن كسوة كريمة، فكساهن من "القباطي"، وهي ثياب مشهورة بجودتها وجمالها، وأخذت اسمها نسبة إلى أقباط مصر الذين تولوا صناعتها، ونالت كل واحدة من السبايا "قبطية".
وأخذت الوفود تأتي من هوازن تعلن إسلامها وتخليها عن الوثنية، شاكرةً لله – سبحانه وتعالى – أن هداها إلى ذلك الدين الحنيف، وكان على رأس الوافدين على الرسول شيخ هوازن نفسه، وهو مالك بن عوف، الذي خرج من الطائف سرًّا بعد أن علم بذلك النهج السامي الذي اتبعه الرسول الكريم في معاملة سبي هوازن، وأعلن إسلامه، وأصبح مجاهدًا في سبيل نشر الإسلام، وبخاصة في الطائف وأهلها.
وعاد الرسول الكريم إلى المدينة بعد انهيار هذا الحلف الوثني وسدوده، داعيًا: "اللهم اهد ثقيفًا وأتِ بهم))، وتحققت سريعًا تلك الهداية؛ حيث خرج أحد شيوخ ثقيف – وهو عروة بن مسعود – إثر عودة الرسول الكريم، حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، وأعلن إسلامه، وهو الأمر الذي حمل ثقيفًا بالرغم من قتلها لهذا الشيخ الجليل أن تفيق من عنادها وإصرارها على الوثنية التي انهارت سدودها تمامًا في غزوة حنين، وبادرت بإرسال وفودها تعلن إسلامها، وتخليها التام عن الوثنية التي انتهى عهدها، وصارت كلمة الإسلام هي العليا؛ فقد تقرر في العام التالي ليوم حنين – وهو العام التاسع للهجرة – إقصاء كل معالم الوثنية عن الحياة الإسلامية؛ حيث نزل في سورة التوبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وطويت صفحة الوثنية إلى الأبد، وأخذت الإنسانية تنعم بأشعة الإسلام ونوره المبين.
أعتذر عن أي تقصير