الكاتب عربي وابي اسمه مع القصة
بلييز ترى اختي تبيه باكر
ضرووووووري
__________________________
روبنسون كروزو
الفصل الأول
حيث أقدم نفسي إلى القارئ
إني أدعى " روبنسون كروزو "، وهذا اسم مأخوذ من
عائلة والدي ووالدتي، وهو تقليد متبع منذ قرون. ولذا
فسوف يظل هذا الاسم في ذاكرة الذين سيقرؤون هذه
المغامرة العجيبة، مغامرة " روبنسون كروزو ".
ولدت سنة 1632، ثالث أبناء عائلتي، وكنت أحلم منذ
طفولتي بركوب البحر وجمع الثروات من المناطق النائية.
أراد لي والدي أن أكون محامياً، ولكن هذه المهنة التي
تقتضي القليل من الحركة والكثير من الكلام لا تلائم مزاجي,
وقد سعيت في إقناع أهلي عن هذه الخطة التي رسموها
لحياتي, ولكن لم أنجح فعزمت على الهرب سراً إلى لندن
والإبحار على أول سفينة يرضى بي قبطانها.
وأعترف بأني كنت حزينا إذ فارقت أهلي دون أن أودعهم،
ولطالما ندمت على هذا التصرف الطائش الذي يدل على
نكران الجميل, ولكني كنت أخشى أن أطلع أحد أفراد عائلتي
على ما عزمت عليه فأضعف أمام عتابه أو دموعه أستطيع
السفر, وكانت لدي الرغبة في السفر بعيداً ما وراء البحار,
فألمس بيدي وأرى بعيني العجائب التي يتحدث عنها
الرحــــالة.
ذات يوم ركبت السفينة دون أن يعلم بي أحد, وبدأت حياة
التجوال. لقد كنت قوي العزيمة حاد الذكاء بالنسبة إلى حداثة
سني, ولم أكن لأخشى موجهة الأخطار, ولا أهاب الإقدام
على عظائم الأمور.
وقد رافقتني هذه الصفات طول عمري وغطت على بقية
عيوبي, وجعلت القبطان والبحارة يعجبون بي بحاراً مقداماً،
وقد سعوا جميعاً إلى تلقيني أصول المهنة, وكنت متلهفاً إلى
تعلمها بحيث لم أحتج إلى زمن طويل كي أتقنها, وسرعان ما
تعلمت حساب موقع الشمس بالنسبة إلى السفينة في البحر
وتوجيه الأشرعة والتجديف كما ينبغي للبحار أن يفعل.
ما إن انقضت السنة الأولى من رحلتي حتى أصبحت بحاراً
ماهراً, ورسخ في يقيني أن حبي للبحار سوف يدفعني إلى
التجوال في القارات جميعاً، ولكن شاءت لي الأقدار أمراً
مختلفاً.
وذلك، أن السفينة التي أبحر فيها قد هاجمها القراصنة في
الساحل الإفريقي, وبقيت أسيراً لدى العرب زمناً طويلاً وقد
عاملني هؤلاء القوم معاملة حسنة واستفادوا من معارفي
البحرية , وخفت حراستهم لي شيئاً فشيئاً حتى استطعت أن
أهرب منهم ذات يوم على متن أحد الزوارق .
وحين أتذكر اليوم تلك الفترة من حياتي حين كنت وحيداً في
البحار الواسعة على متن زورق صير تتقاذفه الأمواج أشكر
العناية الإلهية التي جنبتني العواصف والأخطار.
وقد انتشلتني سفينة أسبانية متوجهة إلى البرازيل, وهي من
الأقطار المجهولة لدي، ولقد ولطالما سمعت من أفواه البحارة
عن عجائبها وفرحت لأن هذه المصادفة تتفق مع أهدافي.
ما إن وطئت قدماي اليابسة حتى اشتغلت في مزرعة لقصب
السكر, وأظهرت من الهمة والشجاعة ما جعل صاحب العمل
يوكل إلي مهمة الإشراف على إدارتها.
وحين تعلمت زراعة قصب السكر ومعالجته, عزمت على
العمل لحسابي لكي أثمر ما اقتصدته من أثناء عملي.
اشتريت قطعة أرض وجعلت ازرعها بكل ما أوتيت من قوة،
وقضيت سنوات أعيش حياة الكفاح ، ولكن المثابرة السبيل
الوحيدة لصنع الثروة ، فاستطعت أن أجمع ثروة طائلة.
لو أنني داومت على زراعة القصب والتبغ لجمعت بال ريب
ثروة طائلة، ولكن شاء الله أن أدمر نفسي بيدي.
ذات يوم اجتمع عندي جيراني من المزارعين، واقترحوا أن
نضم أموالنا بعضها إلى بعض كي نجهز سفينة إلى شواطئ
أفريقيا بعض العبيد من الزنوج نستخدمهم في مزارعنا, وبما
أن رحلاتي السابقة قد قادتني إلى غينيا ولي معرفة بالتعامل
مع الزنوج، طلبوا مني أن أكون وكيلهم في هذه الرحلة.
وقبلت المهمة راضياً لأنها الفرصة المتاحة للعودة إلى أحلم
صباي التي ترسخت في أعماقي، ألا هي حب الإبحار على
غير هدى.
أعددت نفسي لهذه الرحلة, وأعددت ما يلزم لغرق السفينة إن
حدث وكتبت وصيتي وأورثت فيها أهل الأرض التي أحسنت
استثمارها. وتعهد لي جيراني بعقد مكتوب على العناية
بأرضي أثناء غيابي مثلما يعتنون بأرضهم، فلم تكن المزرعة
هماً يشغلني، ولو أطعت عقلي لما غادرت هذه المزرعة
المزدهرة أبداً، ولكني كنت أطيع أهوائي طاعة عمياء ولا
أستمع إلى صوت عقلي.
أبحرت أول أيلول التالي.
كان طاقم البحارة يتألف من خمسة عشر رجلاً بما فيهم
القبطان والطباخ، وهم أخيار الناس, وقد انتقيناهم بعناية
شديدة, وكانت ذخائرنا ومؤونتنا كافية ونوعيتها جيدة,
وساعدنا هذا الطقس الرائق على بداية هذه الرحلة الموفقة.
وأبحرت بنا السفينة عشرين يوماً على سطح الماء الساكن
الذي يداعب السفينة برقة وحنان، وكان رفاقي يغنون
ويعزفون على الأكورديون والقيثار, وكأنما عزمت الريح
على أن تجعل رحلتنا أسعد الرحلات وأكثرها توفيقاً.
ولن تغير كل شيء فجأة, فقد هب إعصار لم أر له مثيلاً في
حياتي, ولم نستطع أن نفعل شيئاً سوى التسليم للأقدار تسوقنا
إلى حيث تشاء الرياح العاصفة.
ومازالت الرياح تسوقنا في هذا السباق الرهيب اثني عشر
يوماً, وتوقعنا أن تغرق الأمواج العاتية سفينتنا, وقد أظهر
الطاقم كله ما يتحلى به من شجاعة وسط الهلاك, وكان
القبطان في مستوى مهمته, ولعل هؤلاء البحارة البائسين
يستأهلون مصيراً أفضل مما قدر عليهم.
كانت الرياح تسوقنا على غير هدى, والسماء مغطاة بالغيوم
الكثيفة تمنعنا من معرفة مكاننا.
وذات يوم صاح أحد البحارة: " اليابسة "!
فلم نستطع معرفة هذا الشاطئ الأخضر الذي دفعتنا إليه
العاصفة دفعاً, هل كانت جزيرة أم قارة تلك الأرض التي
يمنعنا شاطئها الصخري من الدنو إليها؟ لم يكن أحد منا
يعرف جواباً على هذا السؤال, وكنت أحسبني قريباً من
الأرخبيل الكاريبي, ولم يكن هذا سوى ظن لا يعمه يقين.
أنزل القبطان بعض الأشرعة لكي يخفف من سرعة السفينة
إن أمكنه ذلك, وما كاد يفعل حتى اصطدمت السفينة بجرف
رملي, ودفع البحر السفينة حتى سمعت ألواحها تتكسر وتكاد
تتطاير شظايا, ونادى الجميع بصوت واحد: " إلى القوارب,
إلى القوارب! ".
ولمحت إلى القبطان أسأله, فهز كتفيه كمن يقول:
" لا وسيلة سواها للنجاة من الهلاك ".
وتناهى إلى أسماعنا صوت الألواح تتكسر تحت الأمواج التي
اندفعت فوق حطامها هائجة, بحيث أصبح الفرار سبيلنا
الوحيد للنجاة.
ولكن هذا الفرار ينقذنا فعلاً؟ كنا نعلم أن البحر الهائج قد
يغرق زوارقنا في الحال, فكنا نتبادل النظرات مترددين, ثم
سمعنا ضجة ثانية أقوى من الأولى, فعرفنا أن السفينة
انقسمت إلى قسمين فنسينا ترددنا ورمينا الزوارق إلى الماء
وقفزنا فوقها, ثم جعلنا نجدف حتى اليابسة وقلوبنا عامرة
باليأس من أن نصل إليها سالمين.
والواقع أن الموت قد اختطف نصفنا فوراً, إذ أن الزوارق
التي يركبها هؤلاء لم يستطع الابتعاد عن الدوامة التي نجمت
عن غرق السفينة, وفي لمحة عين ارتفع الموج عالياً وغاص
بهم إلى الأعماق ولم يظهر منهم أحد.
فصرخنا مرعوبين, لكن حالتنا أفضل منهم, وكنا واثقين من
اللحاق بهم, فانطلقنا نحو الشاطئ كمن يمضي نحو منصة
الإعدام, وكلما اقتربنا منه تبين لنا أنه أشد خطراً من البحر
الهائج.
بعد أن جدفنا, أو دفعنا حوالي فرسخ, لحقت بنا موجة هائلة
وضربتنا ضربة قاضية, وما إن هوت علينا حتى أغرقت
الزورق بضربة واحدة وفرقتنا بعضنا عن بعض وغرقنا
جميعاً.
كنت أجيد السباحة, وما إن مرت لحظت الدهشة والذعر حتى
ارتفعت فوق سطح الماء, وحبست أنفاسي كما يفعل
الغواصون, وحين ابتعدت الموجة أدركت أني نجوت من
الهلاك.
ولكن الكفاح لم ينته بعد, فكانت الأمواج الهائلة ترتفع بي
كالجبال, ثم تهوي إلى الأعماق كأنني دمية بي يدي طفل,
وكان البحر يلهو بي فما إن أصل إلى الشاطئ حتى يجذبني
الموج إليه, وقد فعل هذا عشر مرات, وكأنه وحش ضارٍ لا
يريد التخلي عن فريسته, وكنت منهكاً فاقد الأمل, أرى النجاة
أمامي ثم تغيب عني ولا قدرة لي على فعل شيء.
وأخيراً, تقدمت موجة أعظم من سابقاتها ورمتني بعيداً إلى
الشاطئ, فجمعت كل قواي وتمسكت بالرمل وتخلصت من
ارتداد الموج، ثم صعدت أحد المنحدرات وتهالكت عليه.
لقد نجوت من الهلاك, وأصبحت بعيداً عن متناول البحر
المحيط.
الفصل الثاني
الأيـــــــــــــــــام الأولى
الجزء الأول
بعد أن بقيت ساكناً عدة ساعات نهضت أتمشى على الشاطئ,
ماذا كنت آمل أن أجد؟ أحد رفاقي؟ ولكني متيقن من هلاكهم
جميعاً, وأثناء صراعي مع الموج لم ألمح شبح إنسان أو قطعة
حطام لزورق,كنت الناجي الوحيد من هذا الغرق, وكان
البحر يهدر من حولي يذكرني بهذه الفاجعة.
وجهت بصري نحو مكان السفينة الغارقة, فوجدها هناك
مهجورة, وبكيت لموت هؤلاء الرجال الشجعان الذين لم يثقوا
بصلابة هذه السفينة وإلا لكانوا الآن من الناجين.
وأخيراً كفكفت دمعي وتلفت حولي لأعرف الحالة التي أنا
فيها, كنت مبلل الثياب ولا ملابس بديلة لدي, ولا طعام عندي
ولا ماء, ومما زاد الأمر سوءاً أن الظلام قد اقترب, ولا
سلاح لدي أدافع به عن نفسي إذا حيوان مفترس.
كنت بين أمرين أحلاهما مر: أن يفترسني وحش أو أموت
جوعاً, ولم يكن معي سوى سكين وغليون وقليل من التبغ في
علبة, تلك هي زوادتي, ولا أعتقد أن أحد المغامرين قد واجه
أرضاً غريبة بمثل هذه الأدوات.
ماذا سأفعل؟ يجب علي أن أشرب أولاً لكي أطفئ هذا الظمأ
والحرارة الناتجة عن الحمى, وعلي أن أنام بعدها لأن جفنيّ
ينطبقان رغماً عني, ولكني لن أخلد إلى الراحة إلا إذا شعرت
بالأمان.
وعزمت على النوم فوق غصن شجرة أربط نفسي إليها
بحزامي, فتلك هي الراحة الوحيدة المتاحة لرجل لا يملك
وسيلة للدفاع عن نفسه.
مازلت أمشي على الشاطئ حتى وجدت الشجرة المطلوبة,
وكان كثيفة الأوراق متشابكة الأغصان وجذعها مملوءٌ بالعقد
والأشواك, والواقع أن صعودها صعب علي, ولكن يحميني
من الحيوانات المفترسة.
وفيما كنت أتأمل هذه الشجرة خطر لي خاطر وهو أن هذه
الشجرة لا تكون على مثل هذه الضخامة والاخضرار إلا إذا
ارتوت, ولا أظن أن مياه الأمطار ترويها. وقلت لنفسي:
" لا بد أ، يكون نهر قريب من هنا ". وبعد دقائق من البحث
وجدت نهراً يتدفق عبر المروج القريبة, فشربت حتى ارتويت
وانتعشت, ثم رجعت إلى شجرتي فجلست بين مجتمع
الأغصان.
نمت دفعة واحدة حتى الصباح ولم أتمتع بمثل هذه الراحة منذ
وقت طويل, وقد نسيت رعب الغرق واستسلمت لأحلام
غريبة رائعة.
حين استيقظت, كان أول شيء فعلته أن نظرت إلى البحر قبر
رفاقي البائسين, وبحثت عن حطام سفينتنا, واستمسكت بأحد
الأغصان لئلا أسقط من الدهشة.
أثناء الليل هدأت العاصفة تماما واستقر الماء حتى كأنه بحيرة
ساكنة, وعلى مسافة ميل من الشاطئ كانت السفينة جاثمة
على الرصيف الصخري وقد دفعها الموج إليه, وهي تبدو
كأنها سالمة لم تتحطم.ثم هبت من الشجرة.
تأكد لي أني إذا انتظرت ساعة أو ساعتين حين تبدأ حركة
الجزْر فإني أستيطع الوصول إلى السفينة مشياً على اليابسة,
ولكن لهفتي للوصول إليها وإنقاذ ما أمكن من المؤونة
والمعدات قد دفعني إلى الارتماء في الماء بعد أن نزعت
ثيابي الثقيلة, وما إن سبحت عدة أمتار حتى تناهى إلى سمعي
صوت حيوان متوحش, فرجعت إلى اليابسة وقد أمسكت
بسكيني استعداداً للدفاع عن نفسي, ولن الصوت لم يكن
صادراً عن البر بل عن البحر, فهل يكون حيواناً بحرياً لم أره
من قبل؟
أصغيت بانتباه.. ثم انفجرت ضاحكاً.
لقد كان هذا الحيوان " باف " الكلب الذي صحبنا في السفينة
ومعه " فون " القطة البيضاء التي أرعبت الفئران وعقدت
صداقة وثيقة مع الطباخ, وقد هاجرانا مع المركب فهما
يرفعان صوتهما بالنداء بحثاً عنا, فرجعت إلى السفينة سابحاً
وأنا أقول لنفسي:
" يا لهما من حيوانين بائسين ! لقد أنقذهما نسياننا لهما, ولعل
القدر الذي شاء لهما الحياة, هو الذي رمى برفاقي في أعماق
البحر, فهل تكون الغريزة أقوى من العقل؟ ".
مازلت أسبح حتى وصلت إلى المكسر الحجري وحطام
السفينة عليه, فعلقت بحبل يتدلى بارتفاع السفينة وصعدت
إليها.
جرى إلي باف مرحباً, وبعد اللقاء الحميم, نزلت إلى العنابر
أتفقد المؤونة.
كانت المؤونة سليمة. ولا ريب أن هيكل السفينة قد تحطم
وتسرب إليه الماء, ولكن المؤونة وبرميلين من البارود بقيت
على حالها ولم يصل إليها ماء البحر, ففتحة علبة من
البسكويت وجعلت ألتهمها وأرمي إلى الكلب والقطة ببعضها,
وبدأت أفكر بما يجب عليّ نقله من السفينة إلى البر ويكون
عظيم الفائدة لي.
أفرغت كيس بحارة من الثياب ثم ملأته بكل أنواع المؤونة:
من بسكويت ورز وجبن هولندي ولحم مجفف وشيء من
القمح كنا نرمي به إلى الدجاج في بداية رحلتنا. كما وجدت
كمية من الشعير وقد أكلته بعض الفئران فكدت أرميه جانباً,
ولكن أضفته إلى مؤونتي.
في كيس آخر وضعت معدات النجارة التي كان اكتشافي لها
سفينة مملوءة ذهباً, وأضفت إليها بندقيتين ومسدسين وبعض
البارود والخردق وسيفين قديمين, واستكملت مؤونتي هذه
ببرميلي البارود وصندوق مملوء بالزجاجات.
كانت (فون) جالسة فوق أحد الكيسين تلحس مخالبها و(باف)
يدق بي وكأنه يقول:
" ماذا تنتظر لترحل؟ لقد حان الوقت ".
فأجبته بصوت مرتفع:
ـ نعم ياباف! سنرحل وكننا ننتظر مركبتنا.
اخترت من بين الأدوات فأساً ومنشاراً وبدأت اصنع طوفاً,
ولكنه طوف غريب الشكل, إذا كان يلزمني الوقت لإتقانه,
وقد بعض حطام الصواري والألواح بعضاها إلى بعض
وربطتها بإحكام, وتبين لي أنه تطفو باتزان.
حملت مؤومنتي على ظهري وأنزلتها إلى الطوف بواسطة
حبل, وناديت باف فقفز إلى الطوف وجلس فوقه هادئاً, وأما
فون فلم أكن واثقاً من هدوئها, فوضعتها في كيس وربطته
ووضعتها على الطوف. كان متوازناً يتحمل المؤونة وثقل
رجل وحيوان معه, واستخدمت للتجديف مجدافاً كان ملقى في
أحد العنابر, واستفدت منه كثيراً, وساعدني على النجاح ثلاثة
أمور:
أولها البحر الساكن, وثانيها: المد الذي لم يكن هائجاً,
وثالثها: الريح التي كان تهب باتجاه اليابسة. هتفت للسفينة:
" حفظك الله " وأنا ابتعد عنها بضربة مجداف قوية. ووصلت
إلى الشاطئ بعد عذاب طويـــــل,
وكدت أغرق مع حمولتي لولا لطف الله، ولو حدث هذا لمت حزناً،
لأن فوق الطوف أسباب حياتي ووسائل بقائي
والدفاع عن نفسي في هذه الأرض المجهولة، ولكن تولاني الله
بعنايته، ووصلت إلى الشاطئ سالماً، وإن كنت
بعيداً عن موضع إقامتي الأولى، وأرسيت عند مصب نهر لم ألحظه
من قبل، وكانت رماله الناعمة تتيح لي الإستفادة
من المد مرة ثانية، لأنه يدفع الطوف إلى داخل البر دفعاً رفيقاً،
فانتظرت عودة المد،
ووجدت نفسي بعد ساعات داخل اليابسة ولا خطر على الطوف من
الغرق، وأستيطع أن افرغه من المؤونة كما أشاء
نقلت حمولتي الثمينة إلى الشاطئ عن المياه، ورتبتها داخل
صخرة،ثم أخرجت فون من الكيس فأطلقتها مع باف
بعد أن قدمت إليهم بعض الطعام، وعزمت أن يكون نهاري هذا
لإكتشاف المنطقة، وأن أجد موقعاً يناسب إقامتي
وأخفي فيه أدواتي ومؤنتي لئلا ينالها الفساد.
الفصل الثاني
الجزء الثاني
تناولت بدنقية ومسدساً وما يحتاجان من البارود والخردق
وانصرفت إلى الإكتشاف، وكان هدفي من هذه الجولة ذروة جبل
مرتفع أستطيع من أعلا أن أطل على المنطقة
بأسرها.
فهل هذه المنطقة جزيرة أم متصلة بالعمران؟ هل هي مأهولة أم لا؟
وهل هناك خطر من مهاجمة الوحوش لي؟
كانت هذه الأسئلة تطوف بخاطري ولا بد أن أجد الجواب عليها.
بعد أن وصلت إلى أعلى الجبل مرهقاً تلفت حولي الإطلقت صرخة
أسف وحسرة، إذ أنني فوق جزيرة مثلثة الشكل قاعدتها نحو
الجنوب، وبعيداً عن المحيط تظهر بعض الصخور السوداء.
حين أبصرت هذا المحيط الذي يلتف حولي من كل جهة وكأنه
جدران سجن
امتلأ قلبي بالحزن واليأس، وارتميت على ركبتي فوق القمة العالية
المتوحدة أعض كفيّ من القهر، وأنا أضرب الأرض
وأطلق صرخات الأنين، وسرعان ماتغلبت على هذا الحزن ووقفت
على قدمي وأنا أقول لنفسي:
" كيف أنكر رحمة الله بي وإحسانه إلي إذ جنبني عذاب الموت
جوعاً بما يسر لي من أسباب الحياة؟ هيا.. فلأرجع إلى
الطوف، ولعل أمامي أيماً هانئة ماتزال ".
فحملت بندقيتي بيدي وهبطت الجبل بخطوات سريعة، وسلكت
طريقاً مختلفاً عن طريق الصعود
لكي أطّلع على معالم هذه الجزيرة المجهولة.
والوقع أن هذا الطريق الثاني يمر بهضبات عامرة بالأشجار
وسهوب تنمي فيها الأعشاب، فأعاد إلي منظرها الأمل في الحياة،
فلن ينقصني الخشب للتدفءة ولا الفواكه للتغذية،
وقد وجدت من بين هذه الأشجار أشجار فاكهة البرتقال والليمون
والكاكاو، وأما الطيور فكثيرة لأني لمحت أسراباً منها ترتفع في
الهواء، وأردت أن أجرب قدرتي على التصويب فأطلقت النار
على طائر منها فأسقطته، وجرى باف يحمله إليّ،وكان الطائر
شبيها بالعقاب،
ولم أجد لحمه طرياً فرميته بعيداً، ثم خطر لي أن أستخدم لحمه
طعماً في صنارة صيد الأسماك فحملت
ومضيت إلى الطوف.
أنقضى النهار فشعرت بالجوع والتعب، فأكلت قطعة بسكويت
واقتسمت الثانية مع صديقيّ الكلب والقطة، ثم نمت داخل شجرة
والبندقية في متناول يدي معتمداً على غريزة باف
في الإحساس بالخطـــــــــــــــر..
الفصل الثاني
الجزء الأخير
كانت للية هادئة.. وحين استيقظت صباحاً وجدتني في حالة رائعة،
قررت زيارة السفينة مرةً ثانية لعلني أستنقذ من الحطام بعض
الألواح والحبال والأشرعة
فأصنع منها بيتاً أو خيمة على الأقل،كما عزمت أن اهبط إلى العنابر
فربما وجدت بعض المؤونة الصالحة لمعاشي.
سبحت إلى السفينة حينما ارتفع المد وتمسكت بالحبل وصعدت إلى
ظهرها وبدأت تحرياتي، وأول مافعلته أن جمعت بعض الألواح
وصنعت منها طوفاً أمتن وأخف من الطوف الأول، وجعلت فوقه
ماوجدت من الأشرعة وأكياس البحارة لأصنع منها
ثياباً، وشبكة على شكل سرير وعدة أكياس من المسامير والبراغي
وعشرة فؤوس ومشحذاً استفدت منه كثيراً فيما بعد، وبرميلين
من رصاص البنادق وثماني بنادق إحداها بندقية صيد وكيس بارود
وثلاثة رافعات من حديد.
انتظرت المد ورميت فوقه الطوف، ووصلت إلى اليابسة سالماً مع
معداتي، فاستقبلني باف فرحاً وتغدين معاً.
أمضيت النهار في إقامة خيمة بواسطة الشراع الكبير الذي جلبته
معي.
وغرزت في الأرض قطع الصواري التي صنعت منها طوفي الأول،
وربطت أطرافها بحبال بحيث غدت خيمة شبيهةً بخيام الهنود
الحمر، وثبت أجزائها السفلى
بالبراميل والصناديق الفارغة.
رتبت المؤونة والأسلحة تحت الخيمة، ثم صنعت سريراً لي،
وتعشيت داخل هذا المسكن الجديد فشعرت بالأمن والسكينة فيه.
وحجزت مدخل الخيمة بأغصان الأشجار، ورقد باف على قطعة
قماش، وجلست فون تحت قدمي، ونمنا نوماً عميقاً.
من الغد والأيام التالية عليه انتهزت فرصة استمرار هذا الطقس
الجميل والبحر الهادئ لأنقل من السفينة كل مايمكن نقله من
أخشاب
وحبال وأشرعة وقطع حديد، حتى أصبحت خيمتي مستودعا حقيقياً،
وكم كانت فرحتي عظيمة حينما اكتشفت في احدى جولاتي صندوقاً
كبيراً من البسكويت
وصندوق سكر وبرميل طحين مما زاد من مؤونتي!
وأخيراً، توجهت إلى حجرة القبطان، وفتشتها فوجدت فيها موس
حلاقة ومقصاً كبيراً وطقماً من الشوك والسكاكين ومبلغاً كبيراً من
المال.
نظرت إلى القطع الذهبية وقلت:
" أيها الذهب البائس ما نفعك الآن؟ إن قطعة صغيرة من قماش أو
مسماراً صدئاً لخير لي منك، ولا تستأهل أن أنحي لالتقاطك ".
عدت إلى الشاطى مسرعاً لأن علائم عاصفة مقبلة قد لاحت في
الأفق،واستيقظت
صباحاً لأجد البحر هائجاً وأن السفينة التي ضربها الموج وكسرت
انا أيضاً ألواحها قد اختفت.
وقد اسفت لغرقها، ولكنّ عزائي أني نقلت منها كل ما يمكن أن
يفيدني، وعزمت على نسيانها والتفكير في بناء مسكن متين
بدلاً من خيمتي هذه فقد يفاجئني الشتاء وأنا لم أبن هذا البيت بعد،
وقد يفسد مؤونتي ويتلف معداتي.
وضعت عدت شروط لاختيار موقع البيت هذا:
أولاً: قربه من الماء وسهولة الحصول عليه.
ثانياً: أن يكون بعيداً عن حر الشمس.
ثالثاً: أن يكون بعيداً عن المخلوقات الضاربة من حيوان أو إنسان.
رابعاً: أن يطل على البحر لأرى السفن إن اجتازت بهذا المكان من
المحيط.
كنت أبحث عن موقع تتوفر فيه هذه الشروط، فوجد سهلاً منبسطاً
تحت قدمي هضبة مملؤة بالصخور منحدرة بشكل
عمودي، وتحت هذا النبسط من الأرض كهف حفرته الطبيعة جذب
انتباهي إليه.
قلت لنفسي:
_ لقد وجدته، سأحفر هذه الصخرة أكثر لكي تصبح مغارة حقيقية
أضع فيها مؤونتي بعيداً عن الرطوبة, وقد
ألجأ إليها أيضاً إذا اشتد هطول المطر، ولا أعرف شيئاً عن طقس
هذه الجزيرة، ولكن ينبغي لي أن أتوقع أسوأ الأحوال، وفوق هذا
المرج الممتد حوالي مئتي متر طولاً وعرضاً سأنصب خيمة تتصل
بالمغارة من مدخلها الخلفي، ويكون البحر على مرمى
النظر دون أن أتحول ن مكاني، لن ينالني حر الشمس إلا صباحاً.
الموقع ممتاز عن سواه.
وانصرفت إلى العمل دون تأخير.
عمدت أولا إلى رسم نصف دائرة أمام المغارة قطرها أربع وعشرون
قدماً، وغرزت على مسافات متقاربة أوتاداً متينة من
خشب الصواري وجذوع الأشجار ترتفع عن الأرض حوالي سبع
أقدام، وربطت بينها بألواح ثبتها بالمسامير ودعمتها بأوتاد
أخرى كأنها جدران، وأحطت هذه الجدران بصخور انتزعتها من
المغارة لكي أوسعها، وأخفيت هذا البناء كله تحت أغصان الشجرة
المتشابكة التي زرعتها
في الأرض، بحيث ارتفعت عالياً في السنة التالية وكونت دغلة
خضراء تحجب المسكن كله عن
أنظار الإنسان والحيوان المفترس.
بعد أن أنهيت هذا المسكن المرتفع عن الأرض أحسست بالأمان،
وكان يلزمني
للصعود والهبوط سلم متين، فصنعت سلماً صلباً أهبط عليه، فإذا
جاء الليل جذبته إلى أعلى فاستحال الدخول إلى مسكني.
استغرق هذا العمل أسابيع عديدة، ولم أكن ماهراً في استخدام
الأدوات بادئ الأمر، وجرحت أصابعي وآذيت
نفسي، ولكن سرعان ماتعودت العمل بفضل المثابرة، واتقنته وتأكد
لي أن الحاجة أم الاختراع.
عشت خلال أسابيع العمل كلها على المؤونة التي كدستها في
المستودع وجلبتها
من السفينة، وأجلت قضية الصيد والتجوال في الجزيرة، لأني كنت
منصرفاً إلى الحصول على ملجأ
آمن وسكن مريح قبل حلول فصل العواصف والأمطار.
نقلت إلى داخل هذا الحصن كل مؤونتي وسلاحي وأدواتي ورتبتها
داخل المغارة، ثم بدأت بإتقان ماصنعته، فكسرت الزوائد من من
الأغصان وأحكمت إغلاق
الألواح وثبت عليها ألواحاً أخرى تزيد نم حمايتي من الأمطار
والعواصف الشديدة.
من الأنابيب التي أخذتها من مطبخ السفينة صنعت مزراباً فوق
سطح مسكني، وكان السطح من الخشب المغلف بالقماش
الذي أذبت فوقه بعض القطران فأصبح أملس صلباً.
وبنيت داخل المسكن مخدعاً جعلت فيه سريري، ورتبت أكياس
البحارة كالمخدات والمساند، وصنعت عدة طاولات
ومقاعد، حتى لقد صنعت خزانة ملابس.
بمرور الوقت نصبت داخل المغارة- أو ما أدعوه المستودع – عدداً
من الألواح الخشبية أجفف فوقها الخضار والفواكه، وفرحت
لأني انتشلت من طعام السفينة ما أمكنني من هذه الألواح.
وكلما هطل المطر أدخلت تعديلات على هذا المسكن أو على أثاثه،
حتى غدا مريحاً لايحتاج إلى شيء.
اتخذت القطة " فون " مسكنها فوق كومة من الأغطية الاحتياطية
داخل المستودع، وكانت ذات فائدة عظيمة لي، إذا
أنها حمت المؤونة من القوارض المنتشرة في ذلك المكان وأوقعت
بها
هزيمة منكرة.
وأما باف الذي لا يفارقني فكان يقتسم معي المنافع التي يفيض بها
المطبخ علينا.
لقد كان عزائي في وحدتي وعزلتي المؤلمة هذان الصديقان الوفيان
اللذان اقتسما معي، وكم من مرة وجدت نباح
باف حواراً طويلاً أستمتع بالإصغاء إليـــــــــــــــــــــه.
ـــــــــــ