المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
لقد اعتنى الإسلام بالأيتام عناية كبيرة و ما تلك الآيات العديدة في كتاب الله وذلك الحث المتوالي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دليل قوي على هذه العناية ولقد ترجمت القرون الأولى هذه التوجيهات عمليا وتعاملت معها أمرا واقعا فمن يتتبع التاريخ الإسلامي يرى بوضوح مقدار الحرص على رعاية اليتيم وكفالته بحثا عن الأجر ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم .
من هو اليتيــــم ؟
اليُتمُ هو : الانفراد ، واليتيم : الفردُ وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم ، وأصل اليتيم الغفلة ، وبه سُميَّ اليتيم يتيماً ؛ لأنه يتغافل عن بره ، كما قيل إن اليتيم الإبطاء ، ومنه أُخذ اليتيم ؛ لأن البر يُبطيءُ عنه ، ويقال أيضاً في سيرة يَتَمُ : أي إبطاء أو ضعف أو فتور ، فكلمة اليتيم في أصلها اللُّغوي تدور على الانفراد والضعف والبطء والحاجة ، وتلك صفات في واقع الحال لليتيم في الغالب . تدور كلمة اليتيم في اللغة على الانفراد والضعف والحاجة . أما اليتيم في الشرع : فهو من فقد أباه وهو دون البلوغ ، ففي الأثر أن رسول الله قال: (لا يتم بعد احتلام … ) .
وتقول العرب : اليتيم الذي يموت أبوه ، والعجيُّ الذي تموت أمه ، ومن مات أبواه فهو لطيم. إلا أن اسم اليتيم يطلق تجاوزاً لكل من فقد أحد والديه أو كليهما ، ويقال للصبي يتيماً إذا فقد أباه قبل البلوغ ، فهو يتيم حتى يبلغ الحلم ، ويقال للمرأة يتيمة ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت زال عنها اسم اليتمُ . والجمع أيتام ويتامى .
أما اليتيم في الشرع : فهو من فقد أباه وهو دون البلوغ ، أخذاً من حديث الرسول ( لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل ) ( رواه أبو داود )، مع اختلاف بين الفقهاء في وقت انقطاع حكم اليتيم عنه، لما ورد عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال : ( إن الرجل لتنبت لحيته ، وأنه لضعيف الأخذ لنفسه ، ضعيف العطاء منها ، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم ) ، وهذا في أحكام التصرف المالي ، أما اسم اليتيم فهو ينقطع بالبلوغ لما ورد في حديث الرسول ( لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل ) .
ومما يلحق بالأيتام ، بل إن أمرهم أشد اللقطاء أو من كان مجهول الأب أو الأم أو كليهما فقد يفقد الطفل أبويه لأي سبب من الأسباب ، والأسباب كثيرة فقد يتوفى الوالدان وهو صغير وقد يفقداه في زحام الحج ، أو في حادثة حريق ، أو حادث مروري وما أكثرها في أيامنا هذه . ولاشك أن العناية بهذه الفئة قد تكون أفضل، فاليتيم قد يجد العم أو الخال أو الجد أو القريب، أما مجهولي الأبوين لأي سبب من الأسباب لا يجد أيا من ذلك إلا رحمة الرحمن الرحيم وهي خير وأبقى .
وتأكيدا لهذا الأمر وحتى يزول الإشكال الذي قد يرد لدى بعض الناس ومحبي الخير صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 20711 مؤرخة في 24/12/1419هـ حول هذا الأمر وجاء فيها ما نصه : ( إن مجهولي النسب في حكم اليتيم لفقدهم لوالديهم بل هم أشد حاجة للعناية والرعاية من معروفي النسب لعدم معرفة قريب يلجأون إليه عند الضرورة وعلى ذلك فإن من يكفل طفلا من مجهولي النسب فانه يدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً )) ( رواه البخاري ) .
فضل كفالة اليتيم
لقد اهتم الإسلام بشأن اليتيم اهتماماً بالغاً من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سبل العيش الكريمة له ، حتى ينشأ عضواً نافعاً في المجتمع المسلم قال تعالى : ( فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر ) [ الضحى : آية 9 ] وقال تعالى ( أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ ) [ الماعون : آية 1-2 ] ، وهاتان الآيتان تؤكدان على العناية باليتيم والشفقة عليه ، كي لا يشعر بالنقص عن غيره من أفراد المجتمع ، فيتحطم ويصبح عضواً هادماً في المجتمع المسلم .
ومما يؤكد على حرص التشريع الإسلامي على اليتيم والتأكيد المستمر على العناية به وحفظه ، هو ورود كلمة اليتيم ومشتقاتها في ثلاث وعشرين آية من آيات القرآن العظيم ، وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم ، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة،كلها تدور حول:دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، وفي الحالة الزواجية، والحث على الإحسان إليه،ومراعاة الجانب النفسي لديه.
يقول تعالى : ( وَإِذ أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائيلَ لاَ تَعبُدونَ إِلاّ اللَّهَ وبِالوالدينِ إحسَانا وذِي القُربَى واليَتَامى والمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنا وأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتوا الزّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيتُم إِلا قَلِيلاً مِّنكُم وأنتُم مُعرِضُون ) [البقرة ، آية : 83 ] ، فالإحسان إلى اليتيم متعين كما هو للوالدين ولذي القربى ، كما قال تعالى : ( أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ * ولا يحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ ) [ الماعون : 1-3 ] . وقوله تعالى : ( فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر ) [الضحى : آية 9 ] . قال ابن كثير عن تفسير هذه الآية : فلا تقهر اليتيم : أي لا تذله وتنهره وتهنه ، ولكن أحسن إليه وتلطف به ، وكن لليتيم كالأب الرحيم. ولقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس باليتيم وأشفقهم عليه حتى قال حاثاً على ذلك : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً ) .
كما أمر – عز وجل – بحفظ أموال الأيتام ، وعدم التعرض لها بسوء ، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب وعظائم الأمور ، ورتب عليه أشد العقاب ، قال تعالى إنّ الذِينَ يَأكُلُونَ أَمَوالَ اليَتَامى ظُلماً إنّما يَأكُلُون في بُطُونِهِم ناراً وسَيصلَونَ سَعِيراً ) [ النساء : آية 10 ] ، كما قال تعالى ولا تَقربُوا مَالَ اليَتِيمِ إلا بِالتِي هِيَ أحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وأوفُوا بِالعَهدِ إنّ العَهدَ كَانَ مَسئُولا ) [ الإسراء : آية 34 ] . وعدَّ الرسول أكل مال اليتيم من السبع الموبقات ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله ، وما هن ؟، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) ( رواه البخاري ). ولخطورة ذلك الأمر ، وجه صلى الله عليه وسلم من كان ضعيفاً من الصحابة ألا يتولين مال يتيم ، فعن أبي ذر – رضي الله عنه – أن رسول الله قال : ( يا أبا ذر ، أني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على أثنين ، ولا تولين مال يتيم ) ( رواه مسلم ) .
واستمراراً لحرص التشريع الإسلامي على أموال اليتامى ، أمر باستثمارها وتنميتها حتى لا تستنفدها النفقة عليهم ، فلقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ألا من ربى يتيماً له مال فليتجر به ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ) ( رواه أبو داود) . كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ( اتجروا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة ) ، ومن هنا يلزم الولي على مال اليتيم استثمارها لمصلحة اليتيم على رأي كثير من أهل العلم بشرط عدم تعريضها للأخطار .
وجـماعاً لكل ما سبق ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكفالة اليتيم ، وضمه إلى بيوت المسلمين ، وعدم تركه هملاً بلا راعٍ في المجتمع المسلم ، فلقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله قال : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً ) (متفق عليه)، كما عد رسول الله خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه . فلقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسَن إليه ، وشر بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يُسَاء إليه ) (رواه ابن ماجه ) .
ولقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر العظيم لمن تكفل برعاية الأيتام ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله ، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كهاتين أختان وألصق إصبعيه السبابة والوسطى ) (رواه ابن ماجه ) .
كما جعل الإحسان إلى الأيتام علاجاً لقسوة القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال : ( امسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين ) (رواه أحمد )، ورتب على ذلك الأجر العظيم ، حيث يكسب المرء الحسنات العظام بكل شعرة يمسح فيها على رأس ذلك اليتيم ، فعن أبي أمامة أن رسول الله قال : ( من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى ) (رواه أحمد) .
ولقد تمثل المجتمع المسلم تلك التوجيهات عملياً بدءاً من عصر الصحابة رضوان الله عليهم حتى يومنا الحاضر، فلقد ثبت أن هناك العديد من الصحابة والصحابيات كفلوا أيتاماً ويتيمات وضموهم إلى بيوتهم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر : أبوبكر الصديق ، ورافع بن خديج ، ونعيم بن هزال ، وقدامة بن مظعون ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو محذورة ، و أبو طلحة ، وعروة بن الزبير ، وسعد بن مالك الأنصاري، وأسعد بن زراره ، وعائشة بنت الصديق ، وأم سليم ، وزينب بنت معاوية – رضي الله عنهم – وغيرهم كثير وكثير جدا من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
واعلم أخي المسلم أن رعاية المسلمين للأيتام ومن في حكمهم تقوم على أسس أصيلة قوية تنطلق منها جميع أوجه الرعاية التي يقدمونها لهم سواء من أحاد المسلمين أو من المجتمع المسلم بشكل عام، وهذه الرعاية لا تقوم على مجرد عاطفة قد تضمحل أو شفقة عابرة أو رحمة قد تزول وتتناقص على مر الأيام ، بل هي قواعد أساسية مرتكزة على توجيهات ربانية وهدي نبوي، ولاشك أن استحضار هذه الأسس تعين المسلم على الأقدام على رعاية هؤلاء الأيتام والعطف عليهم والشفقة بهم .
ومن ذلك أنهم ينظرون إلى هذا اليتيم على أن مخلوق بشري له كرامته التي كرمه الله بها فقد أسجد ملائكته له حين خلقه ، قال تعالى: ( إذ قَالَ ربُكَ للمَلائكَةِ إِنيِ خَالِقُ بَشَراً من طِين فإذا سَوَّيتُهُ ونَفَختُ فِيهِ من رُّوحِي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِين فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلُّهُم أَجمعُون إِلا إِبلِيسَ استَكبرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ) [ ص : آية 71-74 ] . وهذا السجود سجود إكرام وإعظام واحترام كما ذكر المفسرون. وجنس الإنسان مكرم ، وللإنسان منزلة خاصة بين مخلوقات الله عز وجل ، قال تعالى : ( وَلَقد كَرَّمنَا بنِي آدَمَ وحَمَلناهُم في البَّرِ والبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِن الطّيّباتِ وفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِير مّمَّن خَلَقنا تَفضِيلاً ) [ الإسراء : آية : 70 ] ، فلقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير ممن خلق ، كرمه بهيئته ، وتسويته ، وفطرته ، وخلافته في الأرض ، وبتسخير الكون له ، وكرمه بإعلان ذلك التكريم وتخليده في كتابه العزيز . ومن هنا ، فالإنسان مكرم له منزلته المحترمة ، وله كرامته المصونة المحترمة ، واليتيم له حق هذا التكريم، ومما يزيد في حق تكريم اليتيم ومن في حكمه الضعف الذي يعيشه .
ثمّ أعلم أخي الحبيب أن المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك متوادّ ،قال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم … الآية ) [ الفتح : آية : 29 ] ، وقال تعالى واصفاً المؤمنين : ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وتَوَاصَوا بِالصَّبرِ وتَوَاصَوا بِالمَرحَمَةِ ) [ البلد : آية :17 ] ، ويصف الرسول المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد ، ففي الحديث أن رسول الله قال : ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) (رواه البخاري). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ( رواه البخاري) ، ولعظم قيمة التراحم عدّ رسول الله الذي لا يرحم البشر عموماً من الخاسرين ففي الحديث : ( خاب عبدٌ وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر ) ، ومن هذا الأس الذي يحث على التراحم،نجد ذلك الإقبال الكبير على كفالة اليتيم ورعايته بين أحضان أسر المسلمين على مر التاريخ ، وبخاصة أنهم يستشعرون قيمة عظيمة من قيم الإسلام وقاعدة أساسية في التعامل ، وهي إن جزاء الإحسان في الإسلام الإحسان بمثله ، قال الله تعالى : ( هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانَ ) [ الرحمن : 60 ] ، أي هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ، ونفع عبيده ، إلا أن يحسن خالقه إليه بالثواب الجزيل ، والفوز الكبير والعيش السليم. وفي الحديث أن رسول الله قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء …) (رواه مسلم).
وتنجلي حكمة التشريع ومتانة هذا الأس الذي تقوم عليه رعاية الأيتام من خلال تأمل هذه الآية الكريمة وربطها بالذي نحن بصدده ، قال تعالى : ( وليَخشَ الّذيِنَ لَو تَركُوا مِن خَلفِهِم ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيهِم فَليَتّقُوا اللَّه وليَقُولُوا قَولاً سَدِيداً ) [ النساء:آية:9]، فجعل كافل اليتيم اليوم إنما يعمل لنفسه لو ترك ذرية ضعافاً ، فإنه ستُعامل ذريته الضعاف بما عامل به ذرية غيره، فليعاملوا الأيتام الذين تحت أيديهم ، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم ، فكما تُحسن إلى اليتيم اليوم يُحسن إلى أيتامك في الغد ، وكما تدين تدان، فإن كان خيراً كان الخير بالخير والبادئ أكرم ، وإن كان شراً كان الشر بالشر والبادئ أظلم .
وليضمن الإسلام حق الأيتام في الرعاية والعناية نجد أنه قد حرص على جعل المجتمع المسلم متآزراً متعاوناً يشد بعضه بعضاً ، وذلك من خلال الحثَّ المتواصل لأفراده على خدمة بعضهم بعضاً، وتفريج كرب إخوانهم المسلمين ، وإدخال السرور على أنفسهم ، وكفّ ضيعتهم ، ورتَّب على ذلك الأجر الجزيل ، وعدَّه رسول الله من أفضل الأعمال ، فعن أبي هريرة أن رسول الله سُئل: أي العمل أفضل ؟ قال : ( أفضل العمل أن تُدخل على أخيك المؤمن سروراً أو تقضي عنه ديناً أو تطعمه خبزاً ) (رواه المنذري) . كما جعل عون الرجل لأخيه المسلم صدقة يتصدق بها عن نفسه في كل يوم ، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله قال: ( في ابن آدم ستون وثلاثمائة سُلامى أو عظم أو مفصل ، على كل واحد في كل يوم صدقة ، كل كلمة طيبة صدقة، وعون الرجل أخاه صدقة ) ( رواه البخاري في الأدب المفرد).
ويتواصل الحث من الرسول لأفراد المجتمع المسلم بأن يتعاونوا ويكونوا في خدمة بعضهم بعضاً ، والتساعد لقضاء حوائج بعضهم بعضاً ،ففي الحديث أن الرسول قال : ( … من كان في حاجة أخيه كان الله فـي حاجته ) (رواه مسلم) ، ويا له من عون للإنسان عندما يكون الله في حاجته ، و ذلك لا يتحقق إلا حينما يكون المسلم في حاجة أخيه لأي نوع من أنواع الحاجة .
ولقد وجَّه الرسول أمته إلى نفع الناس وإدخال السرور على أنفسهم وكشف كربهم ، وعدَّ مَن يفعل ذلك بأنه أحب الناس إلى الله ، فقال أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله – عز وجل – سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه كربه … ) (رواه الطبراني) ،ولا شك أن من أشد الكرب اليتم وما يستتبعه من ضعف وضرر وضياع إذا لم يتعهد ذلك اليتيم بالحفظ والرعاية .
فوائد كفالة الأيتام
وقد رتب الشرع جملة من الفوائد التي تتحقق لك وللمجتمع عند قيامك أو أحد أفراد المسلمين بكفالتهم ورعايتهم ومن هذه الفوائد :
(1) كفالة اليتيم من قبل المسلم تؤدي إلى مصاحبة الرسول في الجنة وكفى بذلك شرفاً وفخراً .
(2) كفالة اليتيم والإنفاق عليه وتربيته والعناية به تدل على طبع سليم وفطرة نقية وقلب رحوم .
(3) كفالة اليتيم والمسح على رأسه وتطييب خاطره تؤدي إلى ترقيق القلب وتزيل القسوة عنه .
(4) كفالة اليتيم تعود على صاحبها بالخير الجزيل والفضل العظيم في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة قال تعالى : ( هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانَ ) [الرحمن : 60 ] ، أي هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ، ونفع عبيده ، إلا أن يحسن خالقه إليه بالثواب الجزيل ، والفوز الكبير والعيش السليم في الدنيا والآخرة .
(5) كفالة اليتيم تساهم في بناء مجتمع سليمٍ خالٍ من الحقد والكراهية وتسود فيه روح المحبة والمودة قال : ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) (رواه البخاري).
(6) في إكرام اليتيم والقيام بأمره ورعايته والعناية به وكفالته إكرام لمن شارك الرسول في صفة اليتم، وفي هذا دليل على محبته .
(7) كفالة اليتيم تزكي مال المسلم وتطهره وتجعل هذا المال نعم الصاحب للمسلم .
(8) كفالة اليتيم من الأخلاق الحميدة التي أقرها الإسلام وأمتدح أهلها .
(9) في كفالة اليتيم بركة عظيمة تحل على الكافل ، وتزيد في رزقه ( ).
(10) كفالة اليتيم تجعل البيت الذي فيه اليتيم من خير البيوت كما قال : ( خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسَن إليه … ) .
(11) في كفالة اليتيم حفظ لذريتك من بعدك وقيام الآخرين بالإحسان إلى أيتامك قال تعالى : (وليَخشَ الّذيِنَ لَو تَركُوا مِن خَلفِهِم ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيهِم فَليَتّقُوا اللَّه وليَقُولُوا قَولاً سَدِيداً ) [ النساء:آية:9]، فكافل اليتيم اليوم إنما يعمل لنفسه لو ترك ذرية ضعافاً ، فكما تُحسن إلى اليتيم اليوم يُحسن إلى أيتامك في الغد ، وكما تدين تدان .
وبكل حال أخي الحبيب لا يمكن أن تستشعر هذه الفوائد الدنيوية المترتبة على كفالة اليتيم ، وجعله يعيش في كنف أسرتك إلا بعد التطبيق العملي لهذا المشروع الخيّر وقيامك بكفالة أحد الأيتام ، وستجد الخير كل الخير في الدنيا وفي الآخرة بإذن الله .
حقوق اليتيم في الإسلام
لقد اهتم التشريع الإسلامي بأمر الأيتام ومن في حكمهم من الأطفال اللقطاء أو مجهولي الأب ، وأحاطهم بالرعاية ،وأقر لهم من الحقوق ما يضمن لهم حياة كريمة واستقراراً نفسيا واجتماعيا ، وسنورد بعض الحقوق التي كفلها الإسلام للأطفال بشكل عام ، وللطفل اليتيم ومن في حكمه بشكل أخص ، ذلك أنه قد تهمل هذه الحقوق وتهضم حقوقه عند فقد أبيه أو عدم معرفة والديه ولا يجد من يطالب له بها .
1 ) حق الحياة :
وهذا الحق من أبرز ما كفله التشريع الإسلامي للطفل ، حيث كان وأد البنات منتشراً في الجاهلية خشية العار ، إضافة إلى قتل الأولاد خوفاً من العيلة والفقر ، فحرم الإسلام ذلك وشدد عليه ، قال تعالى : { ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيَةَ إملاقٍ نحنُ نَرزُقُهُم وإيّاكُم إنّ قَتلَهُم كَانَ خِطئاً كبيراً } [ الإسراء : أية 31 ] ، وروى البخاري – يرحمه الله – أن رسول الله سئل أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، قلت : إن ذلك لعظيم . قلت : ثمّ أي ؟ قال : ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك . قلت : ثم أي . قال : ثم أن تزاني بحليلة جارك ) ) ( رواه البخاري ) . كما أخرج البخاري أيضاً عن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قال النبي : ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات ،وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) ( رواه البخاري ) .
وبهذه التوجيهات قرر الإسلام حقاً ثابتاً للطفل وهو حقه في الحياة ، لا يحل انتهاكه بأي شكل من الأشكال ، وبخاصة للطفل اليتيم أو اللقيط ، بل هذا الحق متقرر لمن كان مجهول النسب بشكل أكبر .
2 ) حق النسب :
بعد أن ضمن التشريع الإسلامي للطفل الحق في الحياة ، ضمن له الحق في النسب والانتساب لأبيه، حتى لا يكون عرضة للجهالة ، ومن ثمَّ ضياع حقوق أخرى مثل الإنفاق والإرث ، فيقرر الله عز وجل ذلك في قوله : ( أدعوهم لآبَائِهِم هُوَ أَقسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإن لَّم تَعلَمُوا آبَاءهُم فَإخوَانُكُم في الدِينِ وَمَوَالِيكُم ) [ الأحزاب : آية5 ]، كما حرم الإسلام التلاعب بالأنساب ، أو محاولة انتساب الطفل لغير أبيه ، ورتب على ذلك العقاب الشديد ، فلقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) ( رواه البخاري ) . وبذلك ضمن الإسلام للطفل يتيماً كان أو غيره انتساباً لأب والتصاقاً بفئة ينتمي إليها ، ولم يتركه هملاً مجهولاً في المجتمع .
كما قرر التشريع الإسلامي للطفل حق الانتساب ، فإن الرسول وجه باختيار الاسم المناسب للطفل ، فدلنا على الأسماء المحببة إلى الله مثل: عبد الله وعبد الرحمن وكذلك أسماء الأنبياء ، كما أرشدنا إلى ترك بعض الأسماء غير المناسبة مثل : يسار ، وحزن ، وعاصية ، وبره .
3 ) حق الرضاعة :
ويُعَدُّ هذا هو الحق الثالث للطفل في تسلسله في الحياة ، فلقد أوجب الإسلام على الأمهات إرضاع أولادهن ، قال تعالى : ( وَالوَالدِاتُ يُرضِعنَ أَولاَدَهُنَّ حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَن أَرَادَ أن يُتمَّ الرَّضَاعَة ) [ البقرة : آية : 232 ] ، ولقد أجمع الفقهاء على وجوب إرضاع الطفل ما دام في حاجة إليه وهو في سن الرضاع ، مع اختلاف بين الفقهاء في وجوبه على من يكون ؟.
4 ) حق النفقة :
وهذا الحق من الحقوق المقرر للأبناء على الآباء في التشريع الإسلامي وقد أجـمع الفقهاء على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم ، لأن ولد الإنسان بعضه ، وهو بعض والده ، كما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله ، كذلك على بعضه وأصله ، قال تعالى : ( ليُنفِق ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيه رِزقُهُ فَليُنفِق مِمَّا آتهُ اللَّهُ لا يُكلّفُ اللَّهّ نفساً إلا ما آتَاها سَيَجعلُ اللَّهُ بَعدَ عُسرٍ يُسرا ) [ الطلاق : آية 7 ] كما عدَّ الرســـول النفقة على الأبناء والأهل خير نفقة ينفقها الرجل ، فعن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله : ( أفضل دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله ، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ) ، قال أبو قلابة – أحد رواة الحديث – وبدأ بالعيال ، وأي رجل أعظم من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم (رواه مسلم) .
والنفقة الواجبة كما يعرفها الفقهاء هي : كفاية من يمونه خبز وإداماً ، وكسوة ومسكناً وتوابعها ، كما تشتمل النفقة الرضاع والحضانة والعلاج والمصاريف المدرسية وغيرها من الأمور اللازمة . وذلك أخذاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ترويه عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : ( جاءت هند إلى النبي فقالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم . فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) (رواه مسلم) .
وإذا مات الأب أو كان في حكم المعدم غير القادر على الكسب ، فتكون النفقة على كل الذين يرثونه على قدر إرثهم لو مات هو ، فإن تعذر ذلك فعلى بيت مال المسلمين بما يقدمه من مساعدات نقدية ، أو من خلال الدور الإيوائية والمؤسسات الاجتماعية .
5 ) حق الولاية :
وهذا الحق للأطفال ، وبخاصة للأيتام ومن في حكمهم من اللقطاء مقرر من ثلاثة أوجه هي :
– ولاية الحضانة .
– ولاية النفس .
– ولاية المال .
فولاية الحضانة يكون الدور فيها للنساء ، وهي تربية الطفل ورعايته في الفترة التي لا يستغني فيها الطفل عن النساء ، والنساء أحق بحضانة الطفل ، وهذا ما يتفق عليه الفقهاء ، مع تقديم الأم في حق الحضانة لطفلها دون ما سواها من النساء متى ما توافرت فيها شروط أهلية الحضانة ، وذلك أخذاً من الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهم – أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن المرأة أحق بولدها ما لم تتزوج ) (رواه أحمد) . أما وقت الحضانة : فيكون من ولادة الطفل إلى بلوغه السن التي يستغني فيها عن النساء ، ذلك بأن يستطيع أن يأكل ويشرب ويلبس بنفسه ، إلا أن بعض الفقهاء قدرها بسبع سنين ، وقدرها بعضهم بتسع سنين . وإن لم يكن للطفل أحد من الأقارب فالسلطان وليه وله الحق في إسناد رعايته إلى من يقوم بحفظه ، وإلا انتقل الواجب على الدولة من خلال الدور الإيوائية أو المؤسسات .
أما ولاية النفس فالمقصود بها التأديب والتربية ، والتوجيه ، والإرشاد بعد انتهاء فترة الحضانة ، وهذه الولاية خاصة بالرجال دون النساء ، لما جبل الله الرجال عليه من القوة والقدرة والشدة أكثر من النساء ، ولقد حث الله – عز وجل – الآباء على القيام بتربية أولادهم في قوله تعالى : ( يا أيُهَا الذِينَ آمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ ) [ التحريم : آية : 6 ] ، كما ألزم الرسول كل راعٍ بالعناية بمن تحت يده ، ففي الحديث أن رسول الله قال : ( كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته ، والإمام راعٍ ومسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راعٍ ومسئول عن رعيته ) (رواه البخاري)، وعلى ذلك فإنه يلزم الولي والقائم على أمر الطفل واليتيم أن يتعاهده بالحفظ والصيانة والتعليم والتربية والتأديب والإرشاد .
أما الولاية على المال فتقتضي المحافظة على أموال الطفل اليتيم بخاصة لكونه عديم التجربة في الحياة، ولم يكتمل بعد بناؤه الجسمي والاجتماعي والنفسي ،والعقلي ، فلو تركت له حرية التصرف في ماله فقد يضيعه في شهواته ونزواته وحماقته وجهله ، وعندما يبلغ ويصبح رشيداً لا يجده وهو في أمس الحاجة إليه )) . والولي الذي له حق القوامة على مال اليتيم ، هو الوصي من قبل الأب، وإذا لم يكن ثمة وصي فعلى ولي الأمر أن يعين من يثق في أمانته ودينه وحفظه للمال ، حيث يلزمه المحافظة على أموال اليتيم ، واستثمارها وإخراج الزكاة عنها ، وبعد ذلك إعادتها له عند الرشد .
6 ) حق الرحمة :
وهذا الحق يستحقه اليتيم على أساس أنه صغير لم يرشد بعد ، ففي التشريع الإسلامي توجيهات متواصلة برحمة الصغير والعطف عليه والأخذ بيده ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: ( من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا فليس منا ) ( رواه البخاري ) . ولقد تعجب الرسول من الصحابي الأقرع بن حابس التميمي عندما قال للرسول : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، وذلك عندما رأى الرسول يقبل الحسن بن علي – رضي الله عنه – ، فقال له رسول الله : ( من لا يَرْحَم لا يُرْحم ) ( رواه البخاري ) . وكل هذه التوجيهات من الإسلام برحمة الصغير ، يُهدف من ورائها تعزيز هذا الشعور لديه ، وملؤه به ليفيض به عندما يكبر ، فمن المعروف أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فلو حُرم الطفل اليتيم من الرحمة فلن يجود بها إذا كبر لحرمانه منها في الصغر، ولقد أثبت علماء التربية والنفس والاجتماع أن عادات الأهل وطباعهم ومسالكهم في الحياة تنتقل إلى الأبناء بحكم التنشئة والتربية والمحاكاة .
وبالتوفيق=$
بالتوفيق
شكراً لج ,,
وفقكِ الله وسدد خطآكِ ,,