التفسير الفقهي: النشأة والخصائص
المقدمة:
يعتبر المقصد التشريعي في القرآن الكريم من أهم المقاصد التي نزل من أجلها،و هو أمر أجمعت عليه الأمة فاتخذت من القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع فكان قطب الرحى الذي تدور عليه أحكام الشريعة و ينبوع ينابيعها و المأخذ الذي اشتقت منه أصولها و فروعها.وهذا المعنى تؤكده نصوص قرآنية و حديثية كثيرة.
العرض:
فمن ذلك قوله تعالى :" و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" قال مجاهد في معنى كل شيء :كل حلال وكل حرام .وقد قال الشافعي :"فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سيبل الهدى فيها قال الله تبارك وتعالى:"كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" ولقد عد القرطبي من وجوه الإعجاز " ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام" .
و من ذلك قوله تعالى:"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" يقول الشاطبي:"أي الطريقة المستقيمة و لو لم يكمل فيه جميع معانيها (أي معاني الشريعة ) لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة و أشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى و شفاء لما في الصدور ،و لا يكون شفاء لجميع ما في الصدور الا وفيه تبيان كل شئ "
ومن الأحاديث التي استدل بها الشاطبي في هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " و بين وجه الاستدلال بالحديث بقوله: "وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة" .
ومما يؤكد أهمية القرآن الكريم من الناحية التشريعية ما يسميه الشاطبي"التجرية" انطلاقا من واقع تعامل العلماء المسلمين مع القرآن الكريم :"وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا وعلى رأس هؤلاء أهل الظاهر ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل وقال ابن حزم الظاهري كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة"
هذا الجانب التشريعي من القرآن الكريم هو الذي اهتم به علماء التفسير في ما يعرف بالتفسير الفقهي أو تفاسير الأحكام.
التفسير الفقهي و تنوع أحكام القرآن:
التفسير الفقهي مركب من التفسير والفقه ، أما التفسير فمن أجمع ما قيل في تعريفه أنه "علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه" وأما الفقه فأجمع تعريف له أنه" العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية" وعليه فالتفسير الفقهي هو تفسير ماله صلة بالأحكام الشرعية العملية في القرآن الكريم وهو ما يسمى تارة آيات الأحكام و تارة فقه الكتاب .
أما أحكام القرآن فتنقسم إلى أنواع ثلاثة تمثل الأحكام الفقهية أو العملية نوعا واحدا منها، أما الأنواع الثلاثة فهي على التفصيل:
أولا : الأحكام الاعتقادية التي تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو ما يدرس ضمن مباحث العقيدة .
ثانيا : الأحكام الخلقية التي تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل ويتخلى عنه من الرذائل . وهو ما يتعلق بالجوانب التربوية من القرآن الكريم.
ثالثا: الأحكام العملية وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال و أفعال وعقود وتصرفات . وهدا النوع هو فقه القرآن وهو الذي اهتم به المفسرون ضمن ما عرف بالتفسير الفقهي وهو يتضمن نوعين أساسيين :
1. أحكام العبادات : من صلاة وصيام وزكاة وحج ونذر ويمين ونحو دلك من العبادات التي يقصد بها تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه .
2. أحكام المعاملات : من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض سواء كانوا أفرادا أم جماعات .
وإذا كانت هذه الأمور من المسلمات فإن أنصار الاتجاه العلماني يبذلون جهدا استثنائيا لنفي المقصد التشريعي في القرآن إما كليا أو جزئيا ليفصل بين القرآن والحياة فلا يعطي للقرآن أكثر من أثر أخلاقي ، ومن ذلك ما يقوله أحدهم و هو يلخص دراسته للجانب التشريعي في القرآن الكريم:"إذا نظرنا إلى الحصيلة النهائية لدارستنا للأحكام القرآنية …فإن الاستنتاج الأول الذي يبرز بكل وضوح هو أن القرآن لم يشرع بالأساس للمعاملات بين الناس" وهو هنا ينفي جانب المعاملات ككل فلا يجعل التشريع للمعاملات مقصدا من مقاصد القرآن الكريم ،وفي موضع آخر يخص من ذلك الجانب السياسي فينفي وجود أي تصور سياسي في القرآن يقول :"كل هذا يدل على أن القرآن الكريم لم يأت بأي تصور سياسي … كما أن مراجعة الكتاب العزيز وخاصة آيات الأحكام منه تدل على أن القرآن الكريم لم يعتن عموما بالتنظيم السياسي" أما التبرير الذي يقدمه لما يظنه نتيجة علمية فيلخصه في قوله :"ذلك أن الإسلام والقرآن الكريم دعوة إلى قيم روحانية" وهكذا يتحول الإسلام والقرآن في نظره إلى قيم روحانية خالية من الجانب التشريعي الملزم .مما لا يمكن معه الحديث عن الشريعة الإسلامية لتحل محلها القوانين الوضعية ما دام الجانب التشريعي على حد زعمه ليس مقصدا من مقاصد القرآن!!
ومما يكشف إصرار أمثال هؤلاء على آرائهم المسبقة أن هذا الباحث اعتمد في مصادره على كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين لكنه في هذه النقطة خالفه ، لأنه لا يدعم توجهه العلماني .أما أحمد أمين فيؤكد ما قرره العلماء من اشتمال أحكام القرآن على كل مجالات النشاط الإنساني بقوله:"تعرض القرآن في آيات الأحكام إلى جميع ما يصدر عن الإنسان من أعمال :إلى العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ، إلى الأمور المدنية كبيع وإجارة وربا، إلى الأمور الجنائية من قتل وسرقة وزنا وقطع طريق ، إلى نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث ،إلى الشؤون الدولية كالقتال وعلاقة المسلمين بالمحاربين وما بينهم من عهود وغنائم الحرب". والذي ذكره أحمد أمين هنا هو عين ما يجحده كثير من العلمانيين فقد جهلوا أو تجاهلوا أن القرآن تعرض لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال .
التفسير الفقهي بين الأثر و الرأي:
يميز العلماء عادة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي وهو تمييز يقوم على التقريب والتغليب ذلك أنه عند التحقيق لا تكاد تجد تفسيرا قام على الأثر وحده ولا تجد تفسيرا قام على الرأي وحده. و التفسير الفقهي ليس استثناء من هذه القاعدة وإن كان إلى الرأي أقرب لما فيه من إعمال للعقل وبذل للجهد لاستنباط الدلالات البعيدة والقريبة للآية على الحكم. ولعل مما يستدل به في هذا الباب استثناء ابن عطية التفسير الفقهي من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه في حديث جندب ابن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " قال ابن عطية :" و ليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحاة نحوه و الفقهاء معانيه و يقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم و نظر فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه." واستثناء تفسيرالفقهاء و اللغويين والنحاة إنما كان منه لأنه يعد كل ذلك من التفسير بالرأي إلا أن التحذير الوارد في الحديث لا يشمله لأنه رأي مبني على قوانين علم ونظر.
ولقد عد محمد الطاهر ابن عاشور مشروعية التفسير الفقهي دليلا على جواز التفسير بغير المأثور قال :"وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام الا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها قبل ذلك"
وإذا كان التفسير الفقهي من التفسير بالرأي فهناك من عده لأجل ذلك من الاجتهاد في الشريعة الإسلامية يقول :" التفسير الفقهي كما نراه يعد لونا من ألوان الاجتهاد في الشريعة الإسلامية يهدف إلى تفهم النصوص ومعرفة مراميها ودلا لتها على الأحكام في كافة حالاتها وفق قواعد وضوابط تحفظ المجتهد من الخطأ."
التفسير الفقهي من تفاسير الاختصاص:
يعد التفسير الفقهي من بين ما يمكن تسميته بتفاسير الاختصاص ، وهو التحول الذي عرفه علم التفسير بالانتقال من الإحاطة والشمول إلى الاختصاص ولقد انعكس ذلك على العناوين التي عرفت بها هذه التفاسير .وهكذا وجدت كتب معاني القرآن و إعراب القرآن وغريب القرآن وأحكام القرآن… وهي كتب اختص كل واحد منها بجانب من جوانب القرآن في مقابل الكتب الجامعة مثل جامع البيان للطبري ونحوه. و هذا التطور يشير إليه السيوطي و هو يتحدث عن اهتمام كل ذي علم من العلوم الإسلامية بالتفسير و سعيه إلى إيجاد الحجة من القرآن الكريم لما يذهب إليه يقول :"ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه: فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب و تكثير الأوجه المحتملة فيه و نقل قواعد النحو ومسائله و فروعه وخلافياته كالزجاج و الواحدي في البسيط و أبى حيان في البحر و النهر. و الإخباري ليس له شغل إلا القصص و استيفاؤها و الإخبار عمن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة كالثعلبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد ،وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية، والجواب على أدلة المخالفين كالقرطبي " ومع ما يلاحظ على قول السيوطي من مبالغة إلا أنه يبقى مع ذلك محددا لخاصية من خصائص التفسير الفقهي وهي تناول القرآن الكريم من زاوية فقهية محضة على غرار تناول علماء آخرين القرآن من زاوية اختصاصاتهم العلمية ضمن ما أسميناه تفاسير الاختصاص.
الاختلاف في عدد آيات الأحكام
يختص التفسير الفقهي كما تقدم بآيات الأحكام وقد اختلف العلماء في تحديد عددها ، وتأتي إشارتهم لهذا الموضوع عند الحديث عن شروط المجتهد ومن ذلك ما قاله الغزالي في المستصفى :"لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية" وتابع الغزالي في هذا العدد الرازي وابن العربي .
في حين ذكر غيرهم أنها لا تتعدى المائة والخمسين أو المائتين ومن أولئك صديق بن حسن القنوجي الذي يقول :" وقد قيل إنها خمسمائة آية وما صح ذلك و إنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك وإن عدلنا عنه وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح عن أن تسمى كلاما في عرف النحاة كانت أكثر من خمسمائة آية "
وممن تعرض لعدد آيات الأحكام وحددها في مائتين أحمد أمين الذي يسميها الآيات القانونية فيقول :"هذه الآيات القانونية أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة في القرآن ، ففي القرآن نحو ستة آلاف آية ليس منها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مائتين وحتى بعض ما عده الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك "
وفي مقابل الاتجاه إلى تحديد عدد آيات الأحكام إتجه فريق آخر من العلماء إلى عدم حصرها بعدد محدد ومن هؤلاء الشوكاني الذي يقول :" ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية لأضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرى القصص والأمثال ، قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام"
ويؤكد نفس المعنى العز بن عبد السلام بقوله إن معظم آي القرآن لا تخلو من أحكام مشتملة على آداب حسنة و أخلاق جليلة وان الله جلت قدرته إنما ضرب الأمثال تذكيرا ووعظا فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل ،أو على مدح أو ذم أو نحو ذلك فإنه يدل على الأحكام.
هذا ولعل السبب في الاختلاف في تعداد آيات الأحكام يرجع إلى نقطتين رئيسيتين :
الأولى :ما هو المراد بالحكم الفقهي ؟ إن كان المراد به كل شيء مأمور به أو منهي عنه يقرب من الله أو يبعد عنه فان عدد آيات الأحكام يكون كثيرا جدا مثلا قوله تعالى :"ولا تلبسوا الحق بالباطل " فمن نظر إلى التعميم في الحكم بأن جعله يشمل كل المأمورات وكل المنهيات جعل هذه الآية من آيات الأحكام . و بهذا المقياس تعتبر آيات القصص والأمثال وما يتعلق بالنفس الإنسانية وغيرها من آيات الأحكام .أما إذا استثني ما عدا ما هو صريح باشتماله على أحكام فقهية خالصة فإن عددا مهما من الآيات لا يلتفت إليها في التفسير الفقهي . فتضيق دائرة آيات الأحكام .
الثانية :اختلاف العصور وتعاقب المذاهب والنظرات المختلفة للفقه وللأصول وللأحكام جعل الأنظار تختلف والمقاييس تتعدد ، حيث إن كثيرا من الآيات التي يظن أنها مجرد قصة ربما أخذها فقيه وجعلها من آيات الأحكام . وذلك مثلا قوله تعالى في قصة شعيب مع موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام :" قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ،فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " استدل بها الفقيه على أن المهر يمكن أن يكون منفعة .
والذي أراه راجحا في هذه المسألة قول من قال بعدم حصر آيات الأحكام بعدد معين ما دام الأمر يرجع إلى ملكة العالم وطاقته وقدرته على الاستنباط،في ارتباط مع متطلبات كل عصر وما يجد فيه من القضايا والنوازل.
وهذه المسألة وإن بدت ثانوية فإن لها أهمية خاصة ، ويتأكد ذلك كلما استحضرنا من يحاول جاهدا نفي المقصد التشريعي من القرآن الكريم معتمدا في ذلك على عدد آيات الأحكام. التي يتجه إلى التقليل منها مستعينا بكل ما يخدم غرضه ومقصده مثل توظيف الناسخ والمنسوخ لتقليل العدد ما أمكن ! وهكذا وجدنا أحدهم يقول مثلا:"يجب اعتبار منظومة الناسخ والمنسوخ فمفعولها لا يكون إلا بالتخفيض في عدد آيات الأحكام…إن الآيات التشريعية …تبلغ 200 آية فقط نسخ (ألغي ) منها حوالي مائة وعشرين آية والباقي من الآيات التشريعية السارية حتى الآن مجرد ثمانين آية" وهكذا بحسب هذا الزعم ليس في القرآن أكثر من ثمانين آية تشريعية ! وهو قول بعيد كل البعد عن الصواب.
نشأة التفسير الفقهي:
تعود نشأة التفسير الفقهي إلى بداية الفقه وهو الذي بدأ مع هذه الأمة منذ نشأتها و ظل يوجهها حتى في أحلك فترات التخلف و التردي العلمي و ذلك راجع إلى الحاجة الملحة إليه إذ هو الضابط لسير الحياة .و بداية التفسير الفقهي كانت مع نزول القرآن الكريم وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد قاسم المنسي:"ومما لاشك فيه أن الاتجاه إلى فهم نصوص التشريع في القرآن و التعرف على مراد الشارع من المكلفين قد وجد مع بدء نزول هذه النصوص ذاتها " .ويمكن القول بأن أول من فسر القرآن فقهيا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من البيان الذي دل عليه قوله تعالى:" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" ثم كان عصر الصحابة رضوان الله عليهم والذين اجتهدوا في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم للقضايا التي جدت في عصرهم و الكتب التي تؤرخ للتشريع الإسلامي تحفظ الكثير من المسائل التي اختلف فيها الصحابة،مثال ذلك قول عمر بن الخطاب إن الحامل المتوفى عنها : عدتها وضع الحمل و قال علي تعتد بأبعد الأجلين وضع الحمل أو أربعة أشهر و عشرا .و سبب الخلاف أن الله جعل عدة المطلقة الحامل وضع الحمل و جعل عدة المتوفى عنها أربعة أشهر و عشرا من غير تفصيل ،فعلي في فتواه عمل في المتوفى عنها بالآيتين جميعا و عمر جعل آية الطلاق حكما على آية الوفاة يعني مخصصة "
والصحابة كانوا القدوة لغيرهم في بدل الجهد في استنباط الأحكام من القرآن الكريم فعن أبي عبد الرحمن السلمي وهو من كبار التابعين قال :"كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر بعدها حتى نعرف حلالها من حرامها وأمرها ونهيها "
ومع الاتساع الذي عرفته الرقعة الإسلامية و ما استجد من قضايا ونوازل ازدادت الحاجة إلى استنباط الأحكام من القرآن الكريم باعتباره أول ما يرجع إليه المجتهد في عملية البحث عن أي حكم فكثرت آيات الأحكام ولم يعد الحديث عن آية وآيتين و إنما عن آيات للأحكام جمعت في مؤلفات مستقلة تحت عنوان تفاسير الأحكام .
يغلب عنوان أحكام القرآن على المصنفات الخاصة بالأحكام الفقهية في القرآن الكريم وهذه المصنفات متأخرة بالنسبة لتدوين المذاهب الفقهية المتبعة وأول كتاب عرف في هذا الشأن هو " أحكام القرآن " لأبى النصر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي الشيعي ت146هـ حسب ما أثبته عبد الله عبد الحميد في رسالة الماجستير (أحكام القرآن من سورة الفاتحة إلى الآية العاشرة بعد المائتين من سورة البقرة لابن فرس ) تحت إشراف الدكتور عبد العزيز الدر دير موسى .
و بالنسبة لحاجي خليفة فإن أول من وضع مؤلفا في هذا الفن هو الإمام الشافعي ،وفاته أن أحكام القرآن للإمام الشافعي إنما هو من جمع البيهقي المتوفى سنة 485هـ.وجاء في مقدمة كتاب أحكام القرآن للكيا الهراسي أن أول كتاب عرف في هذا الشأن هو (أحكام القرآن) للشيخ أبى الحسن علي ابن حجر السعدي المتوفى سنة 244هـ .وهو بهذا لاحق لأبي النصر محمد بن السائب المتوفى سنة 146هـ وليس سابقا عليه.
المؤلفات في التفسير الفقهي :
قبل الحديث عن أهم كتب التفسير الفقهي تحسن الإشارة إلى أن هذه الكتب لم تكن وحدها مهتمة بجانب الأحكام فبي القرآن بل شاركتها في ذلك كل كتب التفسير تقريبا ، فالفرق إذن بينها وبين غيرها أنها اختصت بالأحكام أساسا و شاركها فيها غيرها . وإذا أخذنا تفسير الطبري مثلا فهو لا يخلو من أحكام فقهية لذلك قال عنه خليل محيي الدين الميس:" للطبري كتاب اختلاف الفقهاء … فهو فقيه دارس للمذاهب كلها بل مجتهد صاحب مذهب اختاره لنفسه ومن البداهة أن يعرض للآراء الفقهية ويناقشها في مناسباتها من آيات الأحكام" .ومن ذلك ما قاله القنوجي عن كتابه فتح البيان ، فهو وإن كان أفرد أحكام القرآن بالتأليف في كتابه نيل المرام فقد أشار إلى انه تناولها أيضا في فتح البيان قال:" وألفت بعد ذلك تفسيرا لمقاصد القرآن المسمى فتح البيان جامعا للرواية والدراية والاستنباط والأحكام."
ومن جهة أخرى فإن كتب أحكام القرآن لم تخل من الإشارة إلى جوانب في التفسير غير الأحكام فلقد احتوت على مباحث لغوية وعقدية وغيرها وإذا أخذنا مثالا على ذلك أحكام القرآن لابن العربي المعافري فإن المسائل التي يتناولها تتجاوز الجانب الفقهي،بل في كتابه الأحكام الصغرى رغم اختصاره تناول بعض ذلك وهو مما أشار إليه محققه بقوله :"ضمنه نحوا من خمسمائة آية من آيات الأحكام ونحو ألف حديث من الأحاديث الصحيحة… فهو كتاب فقه القرآن وفقه السنة معا"
ومن ذلك أيضا ما فعله محمد علي الصابوني الذي يشير إلى عشرة وجوه يتناول بها آيات الأحكام التي فسرها لا تمثل الأحكام الشرعية إلا وجها منها يقول :"فتناولت الآيات التي كتبت عنها من عشرة وجوه على الشكل الآتي: أولا التحليل اللفظي …ثانيا المعنى الإجمالي …ثالثا سبب النزول …رابعا وجه الارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة،خامسا البحث عن وجوه القراءات…"إلى أن يذكر الوجه الثامن وهو " الأحكام الشرعية وأدلة الفقهاء مع الترجيح بين الأدلة" وعليه فما يذكر من كتب أحكام القرآن إنما هو ما اختص بالأحكام حتى عرف بها.
وإذا كان التمييز يتم عادة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي فإن تفاسير الأحكام تتنوع بتنوع المذاهب الفقهية المعروفة فأحكام القرآن للجصاص يعبر عن اختيار الأحناف و أحكام القرآن لابن العربي يعبر عن اختيار المالكية و أحكام القرآن للهراسي يعبر عن اختيار الشافعية …و هذا التنوع عند محمد حسين الذهبي مما طرأ على التفسير الفقهي الذي سبق المذاهب ونشأ مستقلا عنها ثم أصبح كما يقول: "يسير تبعا للمذاهب ويتنوع بتنوعها …وكل فريق من هؤلاء يجتهد في تأويل النصوص القرآنية حتى تشهد له أو لا تعارضه على الأقل مما أدى ببعضهم إلى التعسف في التأويل والخروج بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها" وإذا كان التنوع مسلما فإن تعميم القول بتأويل النصوص لتشهد للمذهب فيه نظر و التسليم به يفقد كتب التفسير الفقهي علميتها والأمر تابع لشخصية المفسر وقدرته الاجتهادية ثم إن الاختلاف الفقهي كانت له مبرراته العلمية .
أما عن أهم ما كتب في التفسير الفقهي ففي ما يلي عرض لطائفة من هذه الكتب مرتبة حسب المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة:
فعلى مذهب المالكية نذكر من ذلك:
• أحكام القرآن : لأبي عبد الله محمد بن سحنون القيرواني المتوفى 255 هـ.
• أحكام القرآن : القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل المالكي المتوفى282 هـ
• أحكام القرآن : القاضي أبو بكر بن محمد بن بكير البغدادي المالكي المتوفى305 هـ
• أحكام القرآن : لأبي الحكم منذر بن سعيد بن عبد الله بن نجيح القاضي البلوطي المالكي المتوفى355 هـ
• أحكام القرآن : لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المتوفى 543 هـ
• الجامع لأحكام القرآن : لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى 671 هـ
أما على مذهب الحنفية فنذكر:
• أحكام القرآن في ألف ورقة : لأبي جعفر احمد بن محمد بن سلمة الازدي الطحاوي الحنفي المتوفى 321هـ
• أحكام القرآن : لأبي الحسن علي بن موسى بن يزداد القمي الحنفي المتوفى 350هـ
• أحكام القرآن : لأحمد بن علي الرازي ، المشهور بالجصاص الحنفي المتوفى 370هـ
• تخليص أحكام القرآن،تهذيب أحكام القرآن : جمال الدين محمود بن مسعود المعروف بابن سراج القونوي الحنفي المتوفى 770 هـ
• التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية : احمد بن أبى سعيد بن عبيد الله الحنفي الميهوي المعروف بملاجيون المتوفى1130 هـ
أما على مذهب الشافعية فنذكر:
• أحكام القرآن : للإمام الشافعي المتوفى204 جمعه الإمام أبو بكر احمد بن الحسن البيهقي النيسابوري المتوفى458
• أحكام القرآن : لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الشافعي المتوفى240
• أحكام القرآن : لعماد الدين أبى الحسين علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي الشافعي المتوفى 504
• الإكليل في استنباط التنزيل :جلال الدين السيوطي الشافعي المتوفى المتوفى911 هـ
• أحكام الكتاب المبين : علي بن عبد الله بن محمود الشنفكي الشافعي المتوفى890 هـ
• هداية الحيران في بعض أحكام تتعلق بالقرآن عبد الله بن محمد المغربي ثم القاهري الشافعي المعروف بالطبلاوي المتوفى1027 هـ
أما على مذهب الحنابلة فنذكر :
• أحكام القرآن : لأبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي المتوفى 458هـ
• أحكام الراي في أحكام الآي : شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنبلي المتوفى776 هـ
• أزهار الفلاة في آية قصر الصلاة : مرعي بن يوسف بن ابي بكر الكرمي المقدسي الحنبلي المتوفى 1033هـ
خـــــاتمة:
إن الحاجة إلى التفسير الفقهي لا تبرز إلا بدرجة احتكامنا للقرآن الكريم ونظرا لكون أحكام الشريعة معطلة في أغلب الدول الإسلامية فإن ذلك انعكس على المباحث الفقهية ومنها التفسير الفقهي . وفي الوقت الذي يتزايد فيه إقبال الناس على ما يسمى بالتفسير العلمي وهو الذي يعنى بتتبع الآيات الكونية وتفسيرها على ضوء ما تنتجه المختبرات ومراكز البحث في العلوم الدقيقة من معارف وحقائق علمية فإن لفت الانتباه إلى الجانب التشريعي في القرآن الكريم يعتبر خطوة منهجية لا يمكن تجاوزها .خاصة وقد وجدنا من يحاول لي أعناق الآيات ليبرر مواقفه المسبقة في كثير من القضايا ومن ذلك قضية تعدد الزوجات حيث يستدل بقوله تعالى:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " لإثبات استحالة العدل المشروط في قوله تعالى :" وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" مع أن كتب التفسير الفقهي تبين بجلاء العدل المقصود في الآيتين مع التمييز بين العدل المأمور به الذي هو في مقدور الإنسان ويكون في المبيت والنفقة ونحوهما، و العدل المنفي الذي لا يطيقه أحد وهو العدل في المحبة القلبية. وقل نفس الشيء عن آيات الربا التي يحاول البعض التحايل عليها لتبرير واقع فاسد نشأ بعيدا عن تعاليم القرآن الكريم،والتفسير الفقهي هو المؤهل من بين اتجاهات التفسير لحسم النزاع في هذه القضايا وغيرها .
لائحة المصادر والمراجع:
1. الإتقان في علوم القرآن ، جلال الدين السيوطي ، الطبعة الثانية ، دار ابن كثير دمشق 1993م
2. الأحكام الصغرى ، أبو بكر بن العربي المعافري ، تحقيق سعيد أحمد أعراب منشورات الإيسيسكو 1412هـ 1991م
3. أحكام القرآن ، الكيا الهراسي ، الطبعة الأولى ،دار الكتب العليمة بيروت 1983م
4. أصول الفقه الإسلامي وهبة الزحيلي الطبعة الأولى دار الفكر 1986م
5. تاريخ التشريع الإسلامي ، محمد الخضري ، الطبعة التاسعة ، المكتبة التجارية مصر 1390هـ1970م
6. التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور الدار التونسية للنشر 1984م
7. تفسير القرآن العظيم ، أبو الفداء إسماعيل بن كثير ، الطبعة الأولى 1406هـ 1986م دار الكتب العلمية بيروت
8. التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي دار القلم بيروت لبنان
9. جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري دار الفكر1988م
10. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي دار الفكر 1443ه 2022م
11. الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق محمد أحمد شاكر ، دار الفكر
12. روائع البيان تفسير آيات الأحكام ، محمد علي الصابوني الطبعة الثالثة ، دار إحياء الترث العربي 1400هـ 1980م
13. سنن أبي داود ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت
14. سنن الترمذي و هو الجامع الصحيح لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، الطبعة الثانية دار الفكر 1403هـ 1983م
15. صحيح البخاري ، دار الفكر 1401هـ 1981م
16. صحيح مسلم ، الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر 1403هـ1983م .
17. فجر الإسلام ، أحمد أمين، الطبعة السابعة مكتبة النهضة، القاهرة ،1374هـ 1955م.
18. فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري مطبوع على هامش المستصفى للغزالي ، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية ببولاق بمصر 1324هـ.
19. في التفسير الفقهي ، الدكتور محمد قاسم المنسي الطبعة الأولى مكتبة الشباب مصر 1416هـ 1996م.
20. القرآن والتشريع ( قراءة جديدة في آيات الأحكام) الصادق بلعيد ، مركز النشر الجامعي تونس 2022م.
21. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة ، مكتبة المثنى بيروت.
22. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للقاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي 546 تحقيق المجالس العلمية بالمغرب طبعة وزارة الأوقاف 1975م.
23. مدخل إلى علوم القرآن والتفسير ، الدكتور فاروق حمادة ،الطبعة الأولى ، مكتبة المعرف الرباط 1399هـ 1979م.
24. المستصفى من علم الأصول ، أبو حامد الغزالي ، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية ببولاق بمصر 1324هـ.
25. الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطيبي المكتبة التجارية مصر.
26. نيل المرام من تفسير آيات الأحكام ، محمد صديق حسن خان ، دار المعرفة بيروت.
اللهـ يوفقك