-الإطناب بالاعتراض:
وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامَين متصلين معنى، بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل(71).
*ومن وجوه الاعتراض ههنا، التنزيه والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَيجعلونَ للهِ البناتِ، سُبْحَانَه، ولهم ما يَشْتَهون((72). فقد اعترضت جملة: "سبحانه سياقَ الآية، تنزيهاً لذات الإله من نسبة الولد إليه، أو تعجباً من قولهم(73).
*ومن وجوهه التنبيه، كما في قول الشاعر:
واعْلَم –فعلمُ المرء ينفعُهُ-
أنْ سوف يأتي كلُّ ما قُدِرا(74)
فالجملة الاعتراضية في الصدر، تنبيه مفيد، يزيد في عمق الوعظ الشعري وترسيخ مغزاه الحكمي.
*ومن وجوهه التكريم، كما في قول المتنبي مادحاً كافوراً في بائيته: "كفى بك داءً":
وتحتقرُ الدنيا احتقارَ مجرِّبٍ
يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا
شرح العكبري هذا البيت فقال: أنت عظيم القدر. فلهذا تحتقر الدنيا احتقار من جربها وعرفها، وعلم أنها فانية، ولا يبقى إلا ذكر الجميل بين الناس.. "وحاشاك": من أحسن ما خوطب به في هذا الموضع، والأدباء يقولون: هذه اللفظة حشوة، ولكنها حشوة فستق وسكر؛ ومثلها في الحشوات قول عوف بن المحلَّم الشيباني:
إنَّ الثمانين –وبلِّغْتَهَا-
قد أحوجَت سمعي إلى تَرجُمان(75)
فقد اعترضت "وبلِّغْتَهَا" صدر البيت لفائدة كبيرة ما أحوج السامع إليها لأنها تحدث فيه هزة التنبيه أو الانتباه لما يرمي إليه الشاعر من تأكيد الكِبَر والشيخوخة.
*ومن وجوهه المعروفة التخصيص بزيادة التأكيد، كقول الحق تبارك: )ووصَّيْنا الإنسانَ بوالديه، حَمَلَتْه أمُّهُ وَهْناً على وهْن، وفِصالُهُ في عامَيْن، أنِ اشْكُرْ لي ولوالديكَ((76).
في الآية اعتراض ضمني يقع في جملة "حمَلَتهُ أمُّهُ وهْناً على وهْن" وهذا يعني تخصيص حق الأم في التوصية الربَّانية، وما ذكرها هنا إلا من قبيل ما يقوله الفقهاء في أن لها من عمل الولد قبل الحُلْمِ جلُّه وهو مما يفيد تأكيد حقها، والله أعلم(77).
ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه، بل يجوّز أن تكون دفع توهُّم ما يخالف المقصود. وهؤلاء فرقتان، واحدة لا تشترط فيه أن يكون واقعاً في أثناء الكلام، وفرقة تشترط ذلك(78).
وقد تبسَّط القزويني في شرح وجوه الاعتراض مما لم نرَ فيه صورة للوقوف عنده كالمطابقة مع الاستعطاف، والتنبيه على أمر غريب، ومجيء معنى مستقل بين كلامين مستقلين، قد يأتي المعنى في جملة واحدة أو أكثر من جملة، أو يأتي الاعتراض بغير واو ولا فاء أو يأتي بأحدهما…(79). ليخلص إلى القول الجامع المركَّز: "ووجهُ حُسْن الاعتراض على الإطلاق: حُسْنُ الإفادة، مع أن مجيئه مجيء ما لا معوَّل عليه في الإفادة. فيكون مَثَله مَثَل الحسنة تأتيك من حيث لا تَرتَقبها"(80).
وفي كلمة أوجز وأعمَّ، نقول إن الإطناب معنى كبير عرَّفناه في مطلع هذه المادة (بزيادة لفظية لفائدة..) تفرَّع هذا المعنى واتسع فاتخذ أشكالاً ووجوهاً وسماتٍ متعددة تداخل بعضها ببعض وتشابه، وفي بعض الأحيان اختلط وتشابك، ولا سيما الأنواع الخمسة الأخيرة التي اعتمدها القزويني ومن بعده، وهي: الإيغال، والتذييل، والتكميل أو الاحتراس، والتميم، والاعتراض؛ فهي شديدة التداخل والتشابه فيما بينها حتى ليصعب على الدارس في كثير من الأحيان التفريق بينها فيما عدا الأمثلة التي أعطيت لكل واحد منها، وهي مع ذلك –أي الأمثلة- يمكن نقلها من موقع إلى آخر. فتخدم الغرض الذي وضعت فيه دونما اختلاف يذكر بين ما كانت فيه وما نقلت إليه. ولعل الدارسين البلاغيين القدامى قصدوا من وراء هذه التقسيمات والتفريعات إيفاء الإطناب كلَّ ما يحتاجه من شرح وتمثيل.
الحواشي:
(1)لسان العرب، دار صادر-بيروت جـ1/ 562 (طنب).
(2)نفسه/ 561.
(3)المثل السائر، جـ 2/344.
(4)البيان والتبيين 1/194-195. وفي ص 201 ذم للإسهاب المتكلف، والخطل والتزيد..
(5)الحيوان 6/5-7.
(6)الكامل في اللغة. دار الفكر العربي، القاهرة جـ 1/27.
(7)كتاب الصناعتين/ ص 211.
(8)نفسه/ 210-211.
(9)نفسه/ 213.
(10)المثل السائر 2/346.
(11)سورة الأحزاب/ 4.
(12)المثل السائر 2/350.
(13)سورة الحج/ 46.
(14)المثل السائر 2/350.
(15)ديوان أبي تمام-شرح وتعليق د. شاهين عطية، دار صعب. بيروت- لا. ت. ص 337.
(16)المثل السائر 2/352.
(17)سورة التوبة/ 44 و 45.
(18) المثل السائر 2/353.
(19) نفسه/ 354.
(20) ديوان البحتري جـ 1/591، من قصيدة يفتخر فيها بقومه. وقد أورد ابن الأثير البيت الثاني على شيء من الاختلاف عما في رواية الديوان.
(21)ديوانه 1/151.
(22)"تفسير أرجوزة أبي نواس" صنعة ابن جني. تحقيق محمد بهجة الأثري. مجمع اللغة العربية بدمشق، الطبعة الثانية/ ص 30- والبيت في ديوانه/ 105.
(23)المثل السائر 2/355.
(24)نفسه 2/355-357. وقد اقتطفنا ما وسعنا من كلام ابن الأثير الذي يفيض بالمتعة والفائدة…
(25)الإيضاح في علوم البلاغة، ص 301.
(26)سورة النحل/ 66.
(27)سورة الطارق/ 7.
(28)الإيضاح في علوم البلاغة/ ص 302-303. والبيتان غير موجودين في ديوانه..
(29)نفسه/ ص 303.
(30)بعض الآية 238 من سورة البقرة.
(31)بعض الآية 196 من السورة نفسها.
(32)المعجم الوسيط جـ 2/950 (نكت).
(33)سورة التكاثر/ 3 و 4.
(34)سورة غافر/ الآيتان 38 و 39.
(35)سورة النحل/ 110.
(36)الإيضاح.. ص 305.
(37)سورة النحل/ 51.
(38)ديوان المتنبي –بشرح البرقوقي جـ 4/194.
(39)انظر مزيداً، لتفصيل ما أوردنا من التقسيمات الجديدة للتكرير، كتاب: "جوهر الكنز" لابن الأثير الحلبي (ت 737هـ/ 1336م) ص 257-259 فقد أورد شواهد أخرى أكثر دلالة وتوضيحاً.
(40)الإيضاح في علوم البلاغة/ 305.
(41)ديوان الأعشى، شرح وتعليق محمد محمد حسين. مؤسسة الرسالة ط7. بيروت 1983/ ص 111.
(42)العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، جـ 2/57.
(43)ديوان ذي الرمة، المكتب الإسلامي، ط أولى سنة 1964 ص 586. والثوب المسلسل: الذي رق من البلى ولبسته حتى تسلسل. والأخلاق؛ جمع (خَلَق) وهو البالي..
(44)العمدة 2/57.
(45)ديوان امرئ القيس، صنعة السندوبي، القاهرة سنة 1930 ص 27. والبيت كما يقول السندوبي لعلقمة ابن الفحل الذي غالب امرأ القيس في قصيدة بائية-فخلط الرواة بين القصيدتين حتى عز التمييز بين أبيات امرئ القيس وأبيات علقمة. والجزع (بكسر الجيم وفتحها) الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض، قد شبهت به العيون.
(46)نقد الشعر، تحقيق وتعليق د. محمد عبد المنعم خفاجي. دار الكتب العلمية. بيروت. ص 168.
(47)شرح ديوان الخنساء، دار التراث بيروت. سنة 1968، ص 27.
(48)الإيضاح.. ص 305 وفي شرح القزويني أمثلة شعرية أخرى لإطناب الإيغال…
(49)كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب لابن الأثير الجزري. بغداد سنة 1982 ص / 179. والتعريف نفسه مأخوذ من العسكري في "الصناعتين" ص 413.
(50)عن المصدر السابق/ ص 180.
(51)كتاب الصناعتين/ ص 413.
(52)ديوان أبي نواس. شرح وتحقيق الغزالي. بيروت/ ص 607. والعرام: شدة الزمان وشراسته.
(53)سورة التوبة/ 111.
(54)جوهر الكنز، لابن الأثير الحلبي/ ص244.
(55)ديوانه /وزارة الأعلام العراقية، تحقيق عبد الأمير مهدي الطائي. سنة 1977 الجزء الأول/ ص 208.
(56)الإيضاح.. ص 310.
(57)ورد البيت في معظم المصادر والمراجع: "ديارك" بالكسر والصحيح ما ذكرنا لأنه بصدد امتداح رجل ومخاطبته.
وقبل البيت مباشرة قوله:
وأهنت، إذ قدموا، التلاد لهم
وكذاك يفعل مبتني النعم (ديوانه-صادر/88).
(58)بعض الآية 54/ من سورة المائدة.
(59)الإيضاح/ 310-311.
(60)نفسه/ 311.
(61)ديوانه "محروم" مكتبة الإرشاد- جدة، ودار الكتاب العربي بيروت/ ص 110.
(62) م. ن. ص 79.
(63)الإيضاح.. ص 311 وانظر جوهر الكنز / 234 وفيه ذكر للبيت وسبب التكميل فيه.
(64)شرح البرقوقي 1/269.
(65)الإيضاح/ 312.
(66)سورة الإنسان/ جزء من الآية 8. والتعريف من: الإيضاح.. ص 313.
(67)شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، صنعة ثعلب. النسخة المصورة عن دار الكتب بالقاهرة سنة 1944/ ص 53 والعلة، ههنا معناها، الانشغال أو الحدث الكبير، ولا نظن قصد بها المرض والضعف..
(68)الصناعتين/ 434.
(69)الصناعتين/ 434.
(70)ديوانه/ 290. والجرعاء، مؤنث الأجرع، وهو الكثير الممتد من الرمل.
(71)الإيضاح في علوم البلاغة/ 313-314.
(72)سورة النحل/ 57.
(73)تفسير الكشاف، للزمخشري جـ 2/414.
(74)الإيضاح/ ص314.
(75)شرح العكبري لديوان المتنبي جـ 4/290. وابن المحكم، شاعر جاهلي من أشراف العرب ت نحو 580.
(76)بعض الآية/ 14 من سورة لقمان. الوهن: الضعف الشديد. الفصال: الفطام ومنع الرضاعة.
(77)حاشية تفسير الكشاف جـ 3/232، للإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الاسكندري..
(78)الإيضاح.. ص 317.
(79)الإيضاح في علوم البلاغة/ ص 315-316.
(80) نفسه/ 317.
م/ن