الإمام أحمد بن حنبل وانتشار المذهب الحنبلي
ولد الإمام أحمد بن حنبل في أفغانستان من أصل عربي شيباني. ونشأ في بغداد. ولم يرحل في سبيل طلب الحديث إلا بعد وفاة والدته. وامتحن بشدة من قبل المأمون ثم من قبل المعتصم والواثق في مسألة خلق القرآن، حتى أطلق سراحه المتوكل. وسيرته أشهر من أن نذكرها في هذا المقام.
القراءة التي اختارها: قرأ الإمام أحمد على يحيى بن آدم وهو يروي رواية شعبة أبي بكر بن عياش عن عاصم (نعم: أبو بكر وليس حفص)، وقرأ برواية إسماعيل ابن جعفر عن نافع (وهي غير روايتي قالون وورش)، وقرأ أيضا بقراءة أبي عمرو، ثم اختار الإمام أحمد لنفسه قراءة مؤلفة مما قرأه على مشايخه. كان لا يميّل فيه شيئا من القرآن، وكان لا يدغم فيه إدغاما كبيرا، وكان يمد فيه المنفصل. قال الإمام ابن قدامة في المغني (1|568): «نُقِلَ عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر. فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش. وأثنى على قراءة أبي عمرو بن العلاء. ولم يكره قراءة أحد من العشرة، إلا قراءة حمزة و الكسائي، لما فيها من الكسر والإدغام والتكلف وزيادة المد». وقال الإمام أحمد بن حنبل: «قراءة أبي عمرو أحب القراءات إلي. قرأ على ابن كثير ومجاهد وسعيد بن جبير، على ابن عباس، على أُبَيّ، على رسول الله (ص)». وقال: «عليك بقراءة أبي عمروٍ، لغة قريش وفصحاء العرب». وقال عن عاصم: «أهل الكوفة يختارون قراءته، و أنا أختار قراءته» (يعني من بين الكوفيين). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي: أي القراءة أحب إليك؟ قال: «قراءة أهل المدينة». قلت: فإن لم يكن؟ قال: «قراءة عاصم».
كان أحمد بن حنبل كثير النصح لتلامذته بعدم الأخذ بفقه الشافعي والمالكي والحنفي، فكان يقول: «اتبع الأصل ولا تأخذ من الرجل وأنت رجل مثله». وكان يكره كتابة فتواه، فقال يوماً لرجل: «لا تكتب رأيي، لعلِّي أقول الساعة مسألة، ثم أرجع غداً عنها» (الطبقات لابن أبي يعلي ص39). ووجد تلامذته صعوبات كثيرة عند كتابة الفقه الحنبلي، حيث وجدوا إجاباته على الكثير من المسائل غير قطعية، مثل "لا يعجبني" أو "لا أستحسن" أو "أكره". مما دفع تلامذته إلى اعتبار كل ما كرهه أحمد بن حنبل أولم يعجبه أولم يستحسنه، اعتبروا ذلك حراماً! وهذا من أسباب الغلو الذي تكون في المذهب.
لكن المعضلة الكبرى التي واجهت فقهاء الحنابلة، هو كثرة الروايات المتعارضة عن الإمام أحمد، بسبب كثرة تغييره لرأيه. وقلّ أن تجد مسألة خلافية إلا وله فيها أكثر من رأي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "جامع الرسائل" (3|400): «كلام أحمد كثير منتشر جداً، وقلّ من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من يأخذ عنه العلم. فأبو بكر الخلال قد طاف البلاد، وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحواً من أربعين مجلداً، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه».
لم يتبنى المذهب الحنبلي أحد من الحكام، مما أدى إلى انحساره كثيراً. ولولى تولي بعض الحنابلة لمذهب القضاء بين الحينة والأخرى، لربما انقرض المذهب مثل باقي مذاهب السلف الأخرى كمذهب الأوزاعي ومذهب الثوري. ومن ينظر في أماكن انتشار المذهب الحنبلي، يجد أنها ضيقة جداً. وبقي المذهب مقصوراً على أحياء في بغداد وعلى بعض مناطق بلاد الشام. ثم وصل قضاة حنابلة إلى مصر. لكنه لم يتعد هذه البلاد الثلاثة إلى العصر الحديث. وبقي الحنابلة قلّةً مبعثرة، إلى أن تبنته الدولة السعودية في عهودها الثلاثة. ومعلومٌ أنَّ من أقوى أسباب انتشار المذهب –أي مذهب– هو قيام علماء كبار يحتسبون في نشره، ودعم دولة قوية لهؤلاء العلماء.
مراحل تطور المذهب الحنبلي
ومن المعلوم أن المذاهب الفقهية مرت بمراحل في نشأتها، وصارت المدرسة الواحدة من المذهب تمر بمراحل متعددة. فمذهب بالحنابلة مر بثلاث طبقات زمنية:
الطبقة الأولى: طبقة المتقدمين (241هـ-403هـ): وتبدأ هذه المرحلة من تلامذة الإمام أحمد إلى زمن ابن حامد. ولا بد من الإشارة هنا إلى دور الإمامين عمر بن حسين الخرقي (ت343هـ) وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر (غلام الخلال) في تكوين المذهب الحنبلي. فمن المعلوم أنهما اختصرا جامع الخلال، ورجح كل منهما رواية من بين الروايات التي أوردها الخلال في جامعه في كل مسألة، واعتمدها على أنها هي المذهب. واتفقا في الترجيح إلا في بضع وثمانين مسألة أوردها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة غلام الخلال. واعتمد ابن قدامة في المغني ترجيحات الخرقي غالباً، حيث إن المغني هو شرح على مختصر الخرقي. وعادة تكون أشهر رواية بعد الرواية التي اختارها الخرقي هي الرواية التي اختارها أبو بكر.
الطبقة الثانية: طبقة المتوسطين (403هـ-884هـ): وتبدأ هذه المرحلة من زمن تلاميذ ابن حامد، على رأسهم القاضي أبو يعلي، وهذه المرحلة هي التي كان فيها كثير من أئمة الفقه الحنبلي. وأبرز من أثر في أوائل هذه الطبقة في صياغة المذهب هم القاضي أبو يعلي (وكان يميل إلى التجسيم)، وابن عقيل (وكان يميل إلى الاعتزال ثم رجع عنه)، وأبو الخطاب الكلوذاني. وهم يعتمدون كثيراً على ذكر المسائل عن أحمد، لكن الملاحظ أنهم ليسوا أصحاب استقراء تام لنصوص أحمد، بمثل ما هم أصحاب تخريج. ولهذا كان للقاضي أبي يعلى مع ماله من مقام فاضل في تقرير المذهب إلا أن كان له أخطاء كثيرة على الإمام أحمد سواء في باب الاعتقاد، أو في أصول الفقه، أو في المسائل الفقهية أو في دلالئها. وقد أدى انتشار كتبه إلى انتشار تلك الأغلاط، ودخولها على المتأخرين.
وإذا نظر إلى أصول فقه مذهب الحنابلة تجد أنه اعتمد على ثلاث أشخاص: الأول: القاضي أبو يعلى، ومن أهم كتبه العدة. الثاني: ابن عقيل البغدادي (431-513هـ)، ومن أهم كتبه الواضح. الثالث: أبو الخطاب، ومن أهم كتبه التمهيد.
وحين النظر إلى في طريقتهم أنهم أرادوا أن يخدموا مذهب الحنابلة، فأتوا إلى كتب أصول الفقه من المذاهب الأخرى (وهي طبعاً مرتكزة على علم الكلام الذي حاربه الإمام أحمد) وتلمسوا من كلام أحمد ما يدل على أقواله. ومن نظر في كتاب العدة تبين له ذلك بكل وضوح. ولذلك تجد أن القاضي كثيراً ما يقول أومأ إليه أحمد، يفهم من كلام أحمد. بل وينسب أقوالاً للإمام أحمد لا يمكن أن يقولها الإمام قطعاً! وذكر شيخ الإسلام أن للخلال كتاباً اسمه "العلم" ووصف شيخ الإسلام بقوله في الفتاوى (7|390): «كتابه في العلم أجمع كتاب يذكر فيه أقوال أحمد في الأصول الفقهية». ومع ذلك فلا نرى لهذا الكتاب أثراً في كتابات القاضي ومن بعده. ولا شك أن الخلال من أصحاب الاستقراء لكلام أحمد.
ويلاحظ من جهة أخرى أن شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن رجب كانا من أعلم الناس بأصول أحمد، وكتاباتهم دالة على ذلك، والسبب الواضح في ذلك أن كلا منهما من أصحاب الاستقراء لكلام أحمد، إضافة إلى سلوكهم لطريقة الإمام في الفقه والحديث والاعتناء بآثار الصحابة والأئمة، وبعدهم عن التأثر بعلم الكلام.
ولعل أحسن أهم من خدم المذهب الحنبلي هم آل قدامة. فإن "روضة الناظر" الذي كتبه موفق الدين المقدسي ثمّ الدمشقي الصالحي (541ـ620هـ)، يعد من أهم كتب الأصول عند الحنابلة، وإن كان أشبه بمختصر عن كتاب "المستصفى" للغزالي الشافعي، لكن مادته الحنبلية لم تخرج عن الكتب الثلاثة السابقة. ولهذا يجزم في أقوال كثيرة أنها مذهب أحمد، أو أنه مروي عنه، وهو متابع لمن قبله في هذا، فلا تجد أنه يتتبع مسائل أحمد لاستنباط القواعد الأصولية منها. مع أن ابن قدامة هو أفقه من قدم إلى الشام بعد الأوزاعي، كما قال ابن تيمية. وكذلك كتاب "المغني" صار من أهم الكتب الفقهية حتى عند غير الحنابلة، نظراً لاهتمام ابن قدامة بجمع أقوال باقي المذاهب. لكنه في المذهب الحنبلي اعتمد ترجيحات الخرقي غالباً، كما سبق بيانه. أما أهم من حاول إصلاح المذهب هو تقي الدين بن تيمية، حيث قام باستقراء أقوال أحمد، وتحرر بقدر كبير من تقليد فقهاء المذهب وترجيحاتهم. وسار على نفس خطه ابن القيم وابن رجب وإلى حد ما ابن مفلح.
الطبقة الثالثة: طبقة المتأخرين (885 هـ -….): وهذه الطبقة تبدأ بشيخ المذهب في زمانه المرداوي، إلى زماننا هذا. وقد أصيب المذهب الحنبلي خلالها بانحطاط (مثله مثل بقية المذاهب)، إلى أن تبناه أئمة الدعوة النجدية، وحاولوا تطويره بالرجوع إلى الكتاب والسنة أولاً. ولم تظهر الدعوات إلى إعادة استقراء كلام أحمد إلا في وقت قريب نسبياً. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في "الدرر السنية" (1|45): «فهؤلاء الحنابلة: (على الرغم من أنهم) من أقل الناس بدعة، (فإن) وأكثر "الإقناع" و "المنتهى" (وهما عمدة فقهائهم المتأخرين) مخالف لمذهب أحمد ونصه. يعرف ذلك من عرفه». فما بالك بكتب المذاهب الأخرى؟
لكن مما ينبغي ملاحظته أن كل طبقة من الطبقات السابقة مرت بمراحل انتقل فيها المهذب من طور إلى طور في التصحيح والاجتهاد، والمتابعة والتقليد. فمثلا: فالخلال لا يقارن بأي حال مع ابن حامد مع أنهما في طبقة واحدة. وكذاك في الطبقة المتوسطة نجد هناك اختلافاً كثيراً في علماء زمانهم. وهذا يفيدك فائدة دقيقة، وهي أن أكثر المؤلفين في هذه الفترات لا يمثلون جميع الطبقة التي يعيشونها، بل يمثلون اجتهادهم في تصحيح المذهب في الجملة. فتصحيحات المرداوي ليست على كل حال هي المذهب عند المتأخرين، بل العمدة عند المتأخرين على ما في الإقناع والمنتهى.
جاء في المدخل (ص434): «واعلم أن لأصحابنا ثلاثة متون حازت اشتهاراً أيما اشتهار. أولها مختصر الخرقي، فإن شهرته عند المتقدمين سارت مشرقاً ومغرباً، إلى أن ألف الموفق كتابه "المقنع"، فاشتهر عند علماء المذهب قريباً من اشتهار الخرقي إلى عصر التسعمئة، حيث ألف القاضي علاءالدين المرداوي "التنقيح المشبع". ثم جاء بعده تقي الدين أحمد ابن النجار الشهير بالفتوحي (898-972هـ) فجمع "المقنع" مع "التنقيح" في كتاب سماه "منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات". فعكف الناس عليه، وهجروا ما سواه من كتب المتقدمين كسلاً منهم ونسياناً لمقاصد علماء هذا المذهب التي ذكرناها آنفاً. وكذلك الشيخ موسى الحجاوي (المقدسي، ت968هـ) ألف كتابه "الإقناع"، وحذا به حذو صاحب "المستوعب" (للسامري 535-616هـ). بل أخذ معظم كتابه ومن "المحرر" (لابن تيمية الجد، ت652هـ) و"الفروع" و"المقنع"، وجعله على قول واحد. فصار معول المتأخرين على هذين الكتابين وعلى شرحيهما».
الدفاع عن الحنابلة فيما رموا به من المشاققة
وقع تزوير تاريخي كبير بغرض الحطّ من قدر المذهب الحنبلي، فأشيع عنه أنه أكثر المذاهب تشدداً، حتى صاروا يتندرون بذلك، ويقولون للمتشدد: "لا تكن حنبلياً". فإذا كانت شدتهم مع أهل البدع هي المقصودة، فهي شدة محمودة. ولذلك تجد بلادهم أسلم البلاد من البدع وأقربها للسنة.
وأما إن كان المقصود هو المذهب نفسه، فالاتهام خاطئ. فمع أن المذهب الحنبلي يتشدد في أمر السنة والبدعة في باب العبادات، ويعتبر الأصل فيها المنع، حتى يقوم الدليل على المشروعية. لكنه أيسر مذاهب أهل السنة في باب المعاملات، كالبيوع والإجارات وما إليها. إذ الأصل عنده فيها على الإباحة، حتى يقوم دليل المنع، ولذلك أمثلة كثيرة. فقد تفرد أحمد باختيار أيسر القولين في مسائل عدة. وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية في كتابة القواعد الكلية، المطبوع باسم "القواعد النورانية".
وأغلب كلام المؤرخين إنما يقتصر على حنابلة العراق، وبغداد خاصة. وذلك لما حصل فيها من فتن واقتتال خاصة بين الرافضة والحنابلة، وبين الأشاعرة والحنابلة. أما بقية البلاد، فلم ينسب إليهم شئ من هذا. أما بزوغهم في بغداد وهجومهم على دور اللهو، فهو من المحامد العظيمة. أما ما يشاع حول تطيينهم لبيت ابن جرير، وأذيتهم للخطيب، فهذا إن كان صدقاً، فهو من تصرف العوام. وقد كانوا يُعظّمون أحمداً تعظيماً كبيراً. فغاظهم عدم ذكر ابن جرير له في الفقهاء. والعامة لا يُضبطون على كثرتهم في بغداد.
أما في العبادات فنعم، هو من أكثر المذاهب الفقهية تشدداً. ذلك أنه يعتبر العبادات مبنية على التسليم وعدم التعليل، فلا يلتفت فيها إلى المعاني والأقيسة. وهذا صحيح، كما قرره الشاطبي، لكن تطبيق الحنابلة لهذا المبدأ قد توسع، فشمل أبواباً أخرى. فليس من الأئمة الأربعة من يقول "إن المرأة عورة كلها حتى ظفرها" إلا أحمد بن حنبل (وإن كانت الرواية الراجحة عنه هي غير ذلك). على أن له بعض الاختيارات التي فيها تخفيف على الأمة، مثل قوله بعدم تنجيس يسير الدم والقيح والصديد، وقوله بطهارة أبوال مأكول اللحم. ووسّع الحنابلة في الجمع بين الصلوات حال الحضر، حتى جاز عندهم الجمع للخباز إذا خاف تلف العجين.
أما في أبواب المعاملات: فقد أجازوا ما لم يجزه غيرهم. فقد أجازوا بيع العربون، خلاف البقية. واثبتوا جملة من العقود كالمساقاة والمزارعة، خلاف من أنكرها كالحنفية. وتوسعوا في صيغ العقود، خلافاً لمن شدد. فنسبة المذهب الحنبلي إلى التشدد ليست على إطلاقها.
قال الإمام الذهبي في "زغل العلم": «وأما الحنابلة، فعندهم علوم نافعة، وفيهم دين في الجملة، ولهم قلة حظ في الدنيا. والجهال يتكلمون في عقيدتهم، ويرمونهم بالتجسيم، وبأنه يلزمهم. وهم بريئون من ذلك إلا النادر، والله يغفر لهم».
منهج أحمد بن حنبل
لقد زعم بعض الناس أن الإمام أحمد ليس من الفقهاء. واحتجوا لزعمهم أن كثيراً من المصنفين في فقه الاختلاف، ما عدوا أحمد من الفقهاء. إنما يذكرونه عرَضاً إذا ذُكِرَ أهل الحديث كإسحاق و الثوري وغيرهم. ومنهم عامة المغاربة كابن عبد البر وابن حزم وابن رشد وغيرهم، إنما يذكرون الفقهاء الثلاثة. حتى أن ابن عبد البر لما صنف كتابه "الانتقاء في الائمة الثلاثة الفقهاء"، لم يذكر الإمام أحمد رحمه الله. بل العجيب أن تجد أبا جعفر الطبري يسلك هذا المنحى، رغم أنه بغدادي، والله يغفر له. وسبب ذلك هو عدم انتشار مذهبه الفقهي وبخاصة في المغرب. فلم يصل إلى إفريقيا والأندلس. بل بقي في أماكن قليلة حول بغداد وفي مناطق محدودة في بلاد الشام. فلذلك ذكره هؤلاء مع المذاهب الفقهية الشبه منقرضة مثل مذهب الثوري ومذهب الليث وأمثال ذلك. أما بعدما استقر القول في المشرق على أنه رابع المذاهب، لم يعد لهذا القول مكانة.
قال ابن عقيل: «مِن عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهال أنهم يقولون: أحمد –يعني ابن حنبل– ليس بفقيهٍ لكنه محدِّثٌ. وهذا غاية الجهل، لأنّ له اختيارات بناها على الأحاديث بِناءً لا يعرفه أكثرهم، وربما زاد على كِبارِهم». قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/321) تعليقاً على هذا: «أحسنهم يظنونه مُحَدِّثاً وبَسْ (كلمة فارسية تعني "فقط"). بل يتخيّلونه من بَابَةِ محدِّثي زماننا. وَ والله لقد بلغ في الفقه خاصّةً: رتبة الليث ومالك والشافعي وأبي يوسف، وفي الزّهد والورع: رتبة الفُضيل وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ: رتبة شعبة ويحيى القطان وابن المديني. ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟!».
قال الشافعي: «خرجت من بغداد، فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنبل». قلت: فهذه شهادة إمام ضليع بالفقه، لأحمد بأنه أفقه أهل بغداد، فماذا يقول الجهال؟ نعم، كان أحمد بن حنبل محدِّثاً فقيهاً، بمعنى أنه مهتم بالحديث أكثر من الفقه، ولا يعني أنه ليس فقيهاً. وهؤلاء الجهال لا هم من أهل الحديث ولا هم من الفقهاء!
والإمام أحمد رحمه الله لم يشترط الصحة في مسنده. فقد جاء في خصائص المسند لأبي موسى المديني (ص27): «إن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لأبيه: «ما تقول في حديث ربعي عن حذيفة؟». قال: «الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟». قال (عبد الله): «يصح؟». قال: «لا، الأحاديث بخلافه. وقد رواه الحفاظ عن ربعي عن رجل لم يُسمّه». قال (عبد الله): «قد ذكرتَهُ في المسنَد!». فقال (أحمد): «قصدت في المسند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله. ولو أردت أن أقصد ما صحّ عِندي، لم أروِ هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء. ولكنك –يا بُنَيّ– تعرف طريقتي في الحديث: لست أُخالِفُ ما فيه ضعف، إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه».
ونقل ابن الجوزي في "صيد الخاطر" من خط القاضي أبي يعلى الفراء في مسألة النبيذ، قال: «إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم».
قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: «لم كرهت وضع الكتب وقد عَمِلتَ المُسْنَد؟ فقال: «عَمِلتُ هذا الكتاب إماماً: إذا اختَلفَ الناسُ في سنّةٍ عن رسول الله r، رُجِعَ إليه». وقال أحمد كذلك: «إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمِئَةٍ وخمسينَ ألفاً (750,000). فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله r، فارجعوا إليه. فإن كان فيه، وإلا ليس بحجة».