وهذا بحث ثاني ايضا عن الدولة الحمدانية
الدولة الحمدانية
نسب الحمدانيين
ينتسب الحمدانيون إلى جدهم حمدان بن حمدون التغلبي، حيث له ثمانية أبناء، هم: أبو الهيجاء عبد الله والد سيف الدولة، و أبو اسحق إبراهيم، و أبو العلاء سعيد والد أبي فراس، و أبو الوليد سليمان، و أبو السرايا نصر، و علي، و أبو علي الحسن، و أبو سليمان المزرفن.
و في قلعة منيعة ببلدة ماردين من أعمال الموصل، و في باكورة النصف الثاني من القرن، الثالث الهجري كانت السيادة لحمدان بن حمدون، فبعد أن خاض دوراً فاعلاً في ساحات الجهاد ضد الروم البيزنطيين و احرازه انتصارات باهرة، بدأ شخصه يظهر على مسرح الحياة السياسية للدولة العباسية، و كان ذلك في حدود سنة 354هـ. و مما عزز موقعه وتأثيره في مجريات الأحداث و التطورات الدور الذي لعبه في مقاتلة الخوارج و التصدي الباهر للكثير من الغارات العسكرية التي كانوا يشنونها ضد الثغور العباسية، فلا تكاد معركة حربية تجري في منطقة الموصل، الا و يكون حمدان التغلبي شريكا فيها، منتصراً تارة و منهزماً تارة أخرى.
و ظل حمدان يتحين الفرصة للزعامة، و لا يكاد يتركها تفلت منه، فيتحالف مع أعداء الأمس من الخوارج، و يدخل مدينة الموصل فاتحاً، معه حليفه الجديد هارون الشاري الخارجي و تطول فترة التحالف مع الخارجي فيخوض في صفه أكثر من معركة، و يربح له أكثر من نصر، كان أهمها جميعاً هزيمة بني شيبان حينما حالوا دون دخول الموصل، و مطاردتهم و تملك ديارهم.
غير أن حالة الموصل ظلت تقض مضجع الخليفة العباسي في بغداد، و خروج حمدان على حظيرة الخلافة تزيد الأمور خطراً، فيخرج الخليفة المعتضد بنفسه عامداً لحمدان بن حمدون في الموصل سنة 281 هـ فيستردها و يحتل قلعة ماردين مقر ابن حمدون، و ينقل ما بها من خيرات و يهدمها، و لا يزال حمدان يفر من بلد إلى بلد حتى تضيق به السبل بعد ان عجزت قلاعه عن حمايته، فلا يجد بداً من أن يذهب إلى خيام المعتضد مسلماً نفسه، فيوضع في السجن حتى ينتصر ولده الحسين على هارون الشاري فيطلق الخليفة سراح أبيه مكافأة له.
و بدأ نجم ولده الحسين يلمع كسيف من سيوف الخلافة، يخوض المعارك فلا يكاد ينهزم في واحدة إلا لينتصر في عشر بعدها. و لعل في نجاح الحسين إلحاق الهزيمة بالقرامطة و هم ألد أعداء حكم الخلافة العباسية، و كذلك محاصرته لعسكر بني تميم و ردهم عن حلب، و دحره للطولونيين، كان من أبرز إنجازاته و انتصاراته التي جعلته يحظى باعتماد الخليفة العباسي و اهتمامه الخاص به، و بالتالي تبوءه تلك المواقع القيادية الحساسة المتقدمة في سلم المسؤوليات و الصلاحيات، و كذا نيله تأييد و تعاطف طبقات واسعة من الأمة، لا سيما في البلدان و الأقاليم التي فتحها و حررها على يديه، كبلاد فارس و مصر.
لماذا ركز الأمراء الحمدانيون على الموصل
لم يكن أمراً غريباً أن يركز كل أمير حمداني أفكاره و اهتماماته في الموصل واحكام قبضته عليها دون غيرها من الأقاليم. فلقد عرضت عليهم ولايات كثيرة ذات خصوصيات و امتيازات معينة، مثل نهاوند و قم و كاشان و أرمينية و أذربيجان و خراسان و مصر، فلم يرضوا بديار ربيعة و الموصل بديلاً. و الواقع إنهم إختاروا الموصل لأكثر من سبب، فهي جماع عصبتهم و هي غنية بخيراتها حتى أن ميرة بغداد كانت منها. هذا فضلاً عن ان المنطقة كلها من العرب المتعصبين للحمدانيين من أمثال ديار ربيعة و ديار بكر و ديار مضر.
على أن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان هو الأمير الوحيد من بين أخوته الذي استقامت له ولاية الموصل أطول مدة من الزمن، و رغم أنه عزل عنها ثلاث مرات، و لكنه عاد إلى امرتها من جديد و قتل فيها سنة 317هـ لكي يكمل بناء الملك فيها من بعد إبنه الآخر علي الذي لقب بـ(سيف الدولة)(1) ملكاً مجاوراً في حلب.
و كان قد تمكن أن يقنع الخليفة المكتفي بأن يوليه إمرة الموصل و أعمالها لأول مرة سنة 293 هـ، و هو التاريخ الذي يذهب كثير من المؤرخين إلى أنه البداية الحقيقية لدولة بني حمدان.
بداية الوصول للسلطة السياسية
كان سلطان الخليفة العباسي معطلاً أو شبه معطل منذ ان قوي النفوذ التركي في دار الخلافة، و نتيجة لذلك نشأت وظيفة جديدة لم يعرفها الخلفاء العباسيون قبل أوائل القرن الرابع، هي وظيفة ((أمير الأمراء)) الذي كان يجمع في يديه كل أنواع السلطات من سياسية و عسكرية و أحيانا يتمادى في الأمر فيصدر سكة النقد باسمه و يخطب له على المنابر في أيام الجمعة عند الصلاة.
و حين دخل البريديون بغداد سنة 330هـ، اضطر الخليفة العباسي المتقي ان يلتمس لنفسه مكاناً للنجاة، فلم يجد خيراً من الموصل حيث الأمير الحمداني القوي القادر على حمايته و إعادة عرشه إليه، فيمم وجهه شطرها و برفقته أمير الأمراء أبو بكر محمد بن رائق، و لما كان الأمير الحمداني طموحاً، نزاعاً إلى توطيد ملكه، نهازاً للفرص، فقد أرسل إلى ابن رائق من قتله. و لم يشأ الأمير الحمداني ان يضيع وقتاً فاصطحب الخليفة و سار على رأس جيش كبير معقوداً لواءه على أخيه الأصغر علي، و ما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا البريديون بأنفسهم، و فروا أمام الجيش الحمداني، و عاد الخليفة إلى قصره آمنا مطمئناً، فأنعم على الحسين بن حمدان بلقب (ناصر الدولة)، و على أخيه علي بلقب (سيف الدولة).
و في بغداد تولى ناصر الدولة أمرة الأمراء، و سكن القصور و ضرب دنانير جديدة، و بدأ نجمه يصعد نتيجة لانتصاره مع أخيه سيف الدولة على البريديين في عدة مواقع، و لعل من نتيجة ذلك أن زوج الخليفة المتقي إبنه (أبا منصور) من إبنة ناصر الدولة، و بذلك ارتفع مقام الأسرة الحمدانية إلى مقام سام سمح لهم بمصاهرة الخلفاء.
على أن أمرة الأمراء لم تطل مع ناصر الدولة الذي اضطر بعد ثلاثة عشر شهراً، و نتيجة لشغب الجنود عليه و حنينه إلى الموصل، أن يترك بغداد، و ان يعتزل وظيفة إمرة الأمراء متجهاً إلى مقر ولايته العتيدة.
و لكن لا يكاد ناصر الدولة و أخوه سيف الدولة يغادران بغداد حتى تسوء الحال من جديد و يشغب الأتراك على الخليفة و يمتهنون مكانته، فيسارع الخليفة إلى الاستنجاد بالأميرين الحمدانيين، و لكن أمر المملكة الناشئة (المملكة الحمدانية) يشغلها عن الخليفة و عن إجابته إلى ما أراد، و يظل الامر شبه مستتب لناصر الدولة، و تعقد بينه و بين توزون التركي معاهدة يقتسمان بمقتضاها أرض الخلافة، على أن تكون الأعمال من مدينة الموصل إلى أعالي الشام لناصر الدولة، و أعمال السن إلى البصرة لتوزون، و ما يفتحه من وراء ذلك، و يظن كل من ناصر الدولة و توزون أن حالة الاستقرار هذه ستستمر طويلاً، الا انهما يفاجئان بأحداث تعكر هذا الصفو حينما تتقدم جيوش الديلم الزاحفة من الشرق بقيادة معز الدولة بن بويه فتسقط بغداد في يديه سنة 334هـ، و يقع الخليفة فريسة للغازي الجديد.
إمارة الموصل
تمكن أبو الهيجاء أن يقنع الخليفة العباسي المكتفي بأن يوليه أمرة الموصل و أعمالها لأول مرة سنة 293هـ، و خلال فترة ولايته 293 – 37، فانه عزل خلالها مرتين إحداهما سنة 301، و الأخرى حينما قبض عليه مع اخوته في بغداد سنة 303، و يلاحظ ان فترة بعده عن الموصل بعد عزله في المرة الثالثة قد طالت بعض الوقت، على أنه اضطر في آخر أيامه إلى أن ينيب عنه ولده الحسن (ناصر الدولة) على الموصل، و ان يظل هو ماثلاً في بغداد.
و بالرغم ان الحسن قد ولي أمر الموصل بعد أبيه، الا انه لم يعش يوماً واحداً مستقراً على كرسي الأمارة الا بعد ذلك بسنوات عديدة، ذلك ان الخارجين في منطقته قد كثروا بعد موت أبيه، فاضطر إلى قتالهم و ملاحقتهم، و كان هؤلاء الخارجون على جانب من القوة و البطش، الأمر الذي كلف الحسن الكثير من الوقت و الجهد، و لا يكاد الحسن ينتهي من القضاء على الخارجين حتى يظهر له منافس من أهله يريد إزاحته عن مكانه ليستأثر به، و بالفعل سعى عمه سعيد بن حمدان للاستيلاء على الموصل، فاستعمل الحسن معه الحيلة حتى قتله سنة 323هـ، و بذلك خلا الجو للحسن الذي عرف بعد ذلك بسنين باسم (ناصر الدولة)، و هذا ما اعتبره البعض انه البداية الفعلية لقيام الدولة الحمدانية في الموصل.
اشتد ساعد سيف الدولة في وقت تكون فيه الخلافة العباسية مهددة ببعض الخارجين عليها من ذوي الجرأة و الشكيمة حينها ينطلق البريديون من البصرة متجهين إلى بغداد سنة 330هـ فيستولون عليها و يخربون عمائرها، و يسلبون قصر الخليفة الذي يرسل إلى الحسن بن حمدان مستنجداً به، و يعز الأمر على الحسن فيكتب إلى أخيه القائد الشاب علي (سيف الدولة) المقيم في نصيبين أن يهب لإنقاذ الخليفة المتقي، فينطلق الأمير إلى بغداد، و لكن البريدي يكون قد تم له الظفر على الخليفة الذي هرب في طريقه إلى الموصل، و يلتقي بسيف الدولة في الطريق، فيمهد وسائل الراحة له و لحاشيته وأتباعه.
و يصطحب الأمير الحمداني الخليفة على رأس جيش متجهين إلى بغداد لاستردادها من البريديين، و يلحق بهم الحسن بن حمدان، و لا يكاد البريديون يحسون بمقدم الأمير الشاب حتى يتركوا بغداد و يولوا الادبار نحو الجنوب، فيدخل الخليفة إلى عاصمته و قصوره، و يخلع على الحسن بن حمدان لقب (ناصر الدولة) و يخلع على الشاب علي بن حمدان لقب (سيف الدولة)، و يأمر ان، تكتب أسماؤهم على الدنانير و الدراهم.
و تدفع نشوة النصر سيف الدولة إلى متابعة و مطاردة البريديين، فيزيحهم عن واسط التي كانوا قد عسكروا بها، و يعد العدة للزحف إلى عاصمتهم (البصرة) للقضاء عليهم نهائياً، و هنا يتنبه حساده من القواد الأتراك، إلى خطر هذا القائد العربي الحمداني و يختلفون معه و هو في واسط متأهباً للمعركة الكبرى، و يحاول القائد الحمداني ملاينتهم و استصلاح أمرهم، و لكنهم يحاولون أن يوقعوا بالأمير الشاب فيستعمل الحيلة حتى يستتر بجنح الليل و يعود إلى بغداد، و تشتد شوكة الجنود و القواد الأتراك و على رأسهم توزون، فيضطر الأميران الحمدانيان إلى مغادرة بغداد نهائياً و العودة إلى الموصل.
إمارة حلب
في سنة 332 قلد ناصر الدولة ابن أخيه الحسين بن سعيد بن حمدان، حلب و أعمالها و ديار بكر والعواصم، وكل ما يفتحه من الشام، و يمد ناصر الدولة يد المساعدة والعون للحسين الــــذي يحرز بعض الانتصارات أول الأمر ثم لا يلبث ان يفر أمام جيش الإخشيد الذي كانت له الولاية على تلك البلاد.
وفي سنة 332 تقرر بين توزون أحد قواد الخليفة العباسي، و بين ناصر الدولة الحمداني أن يكون للأول أعمال البصرة و ما إليها، و للثاني الموصل و اعمال الشام.
و في سنة 333 سار الإخشيد إلى مصر و ولى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلالي فحسده اخوته الكلاليون، و استدعوا سيف الدولة علياً بن حمدان ليولوه على حلب، فقدم إليها سيف الدولة بالاتفاق مع أخيه ناصر الدولة، ثم سار منها إلى حمص، فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج صاحب الشام و مصر مع مولاه كافور، و اقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد و كافور و ملك سيف الدولة مدينة حمص و سار إلى دمشق، فحاصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع، و كان الإخشيد قد خرج من مصر إلى الشام، و سار خلف سيف الدولة فالتقيا في قنسرين، فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر، و رجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب.
و لما ملك سيف الدولة حلب، سارت الروم اليها، فخرج إليهم فقاتلهم بالقرب منها فظفر بهم و قتل منهم. و لم يكد سيف الدولة يستقر في حلب، حتى بلغه عزم الإخشيد على السير إلى حلب، فالتقيا في قنسرين فانهزم سيف الدولة، و استولى الإخشيد على حلب، فبالغ في إيذاء الحلبيين لميلهم إلى سيف الدولة. و في ربيع الأول من سنة 334 تقرر الصلح بين الأميرين، على ان تكون حلب و حمص و إنطاكية لسيف الدولة، و دمشق للإخشيد، على أن يدفع عنها إلى سيف الدولة إتاوة سنوية. و في هذه السنة مات الأخشيد في دمشق، و ولي بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، فاستولى على الأمر كافور و غلب أبا القاسم و استضعفه و تفرد بالولاية، فسار كافور إلى مصر، فقصد سيف الدولة دمشق فملكها و أقام فيها، فأستدعى الدمشقيون كافورا فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة 336 و استطاع كافور هزيمة سيف الدولة و دخول حلب.
ولكن سيف الدولة عاد في السنة نفسها فاستولى على حلب، و كان ذلك دخوله الثالث إليها، ثم تجدد الصلح بين سيف الدولة و ابن الإخشيد على الصفة التي كانت بينه و بين الإخشيد دون الإتاوة السنوية و استقر سيف الدولة في حلب.
وقد قال أحد المؤرخين عن دولة الحمدانيين في حلب إنها:(كانت عزيزة مستقلة في أولها، ذليلة خاضعة في آخرها).
تشيع الحمدانيين
كان مجتمع حلب أكثره على مذهب أبي حنيفة النعمان، و بعضه الآخر كان شافعي المذهب، و لكن ما يلبث الحمدانيون ان يمتلكوا حلب و كانوا شيعة، فحافظ المجتمع في أول الأمر على عقيدته السنية ثم غلب التشيع على حلب و غيرها، مع بقاء الكثير من السنيين.
ولعل من الخير و المفيد هنا الإشارة إلى وضع غير المسلمين من النصارى و اليهود، فلقد عاشوا حياة آمنة مطمئنة في ظل دولة سيف الدولة، و بالرغم من الاتجاه العدواني الصليبي الذي تمثل في هجمات البيزنطيين على الإمارة العربية، و ما كان يحمل في ثناياه من روح التعصب الشديد، على كل غير مسلم فقد شملت سماحة الحمدانيين كل غير مسلم أقام بين ظهرانيهم فعاشوا في مزارعهم و منازلهم الريفية، و تمسكوا بتقاليدهم الثقافية و حافظوا على لغاتهم الأصلية و هي الآرامية و السريانية.
و لم يكن نشاط غير المسلمين محصورا في المجتمع الشعبي وحده، بل كانوا يلقون التسامح في قصر الأمير الذي لم يتردد في تقريب كثير منهم اليه، حتى ان ابن دنحا اكثر خدامه صلة به و إخلاصا إليه كان نصرانياً، و كان كبير أطبائه عيسى الرقي نصرانياً، وكان الأمير يجزل له العطاء و يعطيه أربعة أرزاق أو اربعة مرتبات، كما لمع منهم تحت رعاية سيف الدولة مهندسون و رياضيون فلكيون و أشهرهم ديونسيوس بطريرك اليعاقبة و المجتبي الأنطاكي و قيس الماروني.
مزايا الحكم الحمداني
1 – التسامح المذهبي من جانب أمراء الدولة الحمدانية (الشيعية) إزاء أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى من أبناء الأمة المسلمة، فلم ترد أية أخبار عن مشاحنات أو نزاعات جرت بين السنة و الشيعة، لا سيما في إمارة حلب، كالتي جرت في البلدان الأخرى، مما يدل على ان هذا المجتمع (في ظل الحمدانيين) من الناحية العقيدية كان مجتمعاً خالياً من التعصب المذهبي، حتى أن احمد بن اسحق الملقب بـ(أبي الجود) الذي وليّ قضاء حلب بعد أبي الحصين كن حنفي المذهب. كما أن الكثير من اتباع المذهب السني تحولوا طواعية و عن قناعة تامة إلى المذهب الشيعي، و لدرجة ان الغالبية من أهل حلب و الذين كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، و كذلك مذهب الشافعي، تحولوا إلى شيعة.
ولم يتحدد التسامح الديني عند حدود المسلمين، بل شملت ساحته اتباع الديانات الأخرى كالمسيحية و اليهودية، إذ عاش أولئك بكل أمان و طمأنينة، و تمتعوا بكل حقوقهم و لغتهم و تقاليدهم و ثقافتهم.
2 – ساهم قيام الدولة الحمدانية في صيانة الشرق الإسلامي من مخططات ومكائد عداء الإسلام الغزاة، إذ استطاع سيف الدولة علي بن حمدان ان يرد الروم البيزنطيين على أعقابهم، و أن يصون سوريا، من غزوهم، و قد كان في صيانة سوريا صيانة بلاد الإسلام كلها، لا سيما مصر و العراق، فلو استطاع البيزنطيون احتلال سوريا، لنفذوا منها إلى أعماق مناطق الشرق الإسلامي، بل و حتى غربه.
3 – تحول بيئة حلب و الموصل إلى بيئة خصبة للآداب و الفنون و العلوم المختلفة، فقد اهتم الأمراء الحمدانيون و منهم سيف الدولة بالذات بالشعراء و الكتاب و العلماء أشد اهتمام، و كان تكريمه لهم تكريماً مميزاً، و كانت مجالس الأمراء تعج على الدوام بمجاميعهم، حيث مجالس الأدب و الحديث و مباريات الشعر و يذكر الثعالبي انه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر و نجوم الدهر، و منهم خطيبه ابن نباتة الفارقي، و معلمه ابن خالويه، و طباخه كشاجم، و خزّان كتبه الخالدي و الصنوبري، و مداحه المتنبي و السلامي والواءواء الدمشقي و الببغاء و النامي و ابن نباتة السعدي و غيرهم.
و يذكر الغزالي أن الكثير من علماء العصر قد تخرجوا من ندوة دار سيف الدولة و كذا بالنسبة للشعراء و الأدباء و تلك الندوة كانت بحق مدرسة العلم و الأدب.
4 – ترسيخ مفاهيم الصمود و المقاومة و الجهاد و التضحية في سبيل العقيدة و المبدأ، في أوساط المجتمع الإسلامي، و هذا ما تجسد عبر الدفاع المستميت الذي جسده الشيعة الحمدانيون و أمراؤهم دفاعاً عن حياض الإسلام و البلاد الإسلامية ضد أطماع قوى الكفر و العدوان، التي كانت تبغي الهيمنة و استعباد المسلمين، أمثال الغزاة البيزنطيين و سائر قوى الغزو الصليبي الأوربي.
يقول الدكتور فيصل السامر: لعل أهمية الدولة الحمدانية في (حلب)، لا تكمن في كونها مجرد دولة مستقلة من تلك الدويلات الكثيرة، التي ظهرت أبان ضعف السلطة المركزية و ضياع هيبة الخلفاء العباسيين فحسب، و لا مجرد كونها مركزاً هاماً من مراكز الإشعاع الثقافي و الجذب الفكري في تلك الحقبة الزاهرة حضارياً من تاريخ الدولة العربية الإسلامية، بل لكونها إحدى الدويلات العربية القلائل التي قامت على حساب الخلافة العباسية، و لأنها وقفت سداً منيعا في وجه الغزو البيزنطي الذي كان يستهدف بيت المقدس.
و يقول الدكتور فاروق عمر في الجزيرة الفراتية ظهر الحمدانيون و يمثل ظهورهم قوة نفوذ القبائل العربية في هذه المنطقة بحيث استطاعت ان تكون كيانات سياسية واضحة، حيث استطاعت قبيلة تغلب ان تكون الدولة الحمدانية في الموصل و حلب.
أمراء الدولة الحمدانية
إمارة حلب
إمارة الموصل
فترة حكمه
الأمير
فترة حكمه
الأمير
332 ـ 356 هـ
علي بن حمدان
الملقب بـ(سيف الدولة)
281 ــ 293هـ
الحسن بن حمدان
الملقب بـ(ناصر الدولة)
358 ـ 381هـ
إبنه (أبو المعالي)
293 ــ 317هـ
عبد الله بن حمدان
(الملقب أبا الهيجاء)
381 ـ 392هـ
ابنه (ابوالفضائل)
سعيد الدولة
317ــ 356 هـ
ابن ناصر الدولة
356 ــ 367 هـ
أبو تغلب
ملاحظة: بالنسبة لـ عبد الله بن حمدان (أبو الهيجاء) تولى لفترة كذلك إمارة حلب و ديار ربيعة و خراسان و الدنيسور.
نهايات الدولة الحمدانية
كان لناصر الدولة أكثر من ولد، اشتهروا بما اشتهر به ذووهم من جرأة و مغامرة، و كان واحد من هؤلاء و يدعى (أبا تغب) قد عرض على أبيه، ان ينتهز فرصة موت معز الدولة البويهي، فينطلق إلى بغداد للثأر من ابنه عز الدولة، الذي كثيراً ما قام أبوه بشن الحرب على ناصر الدولة، و لكن ناصر الدولة صاحب التجربة و منشئ المملكة، لا يقر إبنه على هذا الرأي، فيقبض الولد على أبيه و يودعه السجن، و يبدأ هو بنفسه مزاولة الحكم، وفي تلك الأثناء يطير الخبر إلى حمدان بن ناصر الدولة، و أخي أبي تغلب، حيث كانت ولايته في الرحبة، فيهب لإنقاذ أبيه من أخيه العاق، و تجري بين الأخوين معارك شديدة تضعف بسببها منعة الدولة الحمدانية التي دعمها الشيخ السجين.
يموت الأمير الشيخ السجين في تلك الأثناء في سنة 358 هـ، و يظل الخلاف على أشده بين الأخوين.
ثم لا يلبث أن تمتد آثاره لتشمل بقية الأخوة من أبناء (ناصر الدولة)، مما يشجع الروم البيزنطيين على الاعتداء على أعمال الموصل أكثر من مرة فينتصرون مرة و ينهزمون أخرى.
و يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى فيزحف عز الدولة بختيار إلى الموصل و معه حمدان و إبراهيم أخوا أبي تغلب إلى بغداد و يدخل كل منهما بلد الآخر تماما كما حدث بين أبويهما قبل ذلك بتسع و عشرين سنة.
و يدوم الخلاف بينهما مدة لا يلبثان بعدها أن يتصالحا لما بينهما من علاقة النسب فلقد كان أبو تغلب متزوجاً من إبنة بختيار.
و تلعب يد الأقدار دورها فيغير عضد الدولة البويهي على بغداد و يقتل بختيار ويواصل زحفه إلى الموصل، فيهرب منها أبو تغلب، و لا يزال عضد الدولة يطارده من بلد إلى بلد، و يظل شريداً يضرب في آفاق الأرض حتى يأسره بعض رجال الفاطميين في الرملة بفلسطين.
و ضربت رأسه و أرسلت إلى مصر، و بذلك انتهت دولة الحمدانيين في الموصل مبكرة على غير توقع و كان ذلك سنة 367هـ.
(1) سيف الدولة هو علي بن حمدان المولود سنة 303هـ (915م)، و المتوفى سنة 356هـ في عاصمته حلب، و كانت مملكته تشمل جند حمص و جند قنسرين و =الثغور الشامية و الجزيرة و ديار مضر و ديار بكر، و كان ابتداء وصوله إلى حلب سنة 333هـ، و انقرضت دولة بني حمدان سنة 406هـ و أخرهم في حلب المنصور، و قد دامت دولتهم زهاء سبعين سنة.