السلـامـ عليكمـ
اليومـ يبت لكمـ تقرير عن غزوة الخندق
غزوة الخندق (الأحزاب)
وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة النبوية المباركة.
وذلك ان نفراً من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضيريّ، وحييّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة بن قيس الوالبي، وأبو عمارة الوالبي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فقالوا لهم: انّ محمداً قد وترنا ووتركم، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلا بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومنا بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وإنّا نحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، وهم من أسفل، وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين وهو الموضع الذي يسمىّ ببئر بني المطّلب، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟
قالوا : بل دينكم خير من دينه، وانكم أولى بالحق منه.
فأنزل اللّه تعالى فيهم ـ على رواية ـ: (ألم تر إلى الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً)(1) إلى قوله: (وكفى بجهنّم سعيراً)(2).
فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه(ص).
وجاءهم أبو سفيان فقال لهم: قد مكّنكم اللّه من عدوّكم، هذه اليهود تقاتل معكم ولن تنفك عنكم حتى نأتي على جميعهم، أو نستأصلهم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج ذلك النفر من اليهود حتى أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول اللّه (ص) وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشاً قد تابعوهم على ذلك.
فخرجت قريش وقائدهم إذ ذاك أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجّهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل، نحو المدينة.
المشورة تهدي إلى الظفر
فلما سمع بهم رسول اللّه (ص) استشار أصحابه، فكان رأيهم على المقام في المدينة وحرب القوم إن جاءوا إليهم على أنقابها.
فأشار سلمان الفارسي بالخندق واستحسنه القوم، ونزل جبرئيل على رسول اللّه (ص) بصواب رأي سلمان.
فخرج رسول اللّه (ص) فحدّد حفر الخندق من ناحية اُحد إلى راتج، حيث كان سائر أنحاء المدينة مشبك بالنخيل والبنيان، وخطّ موضع الحفر بخط على الأرض، فضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول اللّه (ص) ترغيباً للمسلمين في الأجر فحفر بنفسه في موضع المهاجرين، وعلي (ع) ينقل التراب من الحفرة، حتى عرق رسول اللّه (ص) وعيى وقال: (لا عيش إلا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين).
فقالوا مجيبين له:
(نحن الذين بايعوا محمدا على الجهـاد مـا بقـيـنا أبدا)
وكان سلمان رجلاً قويّاً، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا، فقال النبي (ص): (سلمان منّا أهل البيت).
وكان لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً يحفرونها، فبدأ رسول اللّه (ص) فعمل فيه وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا.
وأبطأ عن رسول اللّه (ص) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعف عن العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه (ص) ولا إذن.
وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لابدّ منها ذكرها لرسول اللّه (ص) واستأذنه باللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبةً في الخير واحتساباً لـــه، فأنزل اللّه في اُولئك المؤمنين: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)(3).
ثم قال تعالى في المنافقين الذين كانوا يتسلّلون من العمل ويذهبون بغير إذن: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، قد يعلم اللّه الذين يتسلّلون منكم لواذاً)(4).
وكان الذي أشار بالخندق سلمان فقال: يا رسول اللّه، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، ولم تكن تعرفه العرب قبل ذلك، ولذا قال المشركون لما رأوا الخندق: انها مكيدة فارسية ما كانت العرب تكيدها.
النبي (ص) يجوع ليَشبع الآخرون
قال علي (ع) : كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة(ع) ومعها كسرة من خبز، فدفعتها إلى النبي (ص) فقال: يا فاطمة ما هذه؟
قالت (ص): قرص خَبَزته للحسن والحسين (عليه السلام) جئتك منه بهذه الكسرة.
فقال النبي (ص): أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث.
بوارق الفتح
وبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل فيه المعاول، فبعثوا جابر بن عبداللّه الأنصاري إلى رسول اللّه (ص) يعلمه بذلك.
قال جابر: فجئت إلى رسول اللّه (ص) وقد شدّ على بطنه حجر المجاعة، وأخبرته بالخبر.
فأقبل (ص) ودعا بماء في اناء، فشرب منه ثم مجّ ذلك الماء في فيه، ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولاً فقال: بسم اللّه، فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب اُخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب اُخرى فبرقت برقة اُخرى فنظرنا فيها إلى قصور اليمن.
فقال رسول اللّه (ص): أما انه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرقة، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.
في ضيافة جابر
قال جابر : فلما رأيت رسول اللّه (ص) قد شدّ على بطنه حجراً علمتُ بأنه جائع، فقلت له: يا رسول اللّه هل لك في الغداء؟
قال (ص) : ما عندك يا جابر؟
قلت : عناق وصاع من شعير.
قال (ص) تقدّم وأصلح ما عندك.
قال جابر : فجئتُ إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي، فلما فرغت من ذلك، جئت إلى رسول اللّه (ص) فقلت: بأبي واُمّي أنت يا رسول اللّه قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت.
فقام رسول اللّه (ص) إلى شفير الخندق ثم قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً، وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم! ثم لم يمرّ (ص) بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابراً!
قال جابر:فأسرعت إلى البيت وقلت لأهلي:قد واللّه أتاك رسول اللّه (ص) بما لاقبل لك به.
فقالت : هل أنت أعلمته بما عندنا؟
قال : نعم.
قالت : هو أعلم بما أتى.
قال جابر: فدخل رسول اللّه (ص) فنظر في القدر، ثم نظر في التنور، ثم دعى بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر أدخل عليّ عشرة، فأدخلت عشرة، فأكلوا حتى نهلوا، وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فأكلوه.
ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فدخلوا فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته فأكلوا وخرجوا.
ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فتعجّبت وقلت: يا رسول اللّه كم للشاة من ذراع؟
قال (ص) : ذراعان.
قلت : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد أتيتك بثلاثة.
فقال : أما لو سكتّ يا جابر لأكلوا كلهم من الذراع.
قال جابر: فأقبلت اُدخل عليه عشرة عشرة فيأكلون حتى أكلوا كلهم، وبقي واللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً.
المشركون ومحاصرة المدينة
قال : وحفر رسول اللّه (ص) الخندق وأتمّه قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، وقد طال حفره مايقارب من شهر واحد، وذلك بعد أن جعل له ثمانية أبواب، وجعل على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه.
ثم ضرب (ص) عسكره هناك وكانوا ثلاثة آلاف، فجعل الخندق أمامه، وجعل ظهره إلى سلع وهو جبل بالمدينة، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، وذلك بعد أن استعمل ابن اُمّ مكتوم على المدينة.
وقدمت الأحزاب وعلى رأسهم قريش ومعهم حييّ بن أخطب، فلما نزلوا العقيق جاء حييّ بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم وقد تمسّكوا بما عاهدوا عليه رسول اللّه (ص) فدقّ باب الحصن، فسمعه كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان هو بنفسه الذي وادع رسول اللّه (ص) على قومه وعاقده على ذلك، فعرف انه حييّ بن أخطب، فأغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له.
فناداه حييّ: ويحك يا كعب افتح لي.
قال : ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، واني قد عاهدت محمداً، وانك لست بناقض مابيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً.
قال : ويحك افتح لي اُكلّمك.
فقال : ما أنا بفاعل.
قال حييّ، وقد فكّر في كلام يثير به كعب: واللّه ما أغلقت الباب دوني إلا عن جشيشتك التي في التنور تخاف أن آكل منها.
فأحفظ الرجل ففتح له وقال: لعنك اللّه لقد دخلت عليّ من باب دقيق.
فقال حييّ: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نَقَمى إلى جانب اُحد قـــد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه.
قال كعب : جئتني واللّه بذلّ الدهر وبجهام قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.
فلم يزل حيي يفتله في الذروة والغارب ويقول له: بأن محمداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، وان فاتك هذا الوقت لاتدرك مثله أبداً، حتى سمع له على أن أعطاه عهداً من اللّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
وبهذا تمكّن حيي من اقناع كعب، فلما اقتنع كعب بذلك أرسل إلى كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود وقال لهم: ما ترون؟
قالوا : أنت سيّدنا وصاحب عهدنا فإن نقضت نقضنا معك، وإن أقمت أو خرجت كنا معك.
فقال لهم (ابن باطا) وكان أحد رؤسائهم: انه قرأ في التوراة وصف هذا النبي وانه لو ناوته الجبال الرواسي لغلبها، فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم، وحذرهم مغبّة نقضهم العهد معه.
وهنا انبرى حيي وقال: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا من العرب، ومازال يقلّبهم عن رأيهم حتى أجابوه، ثم طلب حييّ الكتاب الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (ص) فمزّقه وقال: قد وقع الأمر فتجهّزوا للقتال، فنقضوا عهدهم وعزموا على القتال.
وجاء حييّ بن أخطب إلى أبي سفيان والأحزاب فأخبرهم بنقض بني قريظة عهدهم ففرحوا بذلك.
بني قريظة يعلنون خيانتهم
ثم بدأ بنو قريظة يظهرون خيانتهم ونقضهم للعهد، وحاولوا أن يغيروا على المدينة من منافذها المؤدية إلى مساكن النساء والأطفال فبعثوا أحدهم ليطّلع على المنافذ ويخبرهم بها.
وفي أثناء استطلاعه بصرت به صفية بنت عبدالمطلب وهي مع جماعة من النسوة والأطفال وفيهم حسان بن ثابت كانوا في حصن فارع حصن حسّان بن ثابت، فقالت لحسّان: لو نزلت إلى هذا اليهودي لتقتله، فإنه يريد أن يدلّ بني قريظة على المنافذ المؤدية إلى الحصن.
فقال حسّان: يا بنت عبدالمطلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا.
وهنا تحزّمت صفية ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثم عادت إلى الحصن وقالت لحسّان: الآن فاخرج واسلبه.
أجابها حسّان : لا حاجة لي في سلبه.
النبي (ص) وأخبار بني قريظة
ولما نقض بنو قريظة عهدهم، انتهى خبرهم إلى رسول اللّه (ص) فبعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبداللّه بن رواحة وخوّات بن جُبير وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول اللّه (ص) وقالوا: من رسول اللّه؟ لاعهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلاً فيه حدة.
فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما إلى رسول اللّه (ص) فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة. أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.
فقال رسول اللّه (ص): اللّه أكبر أبشروا بنصر اللّه يا معشر المسلمين، وكان (ص) يبعث الحرس إلى المدينة خوفاً على الذراري من بني قريظة.
لكن عظم على المسلمين البلاء واشتدّ الخوف عندما أتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصروهم حول الخندق حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب لقضاء حاجته. وأنزل اللّه تعالى: (وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلاّ غروراً)(5).
وقال رجال معه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).
وقال بعضهم: يا رسول اللّه ان بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة، فأنزل اللّه سبحانه: (وما هي بعورة إن يريدوا إلاّ فراراً).
مفاوضات عسكرية
فلمّا اشتدّ البلاء على المسلمين من كثرة الأحزاب وطول محاصرتهم، بعث رسول اللّه (ص) إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، ففاوضهما بأن يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وذلك ليفتّ في عضد المشركين، فجرى بينه وبينهما مذاكرة الصلح، ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.
فبعث رسول اللّه إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا : يا رسول اللّه أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لابدّ لنا من العمل به فافعله، أم شيئاً تصنعه لنا؟
قال (ص) : بل شيء أصنعه لكم، وما أصنع ذلك إلا لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرمّا.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان ولا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمرنا تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا به نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم بحكمه.
فقال رسول اللّه (ص): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإن اللّه تعالى لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده.
وكان هذا بالإضافة إلى الفتّ في أعضاد المشركين، واستخبار معنويات المسلمين، تعليماً من الرسول (ص) في استشارة الحكام أهل الخبرة أيضاً.
بدء القتال
ولما علم رسول اللّه (ص) عزم أصحابه وعلوّ معنوياتهم رغم طول المحاصرة حيث دامت بضعاً وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، قام (ص) يشجّع اُولئك الذين أصابهم الضعف والوهن خوفاً من المشركين، ويحرّضهم على جهادهم، ويعدهم النصر من اللّه تعالى، ويحثهم بذلك على المجابهة إذا نشب القتال.
وفي هذه الأثناء انتدبت فوارس من قريش، وعلى رأسهم فارس يليل: عمرو بن عبدود العامري، خرج مُعلماً ليرى مشهده، وكان يعدّ بألف فارس، فأقبلوا على خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وكان عمرو العامري هذا ومن معه أول من عبر الخندق.
فخرج علي بن أبي طالب (ع) في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ومنعوا من عبور الآخرين، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.
وكان عمرو بن عبدود ينادي تارة: ألا رجل يبارزني؟
ويصرخ اُخرى: أين جنّتكم التي تزعمون انّ من قتل منكم دخلها؟ ويرتجز ثالثة ويقول:
ولقد بُححـــــــت من النـــداء بجـــمعكم هــــــل من مبارز؟
ووقفت إذ جبـــــن الشـــجاع مـــــواقــــف البطـــل المناجز
انـــــي كـــــــذلــك لـــــم أزل متســــــرّعاً نحــــو الهــزاهز
إن الشــــــــجاعة في الــفتى والجــــــــود من خيـر الغرائز
الايمان كله مع الشرك كله
وفي كل مرة يطلب عمرو المبارزة، كان رسول اللّه (ص) يقول لأصحابه: أيّكم يبرز إلى عمرو؟ وأضمن له على اللّه الجنّة؟
وفي كل مرة يقوم علي بن أبي طالب (ع) ويقول: أنا له يا رسول اللّه، فيأمره بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك غيره، والمسلمون ناكسوا رؤوسهم كأنّ على رؤوسهم الطير، لمكان عمرو بن عبدود.
فلما طال نداء عمرو بالبراز وتتابع قيام علي (ع) قال له رسول اللّه (ص): يا علي هذا عمرو بن عبدود فارس يليل.
قال : وأنا علي بن أبي طالب.
فقال (ص): إذن اُدن منّي يا علي، فدنى منه، فنزع (ص) عمامته من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه ذاالفقار وقال له: (اذهب وقاتل بهذا).
ثم رفع (ص) يديه نحو السماء وقال: (لاللّهمّ انّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم اُحُد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، ربّ لاتذرني فرداً وأنت خير الوارثين، اللّهمّ أعنه، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).
فلما برز علي (ع) قال (ص): (برز الايمان كله إلى الشرك كله)(6).
ولما برز علي بن أبي طالب (ع) إلى عمرو، برز وهو يهرول في مشيته ويرتجز ويقول مجيباً لعمرو:
لاتعجــــلنّ فقــد أتــــــــاك مجيــــب صـــوتك غيــر عاجز
ذو نـــــيّة وبـصـــــــــيرة والصـــــدق منـــــجى كـــلّ فائز
اني لأرجـــــو أن اُقــيــــم عليــــــــك نـائحـــــــة الجــنائز
من ضــربة نجــلاء يـبقى ذكــــــــرهـــا عنـــــد الهــــزاهز
على أعتاب المصاولة
ولما اقترب علي (ع) من عمرو، قال له عمرو: من أنت؟
قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه (ص) وختنه.
قال : واللّه انّ أباك كان لي صديقاً، واني أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا، فأتركك بين السماء والأرض لا حيّاً ولا ميّتاً؟
فأجابه علي (ع) قائلاً : قد علم ابن عمّي انك إن قتلتني دخلتُ الجنّة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي، تلك إذن قسمةٌ ضيزى.
فقال علي (ع): دع هذا يا عمرو، اني سمعتك تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.
قال عمرو : هات يا علي.
قال (ع) : تشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه.
قال : نحّ عني هذا، فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟ وكان قد أنفق مالاً في الصدّ عن سبيل اللّه فأنزل اللّه فيه: (يقول أهلكت مالاً لبداً)(7).
قال (ع) : فالثانية : أن ترجع من حيث جئت وترد هذا الجيش عن رسول اللّه (ص)، فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.
قال : إذن تتحدّث نساء قريش بأني جبنت ورجعت.
قال (ع): فالثالثة: أن تنزل إليّ وتقاتلني، فإني راجل وأنت راكب.
فنزل عمرو عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يسومني عليها، واني لأكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك، وقد كان أبوك لي صديقاً.
قال علي (ع): لكني اُحبّ أن أقتلك.
فغضب عندها عمرو وبدأ بالقتال فضرب علياً (ع) بالسيف على رأسه، فاتقاه بالدرقة فقطعها، وثبت السيف على رأسه (ع).
ثم بدره علي (ع) فضربه على ساقيه فقطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة، وكبّر علي (ع).
فانكشف من كان مع عمرو حتى عبروا الخندق منهزمين، فوقع نوفل بن عبدالعزّى في الخندق، فطعنه علي (ع) في ترقوته فمات في الخندق.
ضربة علي (ع) يوم الخندق
ولما انكشفت العجاجة نظروا فإذا بعلي (ع) على صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فلمّا همّ أن يذبحه تركه وقام فخطا خطوات ثم رجع إليه وأخذ بلحيته ثانية ليذبحه وهو يكبّر اللّه ويمجّده، فقال له عمرو: يا علي إذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي.
فقال (ع): هي أهون عليّ من ذلك، فذبحه وتركه، ثم أخذ رأسه وأقبل نحو رسول اللّه (ص) والدماء تسيل على رأس علي (ع) من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:
أنا علي وابن عبدالمطلب الموت خير للفتى من الهرب
يقول ذلك وهو يخطر في مشيته.
فقال بعض: ألا ترى يا رسول اللّه إلى عليّ كيف يتبختر في مشيه؟
فقال رسول اللّه (ص): انها لمشية لا يمقتها اللّه في هذا المقام.
ثم استقبله رسول اللّه (ص) ومسح الغبار عن عينيه وقال له: أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمد لرجح عملك بعملهم، وذاك انه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عزّ بقتل عمرو.
ثم قال (ص) : ضربة علي (ع) يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.
وسُمع منادياً ينادي ـ ولا يرى شخصه ـ يقول:
قتل علـــــي عمرا قصـــــم علي ظهراً
ابرم علي أمراً
ووقعت الهزيمة بالمشركين وتفرّقت الأحزاب خائفين مرعوبين.
فقال رسول اللّه (ص): الآن نغزوهم ولا يغزونا، فكان كما قال (ص) فلم يغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتى فتح اللّه عليهم مكّة.
ولما سألوا علياً (ع) عن سبب قيامه عن صدر عمرو ثم العود إليه ثانية، وعن تركه سلبه؟
قال (ع) : ان عمرواً تجاسر عليه مما أثار غضبه، فقام يخطو خطوات يطفىء بها غضبه ليكون قتله إيّاه خالصاً لوجه اللّه تعالى لا يشوبه شيء من التشفي والإنتقام لنفسه، كما انه ترك سلبه، لأن عمرواً قد سأله ذلك وطلب منه أن لايسلبه بعد قتله.
ضربتان : أعزّ وأشأم
روى الأودي قال : سمعت ابن عياش يقول: لقد ضَرب عليّ (ع) ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني بها ضربة عمرو بن عبدود العامري، ولقد ضُرب علي (ع) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها، يعني بها ضربة ابن ملجم المرادي، وفي قتل عمرو بن عبدود يقول حسّان بن ثابت:
أمســــــــى الفتى عمــرو بـن عبد يبتغي بجــــــــــنوب يثــرب غـــــارة لم تنظر
ولقد وجــــدت ســـيوفنا مشــــــــــــهورة ولقـــــد وجـــــدت جـيــــــادنا لم تقصر
ولقـــــد رأيــــت غـــــــداة بــــــدر عصبة ضربوك ضرباً غير ضـــرب المخســــر
أصــــبحت لا تـــــدعى ليــــوم عظــــيمة يا عمـــــرو أو لجســــــــيم أمــــر منكر
فسمعه أحد بني عامر فأجابه وهو يرد عليه افتخاره بالأنصار قائلاً:
كـــذبتم وبــــيت اللّـــه لم تقتــــــلوننا ولكن بســـــــيف الهاشــــميين فافخروا
بســـيف ابن عبداللّه أحمد في الــوغا بكف علــــــــيّ نلــتمُ ذاك فاقصـــــــــروا
فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأســــــــكم ولكنــــــــــه الكفـــــو الهــزبر الغضــنفر
عليّ الذي في الفخــــر طال بنــــــاؤه ولا تكثـــــتروا الــدعـوى علينا فتحـقروا
مع ابنة عبدود
وروي انه لما قتل علي (ع) عمرو بن عبدودّ نعي إلى اُخته عمرة بنت عبدود، فلما جاءت إليه ورأته على حلّته لم يسلبه قاتله، قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟
قالوا لها : علي بن أبي طالب.
قالت : لم يعد موته إلا على يد كفو كريم، لا رقأت دمعتي ان هرقتها عليه، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:
لو كان قـــــاتل عمــــرو غير قاتله لكنـــــتُ أبـــكي عـليه آخــــــر الأبد
لكــــن قــــــاتل عمرو لا يعــاب به مــن كــــان يـدعى قديماً بيضة البلد
ثم قالت : واللّه لا ثأرت قريش بأخي ما حنّت النيب ـ والنيب جمع ناب وهي المسنّة من النوق ـ كناية عن انها لاتستطيع ذلك أبداً.
في الحرب ومع المشركين فقط
كان نعيم بن مسعود الأشجعي ممن يجيد فنّ الشغب والفتنة، فأتى رسول اللّه (ص) في جوف الليل وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فقال: يا رسول اللّه اني قد آمنتُ باللّه وصدقتك، وكتمتُ ايماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك وأنصرك بنفسي فعلت، وإن أمرتني ان اُخذّل بين اليهود وبين قريش فعلت حتى لايخرجوا من حصنهم.
فقال رسول اللّه (ص) : خذّل بين اليهود وبين قريش، فإنه أوقع عندي.
فجاء إلى أبي سفيان وقال له: انك تعرف مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ محمداً قد وافق اليهود على أن يأخذوا رهائن من أشرافكم ليسلّموهم إلى محمد يضرب أعناقهم، ثم يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه بني النضير وقينقاع، فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهناً تبعثوا بهم إلى مكّة، فتأمنوا مكرهم وغدرهم.
فقال له أبو سفيان: وفّقك اللّه وأحسن جزاءك، مثلك من أهدى النصائح.
ثم جاء نعيم من فوره ذلك إلى بني قريظة وقال لكعب وكان نديماً له في الجاهلية: يا كعب انّك تعلم مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ أبا سفيان قال: نخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد، فإن ظفروا كان الفخر لنا، وإن خسروا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، فإنهم إن لم يظفروا بمحمد رجعوا إلى مكة وغزاكم محمد فقتلكم، لكن إن أخذتم رهائن منهم، لم يذهبوا حتّى يردّوا عليكم عهدكم الذي جعلتموه بينكم وبين محمد.
فقال له كعب : أحسنت وأبلغت في النصيحة لانخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهناً يكونون في حصننا.
وكان كذلك، فإنهم طلبوا رهناً حينما طلب منهم أبوسفيان أن يبدأوا القتال، فقال أبوسفيان: صدق نعيم، فاختلفت كلمتهم.
الأحزاب ينهزمون
لما قَتل علي (ع) عمرو بن عبدود دخل الوهن والذلّ معسكر الأحزاب، واضطربوا أشدّ اضطراب، فلما جنّ اللّيل قام رسول اللّه (ص) على التلّ الذي عليه مسجد الفتح، وكانت ليلة ظلماء قرّة فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ أعادها فلم يقم أحد، ثم قال: من هذا؟ وكان حذيفة قريباً منه، فقال : أنا حذيفة يا رسول اللّه.
فقال : اقترب يا حذيفة أما تسمع كلامي؟
فقام حذيفة وهو يقول: القرّ والضرّ جعلني اللّه فداك منعاني أن اُجيبك.
فقال رسول اللّه (ص): انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.
فقال حذيفة : نعم يا رسول اللّه، ثم قام فأخذ سيفه وقوسه وترسه، وليس به ضرّ ولا قرّ واتّجه نحوهم.
فقال له رسول اللّه (ص) بعد أن دعا له: يا حذيفة لاتحدث شيئاً حتى تأتيني، فلما ذهب حذيفة رفع رسول اللّه (ص) يديه إلى السماء ودعا قائلاً: (يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرّين، ويا مغيث المهمومين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي) وما أن تمّ دعاؤه حتى نزل جبرئيل وهو يقول: يا رسول اللّه انّ اللّه عزّ ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك وقد أجابك وكفاك هول عدوّك، فجثا رسول اللّه (ص) على ركبتيه، وبسط يديه، وأرسل عينيه، ثم قال: (شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي).
ثم قال : ان اللّه عزّ وجل قد بعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصى وأرسل عليهم ريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.
حذيفة ودعاء الرسول (ص)
قال حذيفة : خرجت فلما وصلت إليهم، أقبل جند اللّه الأول ريح فيها حصى، فما تركت لهم ناراً إلاّ أذرّتها، ولا خباءاً إلاّ طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته، حتى جعلوا يتترّسون من الحصى.
فجلست بين رجلين من المشركين، فقام أبو سفيان وقال: إن كنّا نقاتل أهل الأرض فنحن بالقدرة عليه، وإن كنّا نقاتل أهل السماء كما يقول محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، انظروا بينكم لا يكون لمحمد عين بيننا، فليسأل بعضكم بعضاً.
قال حذيفة : فبادرتُ إلى الذي عن يميني وقلت له: من أنت؟
قال معاوية.
وقلت للذي عن يساري : من أنت؟
فقال : عمرو بن سهيل، ولم يسألاني عن اسمي.
ثم أقبل جند اللّه الأعظم. ريح فيها جندل، فقام أبو سفيان إلى راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء، ولما أراد أن يركب راحلته أمكنني قتله، فلما هممت بذلك تذكرت قول رسول اللّه (ص): (لا تحدثن حدثاً حتى ترجع إليّ) فكففت ورجعت بعد أن انهزم المشركون وذهب الأحزاب.
فأخبرتُ رسول اللّه (ص) الخبر وقد طلع الفجر، فتهيّأ وتهيّئنا معه للصلاة، فصلّى بنا الفجر ثم نادى مناديه: لا يبرحنّ أحد مكانه إلى أن تطلع الشمس، فلما طلعت الشمس انصرفنا مع رسول اللّه (ص) إلى داخل المدينة وهو يقول على رواية: (لا إله إلاّ اللّه وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير).
القرآن وغزوة الأحزاب
ثم انّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّه (ص) سورة الأحزاب يذكّر المسلمين فيها بما أصابهم ذلك اليوم من ضرّ، وبما منّ عليهم من الفتح وبما أنزل عليهم من النصر، اضافة إلى ما في تسمية السورة بالأحزاب من اشارة إلى أهمية الأمر وعظم الواقعة حيث يقول تعالى:
(يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان اللّه بما تعملون بصيراً، إذ جاءوكم من فوقكم، ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنّون باللّه الظنونا ـ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)(8) إلى قولـه تعالى: (وردّ اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى اللّه المؤمنين القتال، وكان اللّه قويّاً عزيزاً)(9).
ثمّ بشّرهم بفتح حصون اليهود حيث يقول تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقــــاً وأورثكم أرضهم وديارهــــم وأموالهم وأرضــــاً لم تطأوها، وكان اللّه على كلّ شيء قديراً)(10).
1 ـ النساء : 51.
2 ـ النساء : 55.
3 ـ النور : 62.
4 ـ النور : 63.
5 ـ الأحزاب : 12.
6 ـ راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 13 ص 261 ط دار إحياء التراث العربي.
7 ـ البلد : 6.
8 ـ الأحزاب : 9 ـ 11.
9 ـ الأحزاب : 25.
10 ـ الأحزاب : 26 ـ 27