اختي يمكن ها ايفيدج
ليست الأزمة العربية الحالية بوجوهها المتعددة (سياسية وثقافية واقتصادية .. الخ) نتاج إشكاليات حديثة الجذور ، أو أخطاء أو هفوات في خيارات الأمة السياسية أو الأيديولوجية . إنها أزمة لا تتعلق بالإرادة الذاتية بشكل خاص ، وبالتالي فإنها لن تحمل بمجرد تغيير قناعات معينة ،وهي أزمة يقع نصف عبئها علينا كأمة وقيادات ولكن نصفها الآخر ، بل اكثر من النصف ، يقع على الآخر ـ الغرب ـ كنظام وثقافة وسياسة.
إن جذور هذه الأزمة تعود الى اكثر من قرنين من الزمان ، بل إن ما يتعلق بنا فيها يعود الى زمن أبعد من ذلك . فقد كانت بدايتها في لحظة الخلل في ميزان القوى بين عالم الإسلام ، والدولة العثمانية منه بشكل خاص ، وبين أوروبا الغربية والصناعية الإمبريالية الناهضة مدنياً والجائعة للسيطرة والنهب.
إن السؤال حول ما إذا كانت الأمور تتعلق بتقدم غيرنا وتأخرنا وانحطاطنا ، أو أن الآخر مارس النهب والسيطرة فاستقوى علينا ، ليس لأننا تأخرنا بل لأننا لم نحمل داخلنا بذرة السيطرة والنهب ، قد أصبح سؤالا أكاديميا الآن أكثر منه مدخلا لحل الأزمة. ذلك أن الأمر الأهم أن أمتنا في المرحلة التالية للعصر السلجوقي ،ومنذ حوار الغزالي ـ ابن رشد الشهير ، مالت لتعطيل ما هو عقلاني في وعيها الجمعي حتى ضعف وانزوى ، وربما كان التأخر التكنولوجي هو السبب الرئيسي في الضعف والانزواء .. بل يمكن التدليل على أن المستوى التكنولوجي بمعناه الأعم لم يكن على درجة من السوء بالشكل الذي درجنا على تصويره ، ولكن تعطيل العقلانية ، ودور الفكر في صناعة السياسة أدخل عصياً غليظة في آلية اتخاذ القرار السياسي، مما عطل هذه الآلية ووصمها بالجمود ، وجعل صنع القرار حكراً في أيدي جهاز الحكم (بمعناه الضيق كسلطة أبوية فوقية) وبالتالي في أيدي القوى الهابطة تاريخيا ، ونفي وغرب القوى الصاعدة عن المشاركة في السلطة (بمعناها الأوسع )، مما جعل الدولة التقليدية تعيش في عزلة شعبية وتفقد قدرتها على تمثيل الفكر الجمعي للأمة، وجعلها تلجأ للآخر في تقوية وجودها، مما أدى في النهاية الى سهولة وقوعها في الاستعمار المباشر الذي جرت إليه الأوطان والشعوب. ولذا جاءت صدمة المواجهة بيننا وبين أوروبا الحديثة ، أوروبا حاملة المشروع ، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية الذي يليه صدمة مضاعفة الأثر فلم نجد الآخر أقوى وأكثر تعقيدا وتقدما فحسب ، بل كنا عاجزين عن أن نجدد أنفسنا فيما كانت السمات والدوافع الإمبريالية لأوروبا لا تسمح بتجديد ذاتنا وبنائها على نسق يحصن بلادنا وشعوبنا أمام أساطيل الآخر وثقافته وقناصله وتجارته.
إن هذا ما يجعل الأزمة التي تواجه الأمة اليوم أعقد من أية أزمة واجهتها منذ ظهور الإسلام. فلم يعد الأمر يتعلق بتحديد خيارات جديدة للأمة، بل بإعادة بناء كامل لها. ولم يعد الأمر يتعلق بإرادة تحرير وتصنيع في بلادنا فحسب ، بل بنضال طويل ومرير يقنع الآخر ـ الغرب ـ سلماً أو حرباً بأن نظامه مشوه ومعاد للإنسان، وأن العلاقة بيننا وبينه يجب تشكيلها وبناؤها من جديد وعلى أسس جديدة. كما لابد أن تناضل الأمة داخليا ضد كل مراكز القوى السياسية وغيرها، التي ارتبطت بهذه العلاقة المشوهة بيننا وبين الغرب وربطت مصيرها بها ، وهو ما يتطلب القدرة والجرأة على التجديد من الداخل بقراءة معطيات الواقع من أجل تفكيك نظرية البنية الاجتماعية وبنية السلطة، وهو ما يؤدي الى النجاح في وضع خطة منهجية فكرية لا تقوم على نسخ التجارب الأخرى ، بل على ربط الموروث الذهني الفاعل اجتماعيا ـ وهو في حالتنا العقيدة الإسلامية ـ مع العلاقات الميدانية السارية (نظام تعليمي اقتصادي، اجتماعي ، سلطوي) حتى نخرج من مأزق انفصام الشخصية والنفاق بين ما هو رسمي وما هو شعبي.
التبعية تاريخياً
استؤنف الرد الأوروبي العسكري على العالم الإسلامي منذ القرن السادس عشر من قبل أسبانيا والبرتغال ، ولكن محاولتهما لكسب مواقع قدم ثابتة وواسعة في بلادنا أجهضت . ثم عادت الكرة في القرن التالي على جبهة المواجهة مع روسيا القيصرية التي توسعت في القرم ثم عادت في القرن الثامن عشر لتستولي على معظم القرم وعلى رومانيا وشواطئ البحر الأسود. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأت خسائر المسلمين الواحدة بعد الأخرى ، فقد انسحب العثمانيون من اليونان وخسروا معظم المغرب العربي ومصر والسودان وسواحل البحر الأحمر وقبرص لصالح بريطانيا وفرنسا ، في حين استولت الأولى على الهند وساحل الخليج وبحر العرب وعدن. وما إن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى كان العالم الإسلامي كله محتلاً ما عدا السعودية وتركيا الحديثة وإيران.
ولكن نظام السيطرة الأجنبية كان له وجه آخر . ففي ثلاثينات القرن الماضي ، ومع دخول السفن التجارية الى أساطيل التجارة الأوروبية ، فرضت القوى الاستعمارية على الدول العثمانية تخفيضا حادا في رسومها الجمركية ، وتدفقت السلع الى أسواق بلادنا لتعود السفن الغربية محملة بمدخرات الأمة وبالذهب والفضة. ومع نهاية القرن كانت قيمة الواردات الى بلادنا قد تجاوزت الصادرات فانهارت الحرف والصناعات المحلية حتى أصدرت حكومة الاتحاد والترقي قانونا رسمياً في 1913 بإلغاء الروابط الحرفية ، وقوضت بالتالي أحد أعمدة نظامنا الاجتماعي وأحد أهم الأدوات التي كان يمكن أن تشكل نواة نهوضنا الصناعي الحديث.
ولكن المشكلة الجهورية كانت في رد فعلنا الفكري والثقافي . فلأن السياسي اصبح منذ زمن بعيد في تاريخنا يحتل الموقع الأعلى والمتقدم فقد كان رد الفعل الأول على أزمة احتلال ميزان القوى مع أوروبا في القرن الماضي هو رد فعل رجال السياسة والحكم. أحمد وفيق باشا وخير الدين التونسي ورجال حقبة التنظيمات العثمانية هم الذين وضعوا بذور تصورنا الفكري لتلك المرحلة.. هم الذين قالوا إن الحل يأتي بتوفيق أو تركيب بين موروثنا الفكري وقيم أوروبا الجديدة. وغاب عنهم وعن الجيل التالي لهم مثل على مبارك ومحمد عبده وجيل الحركة الإصلاحية بشكل عام ، أن نهوض الأمم لابد أن يقوم على قيم أساسية أصيلة وأن أوروبا الجديدة كانت تحمل مشروعاً للاستعمار والهيمنة والسيطرة ، وأنها لن تسمح لعالم الإسلام أن ينهض من خلال الاستعانة بها صناعياً وإدارياً وعسكرياً.
وقد تداعى هذا الخطأ الأولى في العقود التالية إلى أن برزت قوى واتجاهات تنادي صراحة بالتخلي عن كل موروث والخضوع الكامل لقيم الغرب ومنظوماته، وغاب عن هؤلاء أن التاريخ ـ قيمه وحديثه ـ لم يشهد أمة نهضت بالركوع أمام عدوها، بل العكس ، إن مثل هذا الخيار أدى إلى أن تنتهي أمم بأكملها وتنقرض حضارياً وثقافياً وفي أحيان أخرى بشرياً. من ناحية أخرى ، ومنذ انطلق المشروع الاستعماري الأوروبي ، أدرك صناع القرار الأوروبيون في لندن وباريس ـ وحتى في فيينا
وبطرس بورج ـ الأهمية الجيوبولوتيكية لقوس المتوسط الجنوبي الشرقي ، أي مصر و فلسطين . وبعد محاولة محمد على الجريئة في ثلاثينات القرن الماضي أدركت لندن بشكل خاص أن تأمين إمبراطوريتها النامية في آسيا وأفريقيا يستدعي تأمين المفصل المصري ـ الفلسطيني . لقد بدأت الدعوات لتأسيس كيان قومي يهودي في فلسطين منذ 1840 على يد رئيس وزراء بريطانيا (بالمرستون) وذلك قبل نصف قرن من تأسيس الحركة الصهيونية. ولم يكن غريبا بالتالي أن يكون القرار السياسي الأول ـ أي وعد بلفور ـ بتأسيس الكيان الصهيوني في 1917 هو قرار بريطاني . فيما بعد اكتشف النفط في بلادنا ، ونهضت حركة تحرر وطني في معظم أقطارنا ، فاضطرت القوى الاستعمارية إلى أن تتراجع تراجعا تكتيكيا:أن تنسحب بجيوشها وأساطيلها في معظم بلادنا ، على أن يستمر نظام الهيمنة والسيطرة مرتكزا على عدة أنظمة فرعية:
1ـ تجزئة العالم الإسلامي ، وخاصة قلبه العربي ، إلى وحدات متصارعة مقطوعة عن بعضها البعض، يشعر كل منها بالحاجة للأجنبي.
2ـ تسليم مقاليد دولة الاستقلال الى نخبة متغربة ، أو صديقة ، أو حتى عميلة للعواصم الغربية الاستعمارية ، وإحاطة هذه النخبة بقطاع واسع من الكتاب والصحافيين والتجار ورجال الفكر والتعليم والإدارة الذين لا يعرفون مرجعية لهم سوى المرجعية الحضارية الغربية ، سواء كان ذلك بحسن نية أو سوئها.
3ـ منع المنطقة وخاصة كياناتها الكبرى ، سلماً أو حرباً ، من إنجاز أهداف النهوض المدني وتحقيق المنعة العسكرية ، واستغلال الثروات لصالح الشعوب ومستقبلها ، بل قامت الدول الاستعمارية ـ ومازالت ـ بالعمل على امتصاص هذا الفائض في سوق واقتصاد وحركة نهوض الكيانات الأخرى . كما استخدمت القوى الغربية ثقلها الصناعي وسيطرتها على المنظومات النقدية والاقتصادية العالمية لأحكام ارتباط اقتصاد بلادنا بعجلة الاقتصاد والنقد الغربي.
4ـ جاء إنشاء "دولة إسرائيل" في البداية كضمان للممرات الاستراتيجية في المنطقة واستجابة للمصالحة التاريخية بين اليهودية والمسيحية الأوروبية البروتستانية ، ولكنها تحولت فيما بعد الى حارس لنظام التجزئة وأداة قمع في يد السيطرة الغربية ضد القوى والأنظمة "الراديكالية" أو الداعية للتحرر من هيمنة الخارج ، ويراد لها في المرحلة القادمة من خلال مشروع السلام والتطبيع الشامل معها ، أن تلعب دوراً رئيسياً في دعم النخب المتغربة وقيمها وأخلاقها في بلادنا ، وأن تساهم سلماً ، بعد أن كانت تساهم حرباً ، في السيطرة على ثروات المنطقة وأسواقها.
5ـ على أن جسم الجماعة ـ الأمة ـ في بلادنا أصبح يئن أيضا تحت وطأة الانقسامات الاجتماعية ، وانهيار النظام الاجتماعي التقليدي أمام هجوم التحديث الذي لجأت إليه دولتنا منذ مرحلة التنظيمات العثمانية في منتصف القرن الماضي وحتى الآن. إن بلادنا تعاني من انقسام الفكر والثقافة والمرجعيات الأيديولوجية ، وتعاني من انقسام القوى الاجتماعية على السواء.. فقد أدى تقويض الحرف والأوقاف وتحديث القضاء والتعليم والجيش ونزع ملكية الأرض من عامة الأمة وتوزيعها على فئات صغيرة ـ إضافة لارتباط أسواقنا بالخارج ـ إلى تهميش طبقة العلماء التي حرست نظامنا الاجتماعي لقرون ، وإلى نشوء فئات اجتماعية ـ مثل التجار وكبار الضباط وقطاع من المثقفين ـ مرتبطة بطبيعتها بالخارج ، والى تشكيل أنظمة قضاء وتعليم في حالة صراع وصدام مع قيم الأمة ومثلها ومصالحها. وفي النهاية ، وبعد أن سقطت شرعية الاستقلال التي تمتعت بها الدولة الحديثة في السنوات التالية خروج الجيوش الأجنبية ، وهو الصراع الذي تجند الدولة الحديثة في بلادنا له كل أدوات القمع التي تملكها ، اكتملت بالتالي دائرة الصراع والانقسام الداخلي وأصبح هذا الانقسام الذي ولد من رحم اختلال ميزان القوى مع أوروبا في القرن الماضي ، أصبح هو أيضا أحد أسباب استمرار هيمنة الخارج.
التبعية نظام متماسك
إن من الضروري أن نعي أنه لا يمكن تشبه نظام التبعية بالحبال التي تربط بلادنا بالخارج ، بل الأصح أن تشبه بشبكات متداخلة ، والأكثر صحة أن نراها كشبكة من الأوعية الدموية ، تمتد في كل أجزاء حياتنا وبلادنا .تتغذى من مائنا وهوائنا وتصب لصالح الآخر ، ولأنها شبكات متسعة متشعبة عميقة الجذور فلا يمكن التخلص منها دفعة واحدة ، أو بضربة واحدة ، أو في عقد واحد أو اثنين .. وباعتبارها متصلة بالنظام العالمي كله ، عالم سيطرة الغرب الأطلسي على آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية ، وعلى ما يسمى بالمؤسسات الدولية فإن أنجاز مشروع تقويضها ـ أي إنجاز مشروع الاستقلال ـ لابد أن يعتبر مشروعاً عالميا.
إن من الملاحظ أنه فيما عدا الولايات المتحدة وروسيا فإن حجم جيوش معظم الدول الأوروبية أصغر من حجم جيوش عدد كبير من دول العالم الثالث. ولكن الواقع يشير الى أن دول أوروبا الغربية بشكل عام تمارس درجة من السيطرة والهيمنة على قطاع واسع من دول العالم الثالث. إن الجيش التركي الذي تستخدم دولته لإحكام السيطرة الغربية على شرق المتوسط هو أكبر حجما من جيش بريطانيا وفرنسا مجتمعتين.
من ناحية أخرى نرى كيف أن دولاً عربية وإسلامية قد اختارت النظام الإسلامي وتحررت بالتالي أيديولوجيا وسياسيا الى درجة كبيرة ولكن ضعف بنيات دولة التجزئة وشراسة نظام الاقتصاد والتوزيع العالمي ، جعلها دولا مدينة بمليارات الدولارات .. وهو الأمر الذي يجعل من استقلالها جزئيا وغير متكامل.
إن هذا هو ما يجعلنا نؤكد على تماسك نظام التبعية ، الذي نشأت دوائره بشكل متقاطع في مرحلة زمنية واحدة من القرن الماضي..ويستدعي هذا التماسك الوعي بأن عملية الاستقلال لابد أن تواجه دوائر التبعية جميعها ، كلاً على حدة ، ومعاً في الآن نفسه.
إن استقلالاً سياسيا بدون التخلص من التبعية الثقافية وبدون نمط مستقل للتنمية سرعان ما سينهار تحت وطأة الضغوط.
وأي محاولة للاستقلال الاقتصادي ولامتلاك ناصية القرار السياسي في ظل حدود الدولة الوطنية الصغيرة ـ دولة التجزئة ـ سيكون ضربا من المناورة مع التاريخ . كما أن محاولة إيهام الذات بأن الكيان الصهيوني محدود الخطر بمنطقة جغرافية وعلى شعب معين ، هو انحراف في رؤية التاريخ والواقع على السواء. إذ أن استمرار بقاء هذا الكيان سيكون خطراً على الناس وعلى ثقافتهم وعلى استقلال المنطقة وعلى خياراتها في التنمية والنهضة.
على أن مشروع الاستقلال في النهاية هو مشروع تغيير ميزان القوى العالمي أي هزيمة نظام الهيمنة وإعادة دول المنظومة الغربية الى حجمها الحقيقي ، ومساعدة شعوبها ـ سلماً أو حرباً ـ على التخلص من رؤيتها المشوهة لنفسها وللعالم : الرؤية القائمة على مركزية الغرب وعلى الثقافة العنصرية وعلى مفاهيم سيادة الرجل الأبيض ، وهو ما يستدعي تحالفاً عالميا ًبين المظلومين وأن يكون مشروع استقلالنا ذا ارتباط باستقلال الشعوب الأخرى.
نحو مشروع نهضوي استقلالي
إن المسألة الأساسية التي يجب على قادة الأمة وعلمائها وزعمائها أن يروها هي أن النهضة والاستقلال لا يمكن أن يتحققا بمجرد نشر وعي وثقافة استقلالية ، فقد كانت روح الأمة وطموحها مسكونة ـ ومازالت ـ بالنزوع نحو إنجاز مشروع الاستقلال.
إن النهضة هي متغير على أرض الواقع وفي داخله ، ولإنجاز مشروعها لابد من أن تضرب الأمة وقادتها وزعماءها في ملامح هذا الواقع بمثابرة واستعداد عميق للتضحية ، وإيمان واسع بأن ظهرها على الجدار.
وكما ضرب النحات في الصخر ، فإن كل متغير مهما صغر في الواقع يأخذنا قدما الى مرحلة التشكيل المبدع في صورته الأخيرة ، ولكن وفي مراحل عديدة ، سيكون دمنا هو البديل عن عرق النحات.
ولهذا فإن كل ما له علاقة بتنمية الوعي وإعادة بنائه في النقاط التالية لابد أن يرى في محدودية أثره وهامشيته ، ما لم يرتسم في الواقع ، مدعوما بمصداقية نضالية وكمتغير حقيقي.
1- السعي الى ودعم تشكيل والعمل على انتشار وتوسع المنظمات والتجمعات الأهلية التي تجعل من مقاومة النفوذ الأجنبي بكل أشكاله ، ودعم الثقافة والقيم الوطنية والإسلامية والحفاظ على ثوابت الأمة التاريخية ، هدفا لها. ويجب أن يتم هذا النشاط ـ ما أمكن ـ مستقلاً عن الأنظمة الحاكمة مهما كان الرأي في هذه الأنظمة إيجابيا، حتى لا تقيد معايير الدبلوماسية العالمية وواقع ميزان القوى الدولي حركة هذه المنظمات والتجمعات ، والعمل شعبيا ورسميا على بناء تحالف قوى الأمة السياسية ، وخاصة تياريها الرئيسيين : الإسلامي والقومي، والتركيز على المسائل الموحدة وتأجيل نقاط الخلاف.
2- التحرك لإعادة بناء الإجماع الداخلي وتقوية القطاع الأهلي ، ويستدعي ذلك إعادة الروح الى الحرف والصناعات الأهلية ، وإعادة بناء قطاع الوقف وتوسيعه الى دوائر التعليم والطباعة والنشر والصحافة والصحة ، بحيث يبرز كقطاع ثالث بجانب القطاعين العام والخاص ويساعد على تقوية جسم الأمة واستقلالها، والعمل على قيام ثورة زراعية جادة وواسعة حتى تصل الأمة إلى مرحلة الاكتفاء الغذائي ، والتأكيد على شعار "نأكل مما نزرع" وتقوية الصلات الاقتصادية فيما بين العرب والمسلمين ودول العالم الثالث، بحيث يؤكد الزعماء قبل العامة أن الأمة لابد أن تضحي برفاه الصناعة والتقنية من أجل الاستقلال والكرامة ، إذ لابد من اعتبار الآلة والتقنية الصينية أو المصرية أو الهندية ـ إن توافر خيار الأولوية لنا ـ قبل الآلة الأوروبية أو الأمريكية ، مهما كان الفرق بين المستويين.
من أجل نظام عالمي عادل للعلاقات الاقتصادية
ربما كان محور المظلومية القائمة في النظام الاقتصادي العالمي هو ما يسمى بالاستفادة من فائق القيمة التاريخي، وهو المكاسب التي حصل عليها الغرب من جراء حروب الغزو التي قام بها ضد مراكز الحضارة في الشرق بدءا من الحروب الصليبية ، حيث نجح في استنزاف ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، بما في ذلك الثروات المادية والإمكانات البشرية والثقافية ، وتكديس هذه الثروات في الدول الصناعية الغربية.
ويمتاز النظام الاقتصادي العالمي الجديد بالنسبة للدول الفقيرة بما يلي:
1ـ مزيد من المديونية.
2ـ مزيد من الاستنزاف للثروات الطبيعية وتدمير البيئة.
3ـ مزيد من الاحتضار للزراعة ، وبالتالي المزيد من النزف السكاني للريف وما يتبعه من اكتظاظ مدني هائل في محيط بيئوي لا يحتمل.
4ـ صناعة تراوح مكانها في حدود ضيقة.
5ـ مزيد من البطالة وتفشي الطفيلية.
6ـ مزيد من الارتفاع في معدلات التضخم.
7ـ مزيد من الاستقطاب الاجتماعي بين أقلية من السكان تستأثر بمعظم الدخل القومي ، مقابل أكثرية متسعة تعيش تحت خط الفقر والجوع.
8ـ من المنتظر أن يأتي النظام الاقتصادي العالمي الجديد بعصر من الاضطرابات الاجتماعية التي لا تنتهي . وبينما ستجد الأنظمة نفسها في مواجهة الشعب ستكون أكثر حاجة إلى الاعتماد على الدول الصناعية الكبرى والغرب عموما في تأمين النظام واللجوء إلى مزيد من القمع والتبعية.
ومن الملاحظ بالنسبة لأوروبا خصوصا أنها تغطي العجز في علاقاتها مع أمريكا واليابان بالفائض الذي تجنيه من مبادلاتها مع العالم الثالث وبلدان الشرق (صفقة الأسلحة الأخيرة بين بريطانيا والسعودية مثلاً) ، وهي بحاجة للاحتفاظ بعلاقات غير متكافئة في ميدان تبعيتها الخاصة ، من أجل أن تلعب دورها في الرأسمال العالمي المسيطر، كما أن أوروبا لم تتمايز عن استراتيجية الولايات المتحدة وأداتها المخلصة (إسرائيل) ، وقد أظهرت حرب الخليج بشكل مأساوي هذا الخيار الأوروبي ، والهدف هنا هو إبقاء العالم العربي في حالة قصوى من الهشاشة والتعرض ، بحيث تتعامل مع الوحدة العربية أو الإسلامية بوصفها كابوساً مزعجاً، وتجهد للإبقاء على الأنظمة المتخلفة (الخليجية خصوصاً) وللحفاظ على التفوق العسكري (الإسرائيلي) المطلق ورفض حق الفلسطينيين في الوجود.
لقد حاولت دول العالم الثالث الخروج من أسر الهيمنة عبر نضالات تحررية ، انتهت بانهيار رموز العالم الثالث وحركة عدم الانحياز ، ودخول العالم الثالث في إطار الاستيعاب والضبط المباشر مع دخول النفط كسلاح في يد أمريكا منذ عام 1973 ـ الذي أفاد في هيمنة أمريكا على أوروبا ـ تم ربطه بالبترودولار، ولم تنجح محاولات الحوار بين الدول الفقيرة والدول الغنية في تحقيق شيء منذ انعقاد الدورة الاستثنائية السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار (مايو) 1974، والمؤتمر الوزاري لدول عدم الانحياز في ليما عام 75، ومؤتمر القمة الأول لدول الأوبيك في الجزائر ، ثم مؤتمر داكار حول المواد الأولية في آذار (مارس) 1975، ثم الدورة الاستثنائية السابعة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 75، ومؤتمر الأمم المتحدة الرابع للتجارة والتنمية الذي عقد في أيار (مايو) 1976، ومؤتمر باريس الذي عرف بحوار الشمال ـ الجنوب في شباط (فبراير) 76،والمؤتمر الثاني لحوار الشمال ـ الجنوب في كانكون (المكسيك)، وأخيراً مؤتمر البيئة في العام الماضي في المكسيك الذي منعت فيه أمريكا امكانية إجراء حوار حقيقي لصالح الدول الفقيرة ولكن المطالب التي تقدمت بها الدول الفقيرة ما زالت صالحة عملياً لتشكيل برنامج حد أدنى لتحقيق وضع أفضل للنظام الاقتصادي العالمي ، وهي مطالب يمكن إجمالها فيما يلي:
1ـ حق كل دولة في السيادة الدائمة والتامة على مصادر ثرواتها القومية ، وحقها في استعمال جميع الوسائل من أجل تحقيق ذلك.
2ـ تحسين حدود التبادل لمصلحة الدول النامية من خلال وجود علاقة عادلة بين حركة أسعار المواد الأولية الأساسية من جهة ، وبين المنتوجات المصنعة من جهة ثانية.
3ـ تشجيع جمعيات المنتجين من الدول وجعلها تؤدي دوراً فاعلاً في إطار التعاون الدولي.
4ـ تأكيد أهمية التصنيع بالنسبة إلى الدول النامية وضرورة حصوله على دعم ومساعدة دوليين، وخصوصاً تسهيل دخول منتجات البلدان النامية الصناعية إلى أسواق البلدان المتقدمة ، مع ضرورة وعي الدول الفقيرة بأن ازدياد حجم المبادلات فيما بينها هو الأجدى على المدى البعيد، مهما انخفض حجم العوائد والمداخيل من جراء ذلك.
5ـ تحويل التقنيات الحديثة إلى الدول النامية ضمن شروط مالية وفنية ميسرة.
6ـ ضبط ومراقبة نشاط الشركات المتعددة الجنسيات في البلدان النامية.
7ـ مشاركة الدول النامية في اتخاذ القرارات التي تتناول العلاقات الدولية، لاسيما منها المتعلق بتنظيم التجارة الدولية وإصلاح نظام النقد العالمي كذلك ضرورة التأكيد على حرية انتقال التكنولوجيا ، وإسقاط مبدأ (بوش) الذي يحظر نقل التكنولوجيا إلى الدول المتخلفة.
ومن جهة أخرى يجب على الدول العربية والإسلامية والعالم الثالث عموماً أن تسعى لإقامة نظام اقتصادي وتعاون مشترك قادر على خلق قيم إنسانية جديدة في العلاقات الدولية تتجاوز الإرث الاستعماري وتقطع الطريق على النظام الجديد. ويمكن في هذا المجال للدول العربية والإسلامية أن تحقق تعاونا فيما بينها سواء عن طريق تجمع يخلف حركة عدم الانحياز ويمتلك آليات فاعلة ، أو منظمات إقليمية ذات نسق مختلف من العلاقات، أو غير ذلك .. ومن الضروري الخروج من أشكال التعاون والتكامل الاقتصاديين التي تتبناها الدول الفقيرة والمتخلفة عن الأشكال التقليدية التي جربتها البلدان المتقدمة فيما بينها ، والتي لا تؤدي سوى إلى مزيد من ارتباط الدول الفقيرة بالدول الغنية ، كمناطق التجارة الحرة ، والاتحادات الجمركية والأسواق المشتركة ، لأن الدول الكبرى قادرة على استقطابها وجعلها تدور في محورها ، كما حدث مع الأوبيك وغيرها . كذلك يجب النضال ضد بنك النقد الدولي ودوره الاستعماري ، والعمل على حل مشكلة المديونية.
الاستقلال الاقتصادي والتنمية المستقلة
إن الاستقلال الاقتصادي ، والاستثمار المستقل للثروات القومية ، والتنمية المستقلة والسوق المشتركة، هي عناصر مشتركة لمتحد جامع هو السياسة الاقتصادية، لذلك فإن الفصل بينهما هو فصل عملي وليس نظرياً . ومن هنا سنتحدث عن هذه العناصر في صيغة مدمجة ، دالفين إليها من واقع العلاقات الاقتصادية العربية ـ الإسلامية فيما بينها.
إن الواقع العربي الإسلامي يمر بمرحلة من التخلف ، والتخلف مصطلح يدل على واقع تاريخي ومفهوم تاريخي محدد ، ولا يملك صفة الإطلاق. ومن السائد في أيديولوجيا الخطاب الاقتصادي والنهوض العربي أن يجري الحديث عن التخلف والتقدم كصفتين مطلقتي الدلالة ، مما يعني عدم إمكان الخروج من التخلف إلا بفعل تغييري عنيف (الثورة أو الانقلاب) . ولكن دراسة متأنية تكشف عن عدم دقة هذا التصور ، إذ على الرغم من ترابط العلاقة بين التقدم والتغيير الجذري ، إلا أن آليات التغيير قد تأتي بشكل غير ملموس وغير عنيف ، وهو استنتاج يقدم الأمل في جدوى العمل التنموي في ظل علاقات التخلف السائد عربيا وإسلاميا.
ونلاحظ أن تمزق الاقتصاد والتنمية العربية يعكس أحد التوجهات الأيديولوجية التي تحكم الخطاب "التنموي" في الفكر العربي المعاصر بحيث جرى الربط بين الاستقلال الاقتصادي والاستقلال السياسي على نحو قاطع ورغم مشروعية هذا الربط، إلا أن الاستقلال الاقتصادي بحاجة إلى بنية اقتصادية تستطيع أن تنهض بهذا الاستقلال، وهي بنية مسبقة، بمعنى أن بناءها يتم في مرحلة سابقة على الاستقلال الاقتصادي ، لأن التغيير الذي يحصل على مستوى السلطة لا يستتبع إلغاء البنية الاقتصادية السابقة بالضرورة، وهو يستفيد ويبقى على التراكمات والثروات والإنجازات السابقة على لحظة التغيير " كما نشهد حالياً في روسيا وميراثها من الاتحاد السوفيتي".
وفي واقعنا العربي فإن الحالة الاقتصادية الهشة التي ورثتها أنظمة الاستقلال (أو أنظمة التجزئة) ساهمت إلى حد كبير في تكريس التبعية وتقوية أواصرها مع الآخر. واكتشاف النفط في الدول النفطية مسألة شكلية أو غير جذرية . بحيث بقيت علاقات الإنتاج غير ممسوسة إلى حد كبير ، ولم تعد على الدول المؤممة بأكثر من فائض القيمة. وهو الفائض الذي لم يشكل قاعدة اجتماعية. ولكنه شكل رصيداً لبناء أجهزة الدولة فقط ، فأخذت النخب الحاكمة ـ على اختلاف أنظمتها ـ في تركيز توظيف ما تبقى بتصرفها من فائض في إقامة مظاهر الدولة "الحديثة": جيوش أجهزة أمن داخلي ومختلف الإدارات الحكومية التي ملأتها بالموظفين فكانت التنمية عبارة عن توظيف أفضل الظروف الحياتية السائدة في الغرب للنخب الحاكمة وللفئة الاجتماعية التي أخذت تنمو حولها: مساكن وخدمات على أنواعها ـ صحية وتربوية وثقافية ـ ومواصلات .. الخ وبشكل عام فقد تم نقل الاستهلاك والترف الباهظ من الغرب ، وما يجره ذلك من ويلات على صعيد تشويه القيم واستنفاد المصادر الطبيعية. وهي ويلات بدأت الدول الصناعية نفسها في معاناتها. وهو ما يتطلب إجراء تغيير جوهري في القيم المادية التي يقوم عليها رخاؤها ومع أن فرص الاستثمار واسعة جداً في العالم العربي ، إلا أن المعوقات مثل ما يدعي (بالمخاطر التجارية) منتشرة جداً بشكل يمنع إمكان تحقق هذه الفرص. وأهم هذه المعوقات:
1- انعدام السياسات الاقتصادية الثابتة والمستقرة والتي تتخذ القرارات الاقتصادية والسياسية أيضاً من خلال النقاش الحر وتبادل الرأي والمعلومات والمبادرات الشخصية والجماعية.
2- التخلف عن عصر الاتصالات والمعلومات التي يضعف ويصعب انتقالها.
3- النقص الشديد في التقنية العالية وفي معاهد التخطيط وفي المختبرات.
4- عدم مراعاة البيئة الإنتاجية (الوسيطة) بين المؤسسة أو البنية التقنية الفوقية، مما جعل التنمية الصناعية المحدودة مصدر العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، وأهمها الهجرة من الريف إلى المدن ، وظهور أحزمة الفقر والجوع ، وانتشار البطالة المقنعة وغير المقنعة ، والتضخيم الكبير في قطاع خدمات لا يفيد الإنتاج بل يعوقه.
التنمية المستقلة
ترتبط التنمية المستقلة مع التحديث كتحد تجب مواجهته ، ليس في الحركة الإنتاجية فقط ، ولكن في الحياة التي نعيشها يومياً أيضاً. ولكن ارتباط السياسة العربية بالسياسة العالمية الغربية كان ذا علاقة عكسية: مع ازدياد التبعية يزداد الابتعاد عن التحديث والدخول في وقع التخلف والاغتراب. وعلى الصعيد الصناعي انشد الاقتصاد القومي أكثر بعرى الاقتصاد الغربي المسيطر واندفع أكثر في بنية وخدمة الرأسمال العالمي المسيطر، فإذا الوطن العربي ـ نسبياً ـ من أكثر مناطق العالم اعتماداً على استيراد السلع الصناعية ، إذ تصل وارداته إلى أكثر من ثلاثة أضعاف وارداته الزراعية التي هي كبيرة جداً ، و98% من صادراته تنحصر في المواد الخام الزراعية والمعدنية (النفطية بشكل أكبر) ، بينما لا تتعدى نسبة السلع الصناعية المصدرة 2% من مجموع الصادرات ، وهذا النمط الاستهلاكي أدى إلى ابتلاع المواد من النقد الأجنبي ،وزاد في إفقار القطاعات الإنتاجية الأخرى وفي عجز ميزان المدفوعات وتعاظم الديون الخارجية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل في الحجم والثقل.
وهذا يتطلب:
1- بناء قاعدة إنتاجية قادرة على النمو والتطور في ظل شروط ، أهمها قدرتها على تأمين حاجتها من الموارد المحلية بأكبر قدر ممكن.
2- تأمين حاجة الغالبية العظمى من أفراد المجتمع لإشباع حاجاته الأساسية (وليس حاجات الاستهلاك المقلد).
3- تأمين منافستها الدولية في تصريف منتجاتها في الخارج بحسب تخصصها في الإنتاج في ميدان تقسيم العمل الدولي (بما يناسبها وليس حسبما يفرض عليها).
4- الإنفاق على مؤسسات البحث والتطوير العلمي.
السوق المشتركة
قد تكون أداة مادية ملموسة تقود إلى منافع التكامل الاقتصادي العربي ، ولكنها ليست شرطاً لهذا التكامل ، إذ إن القدرة على بناء سوق مشتركة ـ شبيهة بالسوق الأوروبية ـ غير واقعية وغير مضمونة النجاح فالسوق الأوروبية المشتركة قامت كنتيجة طبيعية لاحتياجات التصنيع الأوروبي وتكامله ، خاصة بين المواد الخام (المعدنية خاصة) والمصانع ، وفي الحالة العربية فإن التجربة تكاد تكون نسخاً غير مدروس لهذه التجربة ، وهو ما يجعلها محكومة بالتبعية للنظام العالمي مسبقاً، أو يحكم عليها بالفشل قبل إنشائها وهو الحاصل حتى الآن. ولكن ما يمكن تسميته بالمشروع الاقتصادي العربي المشترك ، يظل صيغة أعم وأكثر حظاً في النجاح ، بحيث يؤدي إلى تدفقات سلعية أو خدمية فيما بين الدول العربية ، مثل المشروعات المقامة وفقاً للقوانين السارية المفعول في إطار أطراف عربية في بلدين عربيين أو أكثر ، سواء أكانت مؤسسات قطاع عام أم مختلط أم خاص ، وتستهدف القيام بنشاط إنتاجي أو تجاري أو مالي أو خدمي أو غيره ، من شأنه أن يحقق منافع اقتصادية لأقطار عربية ويعزز التشابك والتلاحم بين الاقتصاديات هذه الأقطار، ويزيد في متانة الروابط والعلاقات الاقتصادية والتبادل فيما بينها.
ومن أسباب عدم نجاح العمل المشترك (إضافة إلى ما هو سياسي وثقافي):
1- ضيق الأفق الاقتصادي للقطاع الخاص.
2- ضيق الأفق السياسي للقطاع العام.
3- دور النفط كعامل سلب في العلاقات الاقتصادية العربية.
4- نقص المرافئ وشبكات الطرق والجسور.
5- نقص الكوادر البشرية الماهرة.
6- قلة الأسواق المالية ، وضيق محدودية القائم منها وعدم تكاملها.
7- الانعدام الكلي تقريباً لحرية حركة رؤوس الأموال العربية الخاصة من الأقطار العربية المختلفة.
8- محدودية أدوات الاستثمار نوعاً وحجماً.
بالإضافة إلى ضرورة التخلص من السلبيات المذكورة ، يجب التنبه إلى معالجة نظام السفر والحركة بين الدول العربية وفتح الحدود وإعطاء المواطنين العرب حق التملك والإقامة. كذلك ربط الدول الإسلامية التي تمثل بعداً حقيقياً بالسوق العربية ، وكذلك التعاون مع دول العالم الثالث والدول الفقيرة ،ومحاولة التعويض عن السوق الأمريكية والأوروبية الغربية بالبديل الياباني والصيني والكوري والفيتنامي والكوبي للتخلص من الهيمنة والتبعية.
الاستثمار المستقل للثروات القومية
يرتبط هذا المجال التنموي بالاستقلال الاقتصادي ، ولكن استقلالية القرار السياسي تلعب دوراً مهما هنا ، من حيث تأمين القدرة على الاستقلال التنموي، خاصة أن النفط هو أكبر ثروة قومية عربية ، وقد رأينا في التجارب السابقة أن الدول الصناعية الكبرى ترفض وتحارب هذه الخطوة. والحقيقية أن النفط لم يستغل من أجل تنمية عربية مستقلة ، بل جرى الاعتماد عليه كلياً وليس توظيفه في خدمة السياسية الاقتصادية ، مما جر الويلات على الدول النفطية بشكل خاص ، وعلى المحيط العربي ـ الإسلامي عموماً ، من أجل تأمين هذا المصدر الحيوي للطاقة في خدمة المصالح الغربية . ولم تسخر أدوات الإنتاج التي تطورت في ظل الطفرة النفطية من بترودولارات ورؤوس أموال وعمالة من أجل قيام تجمع اقتصادي في المنطقة العربية ـ الإسلامية ، لأن منظمات التنسيق والتخطيط الإنمائي والمشاريع المشتركة أدخلت الاقتصاديات العربية في مسلسل مستديم من التبعية والتخلف، كما سخرت كأدوات طيعة لتحقيق طموحات برجوازية عربية ذات طبيعة طفيلية أو فئة وسطاء وسماسرة في خدمة الرأسمال العالمي (الغربي)، وللحد من وظيفة تنموية لهذه الأدوات عبر تشجيع القطاع الخاص (لبرلة) الاقتصاد. في خضم هذا المأزق الذي شهده العمل الاقتصادي العربي المشترك ـ والذي تنامى أكثر في أواخر السبعينات ـ بخاصة في ظل ظروف سياسية جد سيئة كان يعيشها النظام الإقليمي العربي ـ تحطمت أطروحة (الفوائض المالية العربية)، وتراجع الخطاب العربي السائد حول التكامل الاقتصادي والسوق المشتركة ، وبلغ هذا التراجع أوجه على جميع المستويات ـ وخاصة من حيث محددات الاندماج الاقتصادي العربي ـ مع بداية الثمانينات ، ومع دخول العلاقات الاقتصادية العربية في مرحلة جديدة أطلق عليها مرحلة "ما بعد النفط".
من أجل الاستثمار المستقل والتنمية يجب الانطلاق من الخصوصية العربية الإسلامية ، والكف عن الجري وراء نسخ تجارب جزئية عن الغرب تزيد من التبعية والإلحاق ، وهو ليس مطلباً انعزالياً لا تاريخياً، ولكنه مطلب قد يجد أعذاره في دراسة الواقع العربي الإسلامي ومحدداته البيئية الخاصة لتشكيل تعاونيات محلية شبيهة بروابط الحرف والصناعات الأهلية وأنظمة الوقوف التي كانت سائدة قبل الاستعمار. ويمكن الاستدلال بدعوة مالك بن نبي إلى البحث عن طريق ثالث ، أو بالدعوات المعاصرة إلى تمعن الظاهرة اليابانية والتجربة الصينية، والتأمل في تجربة السارفودايا في سيريلانكا، التي تمكنت من تغيير وجه البلد وانتشرت في أكثر من 2300 قرية وشملت ملايين السكان واعتمدت على التراث الديني والشعبي للمناطق البوذية ، وكذلك دراسة تجربة غاندي في الاستقلال عن الاقتصاد البريطاني.
الوحدة العربية والاستقلال
لابد من وضع مسألة الوحدة على ذروة جدول أولويات المفكرين والدعاة والعلماء والتنظيمات السياسية والدول ، ونقل ذلك إلى أرض الممارسة الفعلية ويستدعي هذا إعادة العمل بقاعدة الأمة التاريخية: تقديم الوحدة على العدل" .. إذ يجب أن نسير جميعاً إلى خيار الوحدة مهما كان اعتقادنا بأن في ذلك الخيار بعض الهضم لحقنا فيما نراه ـ فكريا أو سياسياً أو مادياً ـ صواباً. ولابد أن ينعكس هذا على إنهاء حالة الصراع والتدافع بين القوى والمنظمات ، وعلى تقليص حالة التشرذم السياسي ، وقبل ذلك وبعده لابد من إعادة الروح إلى حركة الجماهير الوحدوية التي كانت سمة الخمسينات والستينات . إن هناك فروقا في هذه المرحلة بين مستوى المعيشة في كل بلد عربي أو إسلامي عن البلد الآخر، وكذلك في مستويات التعليم أو الخدمات .. الخ. إن هذا الأمر المؤقت والعابر في معظم الحالات ، لابد ألا يمنع حكومة ودولة وشعباً ما من اختيار الوحدة مع دولة وشعب آخر. ومن ناحية أخرى لابد أن تلتزم قوي الأمة السياسية والشعبية بقاعدة أساسية هي أنه في الوقت الذي لابد أن يكون فيه خيار الوحدة خياراًُ شعبياً وألا يفرض بالقوة والعنف من القوي على الضعيف، لما في ذلك من تقويض لقيم الوحدة ذاتها، فإن دخول جيش عربي إلى أرض دولة عربية أخرى يجب النظر إليه داخل الحدود العربية ـ الإسلامية كشأن عربي ـ إسلامي خاص. وإلى جانب ذلك لابد من العمل ضد كل اتجاهات تجزئة الوضع العربي ـ الإسلامي القائم الآن ، مهما كانت راية هذه الاتجاهات التي تحملها : إسلامية أو طائفية أو عرقية (كما في حالة العراق أو السودان). وبشكل مماثل يجب العمل ضد إقامة أية كيانات جديدة منفصلة في المنطقة (الصحراء المغربية مثلا) مهما كان الموقف من القوى التي تدعو لذلك.
إن الأطر الرسمية الحالية ، كالجامعة العربية ومؤسساتها والمؤتمر الإسلامي ومؤسساته ، لابد أن ترى من زاوية إيجابية ، وأن تستخدم لتعزيز التضامن وإلزام دولها الأعضاء بمواثيقها وقيمها ، في الوقت نفسه الذي يتم فيه النضال من أجل تطويرها أو إنجاز مشاريع وحدوية خارجها.
9- يشهد الفضاء العربي ـ الإسلامي الآن نهضة فكرية بارزة ، وقد بدأ عقل الأمة في تقديم إجابات حيوية على العديد من إشكالات التحدي ، ولكن مجال الاستقلال الفكري واسع وممتد، خاصة في ظل تطور أجهزة وقنوات الاتصال والتأثير العالمية.
إن المسألة الجوهرية في هذا المجال هي حرية الفكر وحرية التعليم ، فإن استطاعت الأمة أن تحصل على حقها في المجالين بحيث لا يصبح الفكر والتعليم حكراً بيد الدولة ، فإن عقل الأمة وعمق ارتباطها التاريخي بقيمها سيكون قادراً على إيقاف الاختراق الثقافي ، وإنجاز مرحلة واسعة من الاستقلال . ولكن ، كما أن حرية الفكر والتعليم مطالب للشعوب ، فعلى القوى السياسية المعارضة أن تحيّد المجالين إلى أقصى حد ممكن ، حتى لا يصبحا مجالاً للصراع مع الأنظمة من جديد، وتستخدم المعارك مع "السياسي" لقمع الفكري والتعليمي.
من ناحية أخرى ، وفي الوقت الذي لابد أن يواجه فيه الغزو الفكري والثقافي، فإن حركة نقد وإعادة بناء واستلهام ما هو معاصر من التراث ، هي أمر مساو في الأهمية.
تحرير الأرض من الوجود الأجنبي
لقد أصبحت ظاهرة الاستعانة بالخبراء الأجانب في المجالات العسكرية وتأجير القواعد العسكرية للقوى الغربية، أو حتى الاستعانة بالجيوش الأجنبية ، أمر مقبولا في بعض الدوائر ، بل هناك من ينظر الآن لهذا التنازل عن السيادة الوطنية على صفحات الكتب والمطبوعات. إن على المفكرين والعلماء والقيادات الوطنية أن تناضل ضد هذه الاتجاهات بكل السبل الممكنة.
كما لا بد من استنفاد كل أساليب النضال الشعبي ضد ما تبقى من الوجود الأجنبي أو ما يعاد زراعته قبل اللجوء إلى أية وسائل أخرى، وذلك حتى لا تعزل القوى المناضلة عن قطاعات الشعب الواسعة.
إن مشكلة متصاعدة بدأت تبرز منذ سنوات أمام المسلمين ، تتعلق أساساً بوضع الأقليات الإسلامية في بلدان غير إسلامية خارج منطقة المركز الإسلامي، كما في الهند والفليبين والصين (وكما كان في يوغسلافيا). في معظم هذه المناطق ، وبدرجات متفاوتة تتحرك الأقليات الإسلامية من أجل حريتها وحقوقها ، وأحياناً من أجل الانقسام.
إن نضال الأمة اليوم ضد الامبرياليات الغربية نضال عالمي في جوهره ، ويحتاج إلى حلفاء وإلى توسيع جبهة النضال ، وينبغي على الأمة أن تطرح تصوراً يناسب المرحلة بخصوص هذه الأقليات، ويقوم على احترام وحدة البلدان الصديقة وعلى احترام حقوق المسلمين. إن الصين والهند مثلاً مرشحتان لأن تكونا حليفتين مهمتين لنضالنا، ولم يكن انقسام الأقليات المسلمة (كما في حالة باكستان) دائما بالأمر الإيجابي عندما يرى بمقاييس التاريخ.
استقلال القرار السياسي وتحرير فلسطين
يرتبط استقلال القرار السياسي العربي ـ الإسلامي بسيرورة تحرير فلسطين .. إذ لم تكن مصادفة أن يقدم الغرب وعد بلفور في الوقت الذي كان فيه يدمر بنيان الدولة العثمانية ، ويجتاح المنطقة عسكرياً ويخضعها إلى شبكة علاقات قائمة على التبعية والارتهان السياسي . لقد عمد الآخر إلى "شن حربة الشاملة" ضد الوطن العربي ـ الإسلامي ، وتكريس "القابلية للاستعمار" في نفوسنا وتدمير منابع القدرة الداخلية ، وذلك بتحطيم المكونات العقدية والفكرية والحضارية للمجتمع الإسلامي وتغيير أنماط المعيشة والإنتاج فيه بما يخدم مصالحه ويحقق التبعية له.
وعمد الآخر إلى خلق مؤسسات موازية ومعادية (لنا) يديرها تلامذة له ومأخوذون بثقافته ، ولم تكن سوى محاكاة مشوهة وناقصة لمؤسسات الغرب ، في سعي منه لتدمير العقل المسلم وحشوه بمفاهيم الغرب ، ليقطع كل طريق على عملية التفكير في إعادة بناء المجتمع الإسلامي المقاوم. فمجرد تدمير المؤسسات الإسلامية مع بقاء العقل الإسلامي في يقظة ، كفيل بمحاولة البدء من جديد، وكفيل بنجاح المؤسسات الإسلامية وإعادة بنائها من جديد.
لكن "إسرائيل" وجدت لتمارس وظيفة مستمرة دائبة هي ضرب "النفسية العربية ـ المسلمة" وتحويل ميدان المعركة الحقيقية إلى ميادين وهمية تستنفد الجهد والطاقة. وقيام دولة "إسرائيل" أهم وأخطر وأعنف أشكال الحرب الشاملة .. إذا بقيامها واستمرار وجودها في القلب من الوطن الإسلامي ، تكون الهجمة الغربية قد نفذت أهم وأخطر مهماتها، فنحن هنا لا نواجه مجرد تحد عسكري أو مجرد تحد فكري ، وإنما نواجه استيطانياً عدوانيا في مكان مهم وحساس من الوطن الإسلامي، يعطي للصراع كل أبعاده التاريخية والحضارية والعقدية والفكرية ، إضافة إلى الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية. ومع "إسرائيل" لم تعد ثقافة الأمة فقط هي المهددة بل وجودها برمته. واليوم وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على الإعلان عن كيان "إسرائيل" يتكرس أكثر فأكثر الدور الصهيوني في المنطقة، حيث يضرب العدو ويتحرك معتبراً أن حدوده الزمنية تشمل باكستان وإيران حتى شمال أفريقيا، ومن تركيا حتى جنوب السودان ، ومعتبراً كل ما بين ذلك ـ على الأقل ـ قابلاً للتدخل الصهيوني اقتصاديا وعسكريا وأمنياً ، والمطالبة بلعب دور أكبر في سياسات المنطقة ، وفي الإسهام في ثقافاتها ، والغزو الدبلوماسي للأقطار الإسلامية الأضعف مقاومة ووعياً لخطورة الدور "الإسرائيلي" ، والإصرار على تكريس وجودها في المنطقة كقوى كبرى ، وهو الأمر الذي ترفعه المفاوضات العربية ـ الصهيونية إلى مستوى أعلى من الخطورة والنفاذ . لذا ليس نافلاً أن يركز "الإسرائيليون" على التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي كهدف أساس "لعملية السلام" قبل مسألة الأمن أو الجغرافيا ، وهم في هذا المجال مخلصون تماماً لوظيفتهم الاستعمارية المرتبطة مباشرة بالغرب الأوروبي والأمريكي. وأهم آليات هذه الوظيفة هو تعزيز "القابلية النفسية للاستعمار" عبر التطبيع والإقرار (المغلوب على أمره) بهيمنة الكيان العدواني والغريب في المنطقة.
تبعاً لهذه الجردة السريعة ، يمكن استنتاج أن استقلالية القرار السياسي تستوجب توافر "الشرط النفسي" لدى أبناء الأمة لتصفية "القابلية للاستعمار والتبعية"، وهو نفس الشرط الواجب للنهوض بمعركة تحرير فلسطين. وهي معركة ليس الجيوش ولا الأنظمة مادتها الأساسية وجنودها ، ولكن الأمة بطاقاتها وبفكرتها الشاملة عن نفسها وعن الآخر. إذ عندما تعتقد الأمة بقدرتها واستعدادها النفسيين على مواجهة الآخر والانفكاك من أسر تبعيته والارتهان له ، تبدأ في تحقيق استقلالها السياسي، وتنهض في الوقت نفسه لمعركة تحرير فلسطين انطلاقاً من أن فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والأمة الإسلامية، حيث استطاع الاستعمار الغربي الحديث ـ الذي أطلقته الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر ـ بعد حوالي قرنين من الزمن أن ينشئ الكيان الصهيوني ، الذي أصبح مركز الهجمة الغربية ضد الحوض العربي ـ الإسلامي ومركز المشروع الاستعماري ومن هنا فإن فلسطين تأتي في قلب ومركز المشروع المضاد: المشروع العربي ـ الإسلامي. فالمعركة ليست فقط بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني ، إنها معركة كل الأمة ضد الغرب المستعمر الذي يمد الكيان الصهيوني بكل أسباب الحياة والرعاية والحماية ، وبدون انتظام طاقة الأمة في مسير ونهج موحد فسيبقى الخلل في توازن القوى قائماً ومستمراً لصالح العدو. ومن هنا تأتي أهمية استقلال القرار السياسي والقضاء على جذور ومنابع التبعية بكافة أشكالها ، ونظم مفردات قوة الأمة التي تكمن في هذا العدد البشري المتعاظم وهذا الموقع الجغرافي المتميز والإمكانات المادية الهائلة ـ إضافة إلى التاريخ والموروث الحضاري العربي ـ الإسلامي المستند إلى أيديولوجيا حية باعثة ـ قادرة على بعث الأمة وتفجير إمكاناتها ونظمها في كينونة فاعلة ومؤثرة.
إن مسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع ينظم إمكانات الأمة ويرد على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة ثقافية وفكرية واقتصادية وأمنية وعسكرية ، ويبقى دور المجاهدين في فلسطين ، وهو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته وكشف وجهه البشع ،وتدمير ما يستطيعون من قدراته وإدامة الصراع حياً حتى وحدة الأمة وتحقيق النصر، والتصدي لمؤامرات تصفية القضية التي يوجهها الغرب.
المصدر : مجلة منبر الشرق ـ القاهرة العدد (8) ـ يوليو / تموز 1993