الدولة العثمانية
تمهيد:
نشأت الدولة العثمانية إمارة صغيرة عام (699هـ/1299م)، وتوسعت مع مرور الأيام توسعاً مضطرداً، شمل ثلاث قارات، وأصبحت من الدول القوية، صاحبة النفوذ الكبير والكلمة المسموعة في العالم. وهي أطول الدول الإسلامية حكماً في التاريخ. إذ استمر حكمها إلى عام (1342هـ1924/م)، عندما ألغيت الخلافة الإسلامية، وتقوَّضت الدولة العثمانية، وقامت على أنقاضها الجمهورية التركية. ومن ثم فإن حكم الدولة العثمانية استمر سبعة قرون، تعاقب على الحكم فيها ستة وثلاثون حاكماً من أسرة آل عثمان، بعضهم بلقب أمير، وبعضهم بلقب خليفة، ومعظمهم بلقب سلطان.
عثمان بن أرطغرل:
ولد الأمير عثمان بن أرطغرل عام(656هـ1258/م) في بلدة سوغود Sogud أو عثمانجق .Osmancik وهو رأس أسرة آل عثمان ومؤسس الدولة العثمانية.
خلف والده في قيادة عشيرته. ولبث مصاحباً للسلطان السلجوقي علاء الدين كيكوبات. وقد ساعده في فتح مدن منيعة وقلاع حصينة. فلما قُتل السلطان السلجوقي وسقطت الدولة السلجوقية على أيدي التتار، هرع الناس يلتفون حول المير عثمان غازي، وبايعوه حاكماً عليهم، وذلك (عام 699هـ/1299م)، فاتخذ مدينة قره حصار مركزاً لدولته. ثم حصَّن مدينة يني شهير وجعلها عاصمة إمارته. حكم بين الناس بالقسط والعدل، وأنصف المظلوم، وأعطي كل ذي حق حقه. حتى ذاع صيته، وعلا شأنها، ولا سيما بعدما تزوج بنت الشيخ أده بالي Edebali .
أُعجب به السلطان السلجوقي مسعود، لِما حقّقه من انتصارات متتالية على البيزنطيين في الحروب التي وقعت بينهم. فخاطبه السلطان بعثمان شاه، وأرسل إليه علماً أبيض وتاج الملك. ولما واصل جهاده في فتح القلاع والحصون البيزنطية الواحدة تلو الأخرى، واشتدت وطأته على البيزنطيين فعزموا على قتله، فدبروا له مكيدة، غير أن القائد البيزنطي كوسه ميخال "Kose Mihal"، أسر إليه بالأخبار، فاحتاط للأمر، واعد العدة الكافية، وبادر القوات البيزنطية بهجوم مباغت أحبط مكيدتهم، وحقق النصر عليهم.وبعد أن أصبحت الدولة العثمانية مستقلة استقلالاً تاماً، توسعت جبهات القتال مع البيزنطيين. وكان الهدف الأسمى، الذي يسعى الأمير عثمان لتحقيقه، هو فتح مدينة بورصا واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية. وظل هذا هدفاً يطمح إليه الأمير عثمان حتى آخر حياته؛ فقد أمر، وهو على فراش الموت، ولده أورخان بفرض الحصار عليها، والاستماتة في فتحها. وقد نجح أورخان في ذلك، وطارت أنباء الفتح إلى الأمير عثمان وهو يجود بأنفاسه الأخيرة. ونُقل جثمانه إلى مدينة بورصا ودفن بها. في عام( 726هـ 1324/م)، بعد أن عاش سبعين عاماً، قضى منها 27 عاماً على عرش السلطنة.
كان ـ رحمه الله ـ شديد البأس، سديد الرأي، عالي الهمة، كريم الأخلاق، أبيّ النفس. له من الأولاد سبعة، هم: أورخان بك، وعلاء الدين بك، وجوبان بك، وحامد بك، وفاطمة خاتون، وبازارلي بك، وملك بك.
الدولة العثمانية: نشأتها وتطورها وانحطاطها
نشأة الدولة العثمانية
تعد الدولة العثمانية أطول الدول الإسلامية عهداً؛ فقد عاشت 661 سنة، وأطولها فترة في مراحل نشأتها وتكونها ثم انحدارها. وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمكنت من فتح القسطنطينية، والهيمنة على أجزاء شاسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، في وقت واحد. وظلت لعدة قرون قائدة العالم الإسلامي، والممثلة له. توافقت نشأتها مع عصر تطور النهضة في أوروبا، واتجاه مؤسساتها الناشئة إلى حركة الاستعمار في زمن الانتقال من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة. وأخيراً، فقد ظلت دوماً تقوم على ثلاثة بحار هامة، هي البحر المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر. وقد توالى على عرش السلطة فيها ستة وثلاثون سلطاناً، من سلالة واحدة، تكرر بعضهم مرتين وبعضهم ثلاث مرات.
تأسيس الدولة العثمانية
لم يبرز للعثمانيين وجود تاريخي قبل القرن السابع الهجري/12م؛ ولذلك نسجت حول أصلهم و أوائلهم الكثير من الأساطير حسب الأهواء والظنون.
تسبب الغزو المغولي في هجرة كثير من القبائل التركية من وسط آسيا إلى الأناضول، وتعاظمت هجراتهم بعد انتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة ملاذكرت) عام1071م).
وتُنسب الدولة العثمانية إلى مؤسسها عثمان بن أرطغرل، الذي ولد عام 656) هـ/1258م)، وتوفي عام 726)هـ/ 1326م). و هو إلى عشيرة قايي، من قبيلة الغزالأغوز التركية. هاجر جده سليمان شاه، أمير عشيرة قايي، مع عشيرته من موطنه الأصلي، في آسيا الوسطى، ليستقر في الأناضول، في كنف دولة سلاجقة الروم، حوالي عام (618 هـ/1123م)، وظل يتنقل بهم من منطقة أخلاط، ومنها إلى أرضروم، ثم إلى أماسية في الأناضول. ثم انحدر بهم إلي حوض الفرات، حتى شرقي حلب. ولكنه غرق أثناء عبور النهر، ودُفن في قلعة جعبر، داخل الحدود السورية، ولا يزال قبره هناك إلى اليوم.
تولى زعامة العشيرة بعده ابنه أرطغرلبن سبيمان؛ فتحرك بها، شمالاً مرة أخرى إلى الأناضول. وشارك السلطان السلجوقي، علاء الدين كيقباد الأول، في حروبه ضد المغول وأبلى هو رجاله بلاءً حسناً؛ فأقطعه السلطان علاء الدين السلجوقي منطقة قراجة طاغ القريبة من أنقرة عام(628هـ1133/م.(ويقال أنه أقطعه كذلك بلدتي سوغود ودومانيج، على الحدود مع البيزنطيين، في غربي الأناضول. ومنحه لقب "حارس الحدود".
توفي أرطغرل في بلدة سوغود، عام(680هـ/1281م)، فتولى بعده ولده عثمان، سيداً على عشيرته وحاكماً للمقاطعة. وأخذ يشن الغارات والحملات الهجومية على البيزنطيين، ويكسب منهم قلاعاً وقرى ويضمها، لحساب الدولة السلجوقية. ومنحه السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث جهات إسكي شهر وإينونو، عام (1289م).
حاصر عثمان مدينة بورصة، المعروفة في غرب الأناضول، في عام(1314م)، ولكنه لم يتمكن من فتحها.
وتوسعت منطقة نفوذ عثمان أو إمارته، فشملت مناطق سوغود، ودومانيج، وإينه كول، ويني شهر، وإن حصار، وقويون حصار، وكوبري حصار، ويوند حصار. وجعل في عام(1300م)، يني شهر مركزاً لتلك الإمارة.
وفد على عثمان بن أرطغرل كثير من علماء الدولة السلجوقية، التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال، وأقبل عليه أمراؤها وأعيانها، فدخلوا تحت حمايته.
يُرجع كثيرٌ من الباحثين نشأة الدولة العثمانية إلى عام (699هـ1299/م)، عندما استقل الأمير عثمان بإمارته الصغيرة عن الدولة السلجوقية.
بينما يرجعها البعض الآخر إلى عام( 708هـ/1308م)، عندما توفي آخر سلاطين سلاجقة الروم السلطان غياث الدين مسعود الثالث، حيث كانت الإمارة العثمانية تابعة للدولة السلجوقية قبل ذلك.
ومع أنّ عثمان بن أرطغرل لم يلقّب بالسلطان أو الخان إلاّ بعد وفاته، إلا أنه يعد المؤسس الأول للأسرة. وقد حكم 45 عاماً، واستطاع توسيع مملكته من 4800 كم2، عند توليه الإمارة بعد والده أرطغرل، عام(681هـ/1281م)، إلى 16 ألف كم2، حين سلمها لولده أورخان، عام (726هـ/1326م).
اتخذ أورخان بن عثمان الذي ولد عام 1281م، مدينة بورصة، الواقعة في أقصى غرب الأناضول، عاصمة لملكه، وقاعدة لتحركاته، بعد أن تيسر له فتحها قبيل وفاة والده، عام(726هـ/1326م). ثم فتح إزمير عام(1327م)، وطاوشانلي في عام(1330م .(واستطاع بذلك أن يفرض على الإمارات السلجوقية المجاورة، الاعتراف الفعلي بحكمه، وبأنه وريث العرش السلجوقي.
ومما زاد من شهرته، تمكنه من هزيمة الامبراطور البيزنطي، الذي حاول استعادة مدينة إزنيق من العثمانيين، عام( 732هـ/1331م). وقد بدأ السلطان أورخان، بعد ذلك، باتباع سياسة متسمة بالحكمة، في التعامل مع البيزنطيين، وتحرص على عدم البدء بالاعتداء، مع محاولة الوصول إلى البحار المفتوحة والمضايق.
وقد توالت الفتوحات، طيلة حكم السلطان أورخان، الذي يعد أول أمير عثماني تسمى بلقب السلطان. وفي عام 736)هـ/1335م)، كوّن جيشاً منظماً، ومدرباً أحسن تدريب. وانضمت بعض الإمارات السلجوقية إلى الدولة العثمانية، التي وصلت حدودها إلى البحر، بعد أن استولت على أسكودار، وهي الضفة الآسيوية من مدينة إستانبول. وفي الوقت نفسه، توسعت الدولة في الجانب الشرقي من البلاد، ففتحت مدينة أنقرة، عام (756هـ/1354م).
سنّت الدولة، في فترة حكم السلطان أورخان، وبإشارة من الوزير قره خليل جاندارلي، قانوناً يقضي بتشكيل جيش سمي "الإنكشارية"، وبمقتضى هذا القانون يؤخذ بعض أولاد النصارى، ويُعنى بتربيتهم، وتهذيبهم تهذيباً إسلامياً، حتى إذا بلغوا سن التجنيد، أُرسلوا إلى الثكنات العسكرية في العاصمة؛ ليتولوا الدفاع عن أراضي الدولة دفاعاً مستميتاً.
كما وضعت تنظيمات إدارية ومالية، في عهد السلطان أورخان، أصبحت قاعدة، تركن إليها الدولة في السنوات التالية، مثل النظام الخاص بإقطاع الأراضي الأميرية، وكيفية تقسيمها على المشاركين في الحرب، وتشكيل الوزارة، وغيرها من الأنظمة، التي استقرت قواعد الدولة عليها.
ضم البلاد العربية
استفحل أمر الدولة الصفوية، بعد عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي استخدم اللين مع الشاه إسماعيل الصفوي، على الرغم من نشاط الخير في نشر المذهب الشيعي بين القبائل التركية البدوية، وقتل الكثير من أهل السنة، بعد استيلائه على بغداد. وكان ذلك يحمل في طياته خطراً كبيراً على الدولة العثمانية، التي تزعمت أهل السنة في ذلك الوقت. إذ أن الشاه إسماعيل الصفوي، الذي جعل من التشيع سياسة لدولته ومذهباً لها، وجد له أعواناً كثيرين في الأناضول. وكان ذلك كفيلاً بأن يفتت وحدة الدولة العثمانية في الأناضول، على وجه الخصوص. فأجَّل السلطان سليم الأول فتوحاته، في أوروبا، ردحاً من الزمن، وتوجه بكل ما أوتي من قوة نحو الشرق، لوقف ذلك المد الشيعي، وتأديب المماليك، في مصر والشام، المتحالفين مع الصفويين، والعاجزين عن حماية الأماكن المقدسة. وكانت معركة جالديران، عام (920هـ/ 1514م)، انتصاراً باهراً للعثمانيين وهزيمة نكراء للصفويين، توغل الجيش العثماني بعدها في إيران حتى وصل إلى تبريز. وقد ثبّت ذلك الانتصار أقدام العثمانيين في الأناضول، وحسنت من صورتهم أمام العالم الإسلامي. غير أن ذلك النصر لم يكن ليكتمل ما لم تتم إزالة التهديدات البرتغالية للبحر الأحمر والأماكن المقدسة، في وقت استغاث فيه أهالي المنطقة بالعثمانيين، إزاء عجز المماليك عن الدفاع عنها، إضافة إلى إيواء المماليك للثائرين على السلاطين العثمانيين، وتحالفهم مع الصفويين ضد العثمانيين.
توجّه السلطان سليم الثاني إلى سوريا، ووقعت بينه وبين الغوري المملوكي معركة، بالقرب من حلب، عند مرج دابق، عام( 922هـ/1516م)، ومني الغوري بالهزيمة، وسقوط قتيلاً، ودخل السلطان سليم الأول مدينة دمشق، وضُمت الأراضي السورية إلى الدولة العثمانية. ثم توجه السلطان سليم إلى القاهرة، وانتصر في معركة الريدانية، بالقرب منها، في عام 923هـ (بدايات عام 1517م). وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ العثمانيين، اكتملت فيه سيطرتهم على العالم العربي، والتي استمرت أربعة قرون. وأعلن بذلك العثمانيون حمايتهم للأماكن المقدسة، وجعل البحر الأحمر بحيرة إسلامية.
تأخَّر الدولة العثمانية وتدهورها
يعزو كثير من الباحثين بداية انحدار الدولة العثمانية إلى (عام 1110هـ1699/م)، عندما اندحرت أمام الأعداء، واضطرت، لأول مرة، إلى توقيع معاهدة كارلوفجا، التي فرض شروطها عدوُّها المنتصر. وخرجت الدولة العثمانية بتلك الهزيمة من عزلتها، وتيقنت يقيناً جازماً من تخلف أجهزتها العسكرية. فبدأت توجُّهاً قوياً إلى الاستفادة من التقدم الأوروبي، فيما عُرف، في تاريخ الدولة العثمانية بحركات التجديد.
أرجع بعض الباحثين مقدمات ضعف الدولة العثمانية إلى عهد السلطان سليمان القانوني، بسبب وقوعه تحت تأثير زوجته روكسلانا، التي تآمرت ضد الأمير مصطفى ابن سليمان، ليتولى ابنها سليم الثاني الخلافة بعد أبيه. وكان مصطفى قائداً عظيماً ومحبوباً لدى الضباط، مما أدى إلى حركة تزمر بين الإنكشارية ضد السلطان، فأخمدها السلطان سليمان. وبذلك قضى على الأمير مصطفى. وأعقب ذلك تخلي السلطان عن ممارسة سلطاته، وتسليم مقاليد الأمور إلى زوجته، مما أدى إلى بروز سطوة الحريم، والعجز عن مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي أدت إلى نشوب القلاقل الشعبية في الروملي والأناضول.
عوامل الضعف في الدولة العثمانية
أصيبت الدولة العثمانية بعدة عوامل ضعف أثرت على مسيرتها وتقدمها. وعلى الرغم من وجود عوامل خارجية ساهمت في ضعف الدولة حتى في عهد القوة والتوسع، إلاّ أنها لم تكن مؤثرة في الدولة بقدر المؤثرات الداخلية. يمكن إيجاز تلك العوامل الداخلية على النحو الآتي:
أ: البعد عن منهج الإسلام الأصيل وجوهر الإيمان. الذي كان يميز الدولة العثمانية منذ قيامه، عندما كانت العاطفة الإسلامية جياشة وقوية. فلما تبعتها التربية الإسلامية، والتدريب السليم للنظام العسكري الجديد، كانت القوة وكان الفتح وكان التوسع. فلما ضعفت التربية الإسلامية زادت أعمال السلب، والنهب، والفسق، والفجور. واستمر الانحراف، وظهرت حركات العصيان والتمرد، وفقدت الدولة هيبتها.
وقد تمثل ذلك في:
1) الإهمال في العدالة والضبط وحسن السياسة، وسببه عدم تفويض إسناد الأمور إلى أهلها الكفاء.
2) المسامحة في المشاورة والرأي والتدبير، وسببه العجب والكِبر في أهل الحكم، واستنكافهم عن مصاحبة العلماء والحكماء.
3) التساهل في التدريب، والضبط والربط، وسوء استعمال آلات الحرب عند محاربة الأعداء، وسببه عدم خوف العسكر من الأمراء.
4) ثم رأس جميع الأسباب، وغاية ما في الباب، وهو طمع الارتشاء ورغبة النساء.
ب: الترف الذي أدى إلى الانغماس في حياة الفسق، بحيث أصبح السلاطين يقضون أوقاتهم في الملذات بين الحريم. وانعكس ذلك على ضعف السلاطين وعدم قدرتهم على تسيير أمور الدولة وقيادة الجيش، مما أثر بدوره على أوضاع الدولة.
ج: سيطرة العقلية العسكرية، التي أدت إلى انتزاع الأمور بالسيف بدلاً من الدراسة، والتخطيط، والمناقشة.
د: فساد الإدارة: حيث ترك السلاطين أمور الدولة لكبار موظفيهم، الذين انغمسوا في الفساد، فانتشرت الرشوة، والمحسوبية، والاختلاس، وبيع الوظائف، وقام الولاة في الولايات بحركات انفصالية عن كيان الدولة العثمانية.
هـ: الفساد، الذي استشرى في صفوف الإنكشارية، التي كانت العمود الفقري للدولة في عهد القوة والتوسع.
و: الامتيازات الأجنبية: التي مُنحت للأجانب في زمن قوة الدولة وازدهارها، ثم أصبحت حجر عثرة أمام الدولة العثمانية في التقدم والارتقاء، وأصبح الأجانب، بتلك الامتيازات، يتدخلون في شؤون الدولة الداخلية، ونجم عن ذلك خروج الرعايا عن أوامر الدولة. إضافة إلى ذلك، هناك الأسباب الخارجية، التي تمثلت في تكالب الدول الصليبية على الدولة العثمانية وتوحدها، في كثير من الأحيان، للقضاء عليها.
ز: تأخر الدولة عن ركب الحضارة، بسبب عدم تمسكها بأسباب القوة، والتي تمثلت في تخلف أجهزتها العلمية والعسكرية على وجه الخصوص. في الوقت، الذي كانت فيه الدول الغربية تكتشف كل يوم جديداً في حقول المعرفة، والتي عرفت بالثورة الصناعية.
بداية الاضمحلال في الدولة العثمانية
يتفق المؤرخون على أن عظمة الدولة العثمانية قد انتهت بوفاة السلطان سليمان القانوني عام (974هـ/ 1566م.( حيث فتح الطريق، من بعده، لاستلام السلاطين الضعاف زمام أمور الدولة، وذلك حين خلف لولاية عهده ابنه سليم الثاني، بدلاً من الأمير مصطفى، المتسم بقوة الشخصية، والتدريب الإداري، والعسكري الفائق. يضاف إلى ذلك أن العديد من السلاطين، الذين تولوا الحكم في الدولة في فترة التقهقر تلك، كانوا في سن الطفولة، فأصبحت أقوى دولة بيد الحريم أو آغاوات القصر. وعجَّل ذلك بالدولة إلى الهاوية. ولولا وجود بعض الصدور العظام الأقوياء، في تلك الفترة، لما بقيت الدولة إلى العصور التي تليها.
وكانت معاهدة كارلوفجا، التي امتدت ستة عشر عاماً، أولى الهزائم العسكرية الكبرى، التي هزت كيان الدولة، وأدت إلى اهتزاز البنية الإدارية، والمالية، والاجتماعية للدولة العثمانية. فقد عقدت تلك المعاهدة بين كل من الدولة العثمانية، والنمسا، وروسيا، والبندقية، وبولونيا، في(24 رجب 1110هـ 26/ يناير1699م)، وتنازلت الدولة العثمانية بموجبها عن 000ر356 كم2 من أراضيها لتلك الدول. وقد وصف المؤرخ الفرنسي "فرنارد جرينارد" هذه المعاهدة بقوله: "إن عام(1699م) من أهم الأعوام التاريخية، حيث انتقلت الهيمنة الشرقية إلى أوروبا".
ثم توالت بعد ذلك الإحن على الدولة، وإن كانت على فترات متباعدة. حيث اضطرت للتنازل لأعدائها، بموجب المعاهدات التي أبرمتها معها، مثل معاهدة كوجوك قاينارجه، التي وقعتها الدولة مع روسيا، في (1188هـ / 1774م)، عن القرم، وبسارابيا، وقوبان، وغيرها من الأراضي، إضافة إلى حرية الملاحة للسفن الروسية في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وأن تبنى روسيا كنيسة لها في إستانبول، ويكون لها حق حماية جميع المسيحيين الأرثوذوكس القاطنين في البلاد العثمانية، وأن تدفع الدولة العثمانية خمسة عشر ألف كيسة غرامة حربية لروسيا. وكانت تلك أول خطوة لروسيا في إلحاق القرم بأراضيها. كما أنه، من خلال حق حماية الأرثوذوكس، كانت روسيا قد حفظت لنفسها حق التدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية.
وعلى الرغم من قيام الدولة، بعد ذلك بمحاولات إصلاح، بعدما تأكدت أنها لا تستطيع مواجهة القوات الدولية، إلاّ أن تلك المحاولات كانت محدودة مؤقتة، ولم تستمر طويلاً. وخاصة المحاولات، التي أجريت في عهد السلطان عبدالحميد الأول. ومما لا شك فيه أن الحروب، التي كانت تنشب بين فترة وأخرى بين العثمانيين من جهة، وبين روسيا من جهة أخرى، كانت تعرقل
الحرب العالمية الأولى وانقراض الدولة العثمانية
أمسكت جمعية الاتحاد والترقي بزمام الأمور في الدولة العثمانية، وأطاحت بحكم السلطان عبدالحميد الثاني، الذي كان يتحاشى الحروب بقدر الإمكان، محاولاً تحويل صراع الدول الغربية وروسيا على الدولة إلى صراع فيما بينها. وكان برنامج الاتحاد والترقي في الحكم يتركز على التغريب، وإحلال المؤسسات الغربية محل المؤسسات الإسلامية في الدولة، والتركيز على تتريك الحكم والنظام، متأثرة في كل ذلك بالشعارات الغربية، مما أدى بها إلى التشجيع على القومية التركية. فحصل النفور بين الشعوب الإسلامية المنضوية تحت لواء الخلافة الإسلامية وبين برنامج الحكومة، ولا سيما بعد نشر الأفكار القومية لدى العرب أيضاً.
وفي خضم ذلك، نشبت الحرب العالمية الأولى، عام(1333هـ/1914م)، التي تحالفت فيها الدولة العثمانية مع ألمانيا والنمسا، ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا. على أنه لم يكن لديها أي استعداد لخوض غمار الحرب. وكان النصر، في السنتين الأوليين من الحرب، من نصيب الدولة العثمانية وحليفاتها، غير أن قيام الثورة العربية الكبرى، بزعامة الشريف حسين عام 1335)هـ/1916م)، كان أكبر ضربة وجهت للدولة العثمانية والجامعة الإسلامية بوجه خاص. حيث فقدت الدولة مع نهايات الحرب عام( 1338هـ/ 1918م(، كل أملاكها في الجزيرة العربية، بل في معظم البلاد العربية. ووقعت عدة معاهدات، استهدفت تقسيم أملاك الدولة العثمانية. مثل معاهدة الآستانة عام(1334هـ 1915/م(، ومعاهدة لندن عام (1334هـ/1915م)، ومعاهدة سايكس بيكو عام 1335)هـ/ 1916م)، ومعاهدة سان جان دي مورين عام (1336هـ/1917م)، ثم معاهدة سيفر عام( 1339هـ/ 1920م (التي عقدت في مدينة سيفر الفرنسية، وتخلت الدولة العثمانية بموجبها عما تبقى من أراضيها في تراقيا بما في ذلك مدينة أدرنة، وتخلت عن حقوقها في جزيرتي إمروز وتندوس.وقلصت تلك المعاهدة سيادة الدولة العثمانية، فقد حُدد عدد الجيش العثماني بخمسين ألف جندي، يخضعون لإشراف الضباط الأجانب، وحُدد سلاح الجيش والأسطول، وأعيدت الامتيازات الأجنبية، كما شُكِّلت لجنة جديدة للبت في الإشراف على الديون العثمانية، وعلى ميزانية الدولة، وعلى الضرائب، والرسوم الجمركية، وغيرها من الأمور المالية.
وفي تلك الأثناء، شُكِّلت حكومة في أنقره، بزعامة مصطفى كمال آتاتورك، كانت منفصلة عن حكومة إستانبول. وبدأ النظام الجديد في أنقره، معلناً التمرد على حكومة إستانبول، وجعل من المجلس الوطني الكبير حكومة فعلية، حيث أقر المجلس، عام( 1340هـ/1921م)، الدستور الجديد، ورفض كل المعاهدات التي أبرمتها حكومة إستانبول، وفي الوقت نفسه، عقد مصطفى كمال اتفاقاً مع روسيا، اعترفت روسيا بموجبه بالميثاق الوطني الذي أعلنته حكومة أنقره. كما عقد مؤتمر في لندن عام( 1340هـ/1921م)، للتخفيف من شروط الصلح، مما أضفى طابعاً شرعياً على حكومة أنقره، في إرجاع القرار الخاص بوضع الأناضول إليها. وقد جرت عدة اتفاقات مع الدول المعنية في الانسحاب من بعض الأراضي التركية، فتنازلت روسيا عن باطوم، وفرنسا عن كيلكيا، وإيطاليا عن أنطاكيا، ونشب القتال مع اليونانيين، وانتصرت القوى الوطنية في معركة سقاريا على اليونانيين عام (1340هـ/1922 م). ورغم أن حكومة إستانبول دعت إلى مؤتمر لوزان إلى جانب حكومة أنقره، إلا أن الأخيرة قامت بإلغاء السلطنة من نظام الدولة العثمانية في( 12 صفر 1341هـ/ 4 نوفمبر 1922م)، حتى لا تلقى القبول لدى المؤتمر، فاستقال الصدر الأعظم توفيق باشا، ولم يعين السلطان محمد السادس غيره مكانه، مما أشار إلى خضوع السلطان لحكومة أنقره. وسافر السلطان إلى بريطانيا لاجئاً، فعينت حكومة أنقرة عبدالمجيد أفندي خليفة في (26 ربيع الأول 1341هـ/ 16 نوفمبر 1922م)، متجرداً من صفة السلطان. وانتهت حرب الخلاص الوطني، وأُعلنت الجمهورية في (30 ربيع الأول 1341هـ 20/ نوفمبر 1922م)، ثم ألغيت مؤسسة الخلافة من حياة تركيا في (28 رمضان 1342هـ/3 مايو 1924م)، وأُجبر أفراد أسرة آل عثمان على مغادرة تركيا نهائياً.
وبذلك انطوت أخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة العثمانية، ونشأت على أنقاضها الجمهورية التركية، التي اتخذت من العلمانية مبدأ لها في الحياة. وأُلغيت المؤسسات الدينية، وأُقيمت مكانها مؤسسات أخرى، مبنية على مبدأ فصل الدين عن الدولة