السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
انحراف الشخصية
لكل شيء واقع، وقد يكون ذلك الواقع ذا مصاديق فالكلي واقع، والجزئيات مصاديق متساوية بالنسبة إلى ذلك الواقع الكلي، مثلاً: الواقع بالنسبة إلى الأمة أن تصرف مالها في تقدمها، لكن هذا التقدم يمكن أن يكون في سبيل تكثير الزراعة، ويمكن أن يكون في سبيل تكثير الصناعة ـ إذا لم يكن أحدهما أهم ـ والواقع لا يختلف في أمة عن أمة، وإنما الاختلاف في أمرين:
1 ـ أخذ إحداهما مصداقاً، والأخرى مصداقاً آخر.
2 ـ استقامة إحداهما وانحراف الأخرى، وقد تكون كلتاهما في انحراف إذ الواقع واحد والانحراف كثير.
ثم إذا خالف الفرد الاجتماع في مسيره:
1 ـ فإن كانت المخالفة عابرة لم يعتن الاجتماع بخلافه.
2 ـ أما إذا كانت المخالفة مستمرة سمي المخالف [منحرفاً].
الانحراف ليس قدراً
وقد كان في القرون الوسطى، وجماعة من المسلمين في حاشية الخلفاء ينظرون إلى الانحراف، كأنه قدر محتوم وقضاء لازم، ويضمون إلى ذلك أن القضاء والقدر لا تبديل له، وكانوا يؤيدون ذلك بآيات وروايات خصوصاً إذا كان المخالف المنحرف من طبقة الحكام فكان من أسباب ذلك طبع أذهان جماعة من العامة على أن المستقبل بيد الله فلا يمكن تغييره عما كتب، حتى قال شاعر هم:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيّان التحرك والسكون
بل أبعد النزع بعضهم، حيث قال في أشعار له:
[إني أشرب الخمر وكل من كان مثلي في التأهل العلمي]
[رأى في شربي اـلخمر أمراً سهلاً]
[وذلك لأن الله كان يعلم شربي للخمر]
[فإذا لم أشرب تبدل علم الله جهلاً]
فالمستقبل، بل وكل عمل الإنسان تقدير لابد منه، وإلى مثل هذا التفكر يعزى كثير من تأخر المسلمين، حيث منع ذلك عن التخطيط للمستقبل.
بينما كان الإسلام أمر بالعكس من إعداد العدة، وبعد المدى، قال سبحانه: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة)(1).
ووصف علياً عليه السلام بعض أصحابه فقال: (كان بعيد المدى)(2).
وقد أجاب بعض العلماء ذلك الشاعر قائلاً:
[إن هذا الكلام لا يقوله من كان من أهل العلم]
[إذ جواب كلامه سهل]
[فإن جعل علم الله تعالى علة للعصيان]
[في غاية الجهل عند العقلاء]
بل كان عند بعض الأقوام بعض الانحرافات الناشئة عن المرض [كالصرع] علامة السيادة والكبر، حتى كان بعض الانتهازيين يتصنع الصرع ليحوز هذا المقام.
انحراف الحكام
أما انحراف الحكام فقد كان مما لا مردّ له، إذ الشرعية كانت تستمد من مصادر ثلاثة:
1 ـ الوراثة كما كان خلفاء بني أمية والعباس وعثمان يصلون إلى الحكم من هذا الطريق [في غير رئيس السلسلة] ومثل هذه الشرعية باقية إلى الآن في بعض بلاد الإسلام.
2 ـ الثورة حيث أن الذي قدر أن يجمع السلاح والرجال كان يثور، فإذا استولى كانت له الشرعية، كما في أول كل سلسلة من غالب الحكام الوراثيين.
ومن الواضح، أن السند لو كان الإرث، أو السلاح كانت النتيجة تسلم المنحرفين اريكة الحكم، وبعد ذلك يفعلون ما يشاؤون، حتى أن بعضهم كان يخاطب:
[ما شاءت لا ما شاءت الأقدار] [فاحكم فأنت الواحد القهار]
ويقال في آخر: (والآن صرت إلى أمية والأمور لها مصاير).
3 ـ أما الأمر المشروع الذي قاله الإسلام، والمع إليه العقل، فهو الحكم الانتخابي، لمن له المؤهلات، ثم يعزل بمجرد أن فقد ولو مؤهلاً وآخذاً من تلك المؤهلات، قال سبحانه: (أمرهم شورى)(3) وقال عليه السلام: (أن يختاروا) كما ذكرنا تفصيله في كتابي: [السياسة، والحكم].
لا… لفردية الحكام
ثم إذا توفرت المؤهلات، وانتخب الحاكم، فالقرار لا يمكن أن يصدره الحاكم بمفرده، ولا مع جماعة من الأفراد، بل بتعديل من مراكز القوى التي هي عبارة عن خيرة الشعب الذين اختاروا الحاكم، فإن الدولة ليست لعبة صماء، تتحرك في الفراغ وتعمل حسب أهوائها وشهواتها، ومنافعها، وإنما هي كائن حي مرتبط بجميع أفراد الأمة بوجه أو بآخر، تتفق تلك المراكز بعضها مع بعض في المصلحة، وتتعارض بعضها مع بعض مما يتقدم في الرأي أكثرهم في المؤهلات.
ولذا قالوا لا يوجد في السياسة صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل ملاحظة الأصلح الدائم، وهذا ما يسمى في الفقه بقاعدة الأهم والمهم، والسلطة قمة عالية جداً ضيقة، مليئة أطرافها بالأشواك والحبائل والفخاخ، فلا ينالها إلا الأقوى الأصلح الأكثر حزماً، وبمجرد أن نالها تتحرك القوى المناوئة والصديقة ضدها، الأولى لإسقاطها، والثاني لتحريفها حتى تستفيد منها أكبر قدر من الاستفادة، فأي خطأ في محاربة الأولى، ومحاباة الثانية، توجب الإسقاط المفضوح، ولذا كانت السلطة، قبل الوصول إليها ثم البقاء فيها بحاجة إلى القوة والصلاح والحزم.
ولهذا السبب [البقاء لا يكون إلا بالتوازن بين مراكز القوى] يكون الانحراف في السلطة ـ بعد الوصول ـ مساوقاً للسقوط، كما كان الوصول إليها من المنحرف يساوق الاستحالة:
1 ـ فالإحساس الشخصي بأن القرار ضرورة.
2 ـ والانفعال الشخصي والإيحاء الذاتي.
3 ـ وصداقة الحاكم مع شخص أو جهة في إصداره القرار وعدم إصداره أو عداوته كذلك في إصدار القرار أو عدم إصداره.
4 ـ وإعلان الحرب والسلام والمعاهدة وشروط أيهما بمجرد رأي الحاكم.
5 ـ والاعتباطية في الصداقة والعداوة لأنها تابعة لمزاج الحاكم وكذلك الاعتباطية في إبقاء الصديق صديقاً والعدو عدواً.
6 ـ وتبدل الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك بتبدل الحاكم ـ بل وحتى بتبدل أنظمة الحكم ـ إلى غير ذلك.
لا يمكن أن يكون المبرر للقرار والعمل للقمة… إن هذه الأمور وإن كان يعملها الوارث للسلطة، إذا كان منحرفاً، أو الحاكم الذي أتى بالانقلاب العسكري، إلا أن ذلك يوجب تزلزل حكمه والانجرار العام حتى السقوط المشين، بالعكس من الحكم الانتخابي حيث لا يجد الانحراف إليه سبيلاً، وإنما ينزل عن كرسي الحكم إذا انتهت مدته ويكون حاله بعد السلطة كحاله قبلها ـ بتفاوت ـ إلا إذا انحرف حيث يكون حاله حال الانقلابي والوراثي يسقط بفضيحة.
موقف المجتمع من الانحراف
وكيف كان (فانحراف الشخصية):
1 ـ قد يكون انحرافاً ملائماً للاجتماع، حيث يراه الاجتماع انحرافاً لكنه يرى أنه لابد من مثله، بل قد يوضع القانون لأجله، من جهة أن الاجتماع يرى جعل المنحرف في دائرة خاصة أفضل من تسييبه، مثل عادة شرب المسكر أو استعمال المخدر، أو إجازة الشذوذ الجنسي في كلا الجنسين، وما أشبه [هذا وإن كان في الإسلام خطاءاً كبيراً، ويرى الإسلام منعه أهم من النفع المتوهم له، وقد قال سبحانه: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(4)..] إلا أن جملة من الأمم لم تدرك أهمية الترك، أو أدركت ولكن لا علاج لها، حيث ليس لديها دين يدخل القلب فيكون الامتناع تلقائياً، ولذا أجازت مثل هذه الانحرافات.
ب ـ وقد يكون انحرافاً غير ملائم، وهذا هو الانحراف الذي يقف الاجتماع دون ظهوره، وإذا ظهر حاول تقويمه، سواء كان المنحرف يراه انحرافاً، لكنه لا يقدر على إزالته، أو لا يراه انحرافاً، مثل الذي له عقدة الحقارة، حيث أن بعضهم لا يرونها سيئة، وبعضهم يرونها سيئة، لكنهم يرون عدم قدرتهم على إزالتها.
مثلهما في ذلك مثل من يرى أن أربعة في أربعة يعادل عشرين، ومن يرى أنه يعادل ستة عشر لكنه يتأذى من ذلك، وفي المثال الإسلامي ـ ولا مناقشة في أنه عكس الممثل له ـ قد يرى غير المسلم أن محمداً صلى الله عليه وآله ليس بنبي وقد يراه نبياً لكنه يتأذى من ذلك، وقد قال سبحانه: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)(5).
عوامل الانحراف
ثم إن الانحراف:
1 ـ قد يكون بالوراثة، فإن الانحراف في الآباء، يرثه الأبناء، فالولد سر أبيه، كما أن الولد يشبه العم والخال، إلى غير ذلك ـ مما حقق في علم الوراثة ـ لكن الإرث لا يكون علة تامة، بل أمر اقتضائي، ولذا لا ينافي التكليف كما قرر في علم الكلام.
وهذا الانحراف الوراثي، إن أمده الاجتماع قوي الانحراف، وإلا بقي على حاله، إلا إذا كان الاجتماع صالحاً، حيث يتمكن من تقليله، وأحياناً من إزالته… فمثلاً: الرجل السيء الخلق، إن كانت له زوجة حسنة الخلق، نزل الرجل عن غلوائه بنسبة في المائة، أما إذا كانت له امرأة سيئة الخلق، بقي على سوء خلقه، إن لم تزده سوءاً على سوء، وكذلك حال المعلم والمدير، والموظف ورئيسه، والأولاد والوالدين.
2 ـ وقد يكون بالعرض، وهو على ضربين:
أ ـ فقد يكون بسبب المعاناة في الصغر مثل تحقير الأولاد في البيت، أو المدرسة، أو في محل لعبه أو ما أشبه ذلك، أو تدليل الأولاد أكثر من القدر المعتاد أو إبعاده عن الاجتماع، أو جعله في اجتماع سيء، أو ما أشبه ذلك؛ فإن أمثال هذه الأمور تجعل الأولاد عرضة للانحراف بعقدة الحقارة، أو بالخمول أو بالنشاط المحرم، أو بما أشبه ذلك.
فإن حال النفس حال الجسم: كما أنه إذا ربّي الولد بعيداً عن مختلف الأغذية، والمناخاة الطبيعية أوجب انحراف صحته الجسدية، كذلك إذا ربي في جو غير ملائم للنفس أوجب انحراف صحته النفسية.
ب ـ وقد يكون بسبب عدم ملائمة ظروف الحياة، مثل الفقر، أو الحرمان وحالة الفوضى والحرب، والخصومات، والمنازعات مع المنافسين، والفشل في الحياة، والسجن ـ خصوصاً الانفرادي منه ـ والكبت، والمصيبة، وبالأخص إذا منع من التنفيس عن كبته ببكاء أو سفر أو سياحة أو رياضة أو ما أشبه ذلك، مما يوجب تنظيف النفس من المشاعر السوداء، والدين الذي يتراكم عليها من الأمور السابقة الذكر.
ولعل من أسباب جعل الإسلام إطلاق السجناء في أيام الجمع والأعياد لأجل الصلاة، وعدم منع عائلة السجين عن ملاقاته، بل وبقائهم معه ـ حيث لا دليل على منع ذلك ـ هو أن لا تتوفر الظروف السيئة حوله، حتى يوجب انحراف شخصيته… كما أن من ذلك أيضاً إباحته البكاء على الميت وغير ذلك مما تزخر به الأحاديث الواردة من المعصومين عليهم السلام في أمثال هذه الشؤون وقاية وعلاجاً.
وإذا كان للإنسان أرضية وراثية، أو أرضية من زمان صغره للاختلال النفسي أسرع إليه الاختلال بمجرّد حصول الظروف الملائمة لذلك الاختلال.
تأثير المجتمع في الانحراف والاستقامة
ثم الاجتماع كلما كان أكثر انغلاقاً، كان أخصب لرشد الانحراف كما أنه كلما كان أكثر حرية صحيحة كان أخصب لرشد الاستقامة… هذا من جهة، ومن جهة ثانية ـ كلما بني الاجتماع على إعطاء الحاجات، وتوفرت فيه وسائل الحياة كان أبعد عن تكوين الانحراف، والعكس بالعكس، ولذا أكد الإسلام على إعطاء حاجات الجسد، ومنع عن الكبت.
ففي الحديث: (لجسدك عليك حقاً)(6).
وقال النبي صلى الله عليه وآله لمن رآه قد أنهكته العبادة: (إن هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)(7) إلى غيرها من الأحاديث.
والاجتماع بكلتا حالتيه العادية وغير العادية، يوجب الانحرافات المختلفة مثلاً: في الحالة العادية، الريف لسكّانه يوجب قسماً من الأمراض الروحية، أما المدينة المزدحمة فتوجد مرض توتر الأعصاب والقلق والحالة السبعية والاندفاع في بعض، وبالعكس يوجب الانعزال والانقطاع عن الاجتماع لبعض آخر.
أما الحالات غير العادية للاجتماع، مثل الحرب، بل والذين يتصدون الحرب كالجنود، فهي سبب انحرافات من قسم آخر.
1 ـ فالتغيير الفجائي في الحرب يوجب صدمة الأعصاب، بما لا يتحمله بعض، فيوجب فيه أمراضاً نفسانية، وانحرافاً في الروح مما يؤثر أثره على العمل.
2 ـ والجندي حيث يضطر إلى الانضباط والأعمال الصعبة التدريبية ونحوها، تتحول حالته العادية، إلى حالة غير طبيعية، مما يوجب صدمة روحية له توجب انحرافه.
الكبت والأمراض النفسية
3 ـ ثم إن الكبت النفسي الذي يضطر إليه الجنود، بعدم البكاء، وعدم إظهار الخوف، وعدم الشكاية وما أشبه ـ حيث أن مثل ذلك مما يعاب به في كثير من الأعراف ـ يوجب أمراضاً نفسية وانحرافاً، هي من ولائد الكبت والانغلاق ولذا جعل بعض الحكومات من نظام الجيش التنفس عن الكبت بالأمور السابقة وإظهاره عواطفه حتى لا تقوى نفس الجنود، ولا يسبب ذلك أمراضه النفسية وانحرافه.
ومن هذا المنطلق يتعارف عند الناس، أنه إذا أصيب شخص بعزيز له أو بمال أو بآفة كقطع يد، أو قلع عين ـ في عملية جراحية ـ أو ما أشبه، أن يأمروه بالبكاء، أو بالشكاية ببث الأشجان، وبالانصراف عن القيود الانضباط كما أن العرف يصرون عليه بالسفر أو تغيير المنزل ـ في من مات عزيزه ـ حتى يصبح فؤاده فارغاً، ولا يكون له ما يذكره بما فجع به، بالإضافة إلى أمره بالصبر، فقد ورد في الحديث: (من عزّى مصاباً كان له مثل أجره)(8) و (من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة)(9).
وقد لخص جملة من علماء الاجتماع، أسباب الانحراف في:
1 ـ عدم استقامة العائلة.
2 ـ الحرمان.
3 ـ تناقضات الاجتماع.
العائلة… وانحراف الشخصية
1 ـ فعدم استقامة العائلة عبارة عن عدم سلامة وأمن البيت الذي يربى فيه الأولاد، إما بالكبت، أو بالتنازع، أو بالمزيد من العطف، فإن كل ذلك يوجب عدم استقامة النفس مما ينتهي بالآخرة إلى الانحرافات الروحية، قالوا: ولذا نجد كثرة الانحرافات النفسية عند الأيرلنديين لتشديد الأمهات في تربية أولادهم، وعند اليهود لتكثير الأمهات من العطف، واللطف بأولادهم، وعند الإيطاليين لتشديد الآباء على الأولاد، وعند جماعة من الأمريكيين لكثرة المنازعات بين الأخوة والأخوات.
وفي كثير من البلاد الغربية يقع الأولاد أوائل بلوغهم بين تناقض متطلبات العائلة منهم، مثلاً: من ناحية يريد الأبوان من البالغين الاستقلال في إدارة أمورهم الاقتصادية وغيرها، بل وحتى الجنسية، ومن ناحية أخرى يربطون الأولاد بالبيت وبالطاعة للأبوين والكبراء، ومن الطبيعي أن يقع التناقض بين الاستقلال واللا استقلال.
وكذلك الحال يكون مع الأولاد الذين يريد الآباء منهم الطاعة، ولا يقومون بكل حوائجهم ولو عدم تزويجهم، وبذلك يحدث الانفصام والعقد النفسية، فاللازم إما إعطاء الحاجة ـ ولو النواقص منها ـ في قبال الطاعة وإما ترك الأولاد ليقوموا بحوائج أنفسهم باستقلال من غير تطلب الطاعة منهم.
فالطاعة لا تكون إلا في قبال إعطاء الحاجة، فإذا اختل الميزان اختلت الصحة النفسية بما أوجب الانحراف، وهذه هي حالة الحكومات في قبال الشعوب، فاللازم إما إعطاء حاجاتهم في قبال تطلب الطاعة منهم، وإما تركهم وشأنهم لتحصيل حاجاتهم بأنفسهم بدون تطلب الطاعة، وإنما يكون شأن الحكومة حينئذ شأن المراقب لئلا يطغى بعضهم على بعض.
وفي بعض الأمم يتجلى التضاد في العائلة بمظاهر أخر، مثلاً: الأب يريد المجازاة للمسيء من الأولاد، لكن الأم تمنع ذلك، فيقع الطفل بين هذين النقيضين، أو يريد الأب إنهاء الدراسة للأولاد ليساعدوه في عمله ومزرعته، وتريد الأم عكس ذلك، أو تريد الأم زواج البنت، ويريد الأب عدم زواجها لأجل خدمة البيت، أو غير ذلك.
ولون آخر من ألوان التضاد، تسييب الأولاد في الدار، وإرادة الانضباط منهم لدى الذهاب إلى السفر، أو إلى الضيافة؛ أو عند حلول الضيف لديهم.
والحاصل: أنه كلما يوجب الازدواجية يوجب انفصام الشخصية مما ينجر بالآخرة إلى الأمراض والعقد النفسية… وحيث أن النفس والجسم يتبادلان المرض، ولذا قيل: (العقل الصحيح في الجسم الصحيح) فإذا مرضت النفس وتعقدت أوجبت بالإضافة إلى انحراف خط سير الحياة للمريض ولمن يرتبط به، تأثير المرض النفسي إلى جسمه.
ولذا اعتاد علماء الطب [النفسي الجسمي] فحص صور المرض الجسمي في النفس، فإن لم يوجد هناك مرض، استوجده في الأعضاء، والأجهزة البدنية.
دور الحرمان في الانحراف
2 ـ أما دور الحرمان فهو كبير في خلق الانحراف، فإنه يؤثر في الانحراف من جهتين:
(الأولى) أن الحرمان يؤثر على الجسم نقصاً في جهاز من الأجهزة، سواء كان بسبب سوء التغذية، أو بسبب عدم الوقاية من الحر والبرد، أو بسبب عدم وسائل الصحة في الماء والهواء، أو بسبب عدم الدواء… فيؤثر الاختلال الجسمي في الاختلال النفسي ـ كما تقدم وجهه.
ولذا نرى في البلاد ذات الاختلاف الطبقي تبتلي الطبقة الفقيرة بأمراض النفس مما لا يوجد مثل ذلك في الطبقة الغنية، ويعرف ذلك جلياً في الأحياء السكنية الفقيرة والغنية.
فالحياء السكنية الفقيرة، كما تكثر فيها الأمراض والأسقام الجسمية، كذلك تكثر فيها الأمراض النفسية والانحرافات الروحية، بخلاف الأحياء السكنية الغنية، وإذا ارتاد الإنسان المستشفيات، والمصحات العقلية، ودور المجانين يجد أن نسبة من فيها من الفقراء أكثر بكثير من نسبة من فيها من الأغنياء.
ومن أجل ذلك يكون المبتلى بالانحراف النفسي أكثر بكثير، في العوانس والأرامل، والأيتام والنساء اللاتي طلقن، والرجال الذين طلقوا زوجاتهم، من غير هؤلاء، كالنساء والرجال ذي الأزواج، والذين لم يصلوا مبلغ الزواج من الصنفين، والأولاد الذين لم يصابوا بفقد أحد الأبوين.
تناقضات المجتمع تزرع الانحراف
3 ـ أما تناقضات الاجتماع، فهي الأخرى توجب الانحراف، حيث يقع الفرد بين جهتين متضادتين، ويسبب ذلك انفصام شخصيته واختلالاً في داخله يجره إلى الانحراف، مثل ما إذا وقع الاجتماع بين كماشتي الثقافة القديمة، والثقافة الجديدة، أو وقع الفرد بين التضاد الثقافي، لأن ثقافته الاجتماعية توجب شيئاً، وثقافته الحزبية أو ما أشبه توجب شيئاً آخر، وكما إذا أمره دينه بشيء واجتماعه بشيء آخر.
ولذا نجد الانحراف في البلاد الإسلامية بكثرة بعد أن غزتها الثقافات الدخيلة ونرى من يفرط في شرب الخمر بما لا يفعل مثله زميله في بلاد المستعمر، إلى جانب من يفرط في التطهير إلى حد الوسوسة، بما لم يأمر به الإسلام، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقد نعى جماعة من علماء الأخلاق في الغرب، تحطم الاجتماع الغربي من جهة التناقضات السائدة في تلك البلاد، لأن الاجتماع يدعوا الفرد من ناحية إلى حب الإنسان وخدمته ومراعاة حقوقه، ومن ناحية إلى حب الشهرة وجمع المال وتطلب المزيد من الربح، وكذلك يدعوه تارة إلى الرؤية المستقبلية والوعي والرشد الفكري، وتارة إلى حقائق مقبولة بواسطة الدعايات الملتوية في الإذاعات والصحف وغيرها، وهكذا يزيد تارة من حاجاته الاقتصادية بسبب المنتجات الاقتصادية الجديدة ذات الجمال والبريق، ثم لا يهيء له الوسائل الكافية، والإمكانات لاحتواء تلك الحاجات، وكذلك في أمر الإسلام والحرب والاستعمار والتحرر، بينما السلام هو ظاهر دعاياتهم والتحرر هو مدعاهم، يعملون ليل نهار للحرب، وللاستعمار الأكثر فالأكثر.
حربة الاستعمار تصيب حامليها
وينبغي هنا أن ننوه إلى حقيقة هي أن الإنسان لا يمكن أن يكون على شاكلتين ـ إلا إذا كان مريضاً منفصم الشخصية ـ قال سبحانه: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(10) والشاكلة الواحدة لا تأتي إلا بالعمل الواحد المشابه لتلك الشاكلة.
(قل كل يعمل على شاكلته)(11) ولذا عادت أضرار استعمار البلاد ونيران حروبها إلى أنفسها بمثل ما رجعت إلى البلاد المستعمرة والمحاربة، ولكن بصورة مختلفة ـ وإن كان المغزى واحداً ـ.
فالحالة الاستعمارية في تلك البلاد سببت:
1 ـ استعمار دولها لشعوبها، كما استعمرت تل الدول البلاد المستعمرة وقد صدقت الحكمة القائلة: (من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتى ينزع من معونته)(12) وما ورد من أنه: (كما تدين تدان)(13) فإن حالة الظلم إذا وجدت في إنسان لم يهتم أن يظلم عدوه أو صديقه، وفي المثل الإسلامي، أن هارون كما قتل موسى بن جعفر عليه السلام قتل البرامكة الذين ساعدوه على ظلمه.
2 ـ المؤامرة الدائمة من بعضهم ضد بعض، بما لا تدع لهم راحة فهم في ضيق البلاد المستعمرة، وإن لم يكن من جهة الاستعمار الظاهر، وقد قال سبحانه (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) (14).
كما أن حروبهم لأجل الاستعمار أورثت لهم بالإضافة إلى كره الأمم المحاربة لهم، والحروب البادرة بينهم، حربين عالميتين كانت كل حرب منهما تساوي القدر الذي حاربوه مع الأمم الضعيفة، قبل تلك الحرب إن لم تكن أكثر، وقد يجتمع هذه الحروب التي أشعلوها ضد الأمم ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ لتنفجر ضدهم في حرب عالمية ثالثة.
شروط عقاب المنحرف
المنحرف يجب أن يعاقب بعد ملاحظة أربعة أمور:
1 ـ الجريمة.
2 ـ والمجرم.
3 ـ والاجتماع.
4 ـ والصلاح.
فمثلاً: هل حجم الجريمة زنا محصن، أو زنا غير محصن؟ وهل المجرم غير بالغ ليؤدب، أو بالغ ليحد؟ وهل الاجتماع صالح حتى يكون المنحرف خارقاً للصلاح العام؟
قال سبحانه: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)(15).
أو الاجتماع غير الصالح حتى يكون المنحرف خارقاً للقانون لا للصلاح العام، وقد قال صلى الله عليه وآله: (ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل، لأنه في أسوء من السحر)(16) ولم يكن جزاء السارق في المخمصة قطع اليد، وبعد تلك الأمور يأتي دور الأهم والمهم، وهل أن الصلاح العقوبة أو تركها أو قدر منها؟
قال الله تعالى: (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث)(17).
وجعل الإسلام الصلح سيد الأحكام، وقال تعالى: (والصلح خير)(18) حتى لا يستفز الحق أحد الطرفين ويهيء الأرضية للانحراف، وقد عزل علي عليه السلام أبا الأسود الدؤلي [قاضيه] فقال له: لم عزلتني يا أمير المؤمنين، وما خنت ولا جنيت؟ قال عليه السلام: (نعم ولكن يعلو صوتك صوت الخصمين…)(19) فلماذا الصياح من القاضي؟ فإن اللازم عليه أن يحكم حسب ما يراه من الحق وذلك ممكن بصوت خافت، أما ما عداه فإنه يزرع الحقد، ويهيء الأرضية للانحراف.
وقد عفا علي عليه السلام عن شاب سارق، قال له: ماذا تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة، قال عليه السلام: (عفوت عنك لسورة البقرة…) وعفا عن لائط بعد أن تاب واستعد لتقبل العقاب… وأنّب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أرجعوا ماعزاً إلى الحفرة حتى رجم فمات، وأوداه من بيت المال، إلى غيرها من القصص التي تعير مسألة كون [العقوبة حسب الجريمة، أو حسب المجرم] وكون [الاجتماع، والصلاح] يتدخلان في الأمر.
كيف يعالج الانحراف؟
وعلى أي حال، فالمهم في باب الانحراف:
1 ـ العلاج.
2 ـ وإصلاح المجتمع الصغير.
3 ـ وإصلاح المجتمع الكبير.
فإن المنحرف غالباً ليس إلا ضحية الاجتماع، فيجب أن ينظر إليه بنظر العطف والشفقة لا بنظر الغضب والازدراء، ولذا لم يرد في التاريخ ازدراء الرسول صلى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام بالمجرمين، وإن طبقوا عليهم ـ أحياناً ـ الحدود الشرعية.
وحتى المنافقين الذين ورد فيهم: (إنهم في الدرك الأسفل)(20) وإنهم (هم العدو)(21) لم يواجههم الرسول صلى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام إلا بأقل القدر الممكن من التأنيب، وكذلك الذين فروا من الزحف أو خانوا الرسول صلى الله عليه وآله في أوامره الحربية مما سببوا قتل خيرة أصحابه كحمزة عليه السلام مع أنه قال الله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله)(22).
وقال سبحانه: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)(23).
بل عامل الرسول صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام الذين حاربوهما بأقل القدر الممكن من العنف مما لابد منه ـ في قصص معروفة ـ إذ العقاب اضطرار، لم يجعل تشفياً، وإنما جعل علاجاً فهو كالعملية الجراحية لا يقدم عليها إلا اضطراراً، ثم يكون كمها وكيفها بقدر الاضطرار أيضاً، فإن الله سبحانه خلق البشر ليرحمهم.
قال تعالى: (ولذلك خلقهم)(24).
أما العذاب في الآخرة، فهو أيضاً بقدر الاضطرار، ولذا تكون الشفاعة والعفو، ثم بعد ذلك إذا حدث الاضطرار يأتي (جزاءاً وفاقاً) (25) (وإنما تجزون ما كنتم تعملون) (26).
ولذا كان شعار الإسلام: (قولوا للناس حسناً)(27) و (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(28) و (ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، ولا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم)(29). (وإن واحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)(30).
وقال علي عليه السلام: (واكــظم الغـــيط وتجـــاوز عند المقدرة، واحلم عند الغضب واصفح مع الدولة [السلطة] تكن لك العاقبة)(31).
وقال عليه السلام: (إذا قدرتك على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه)(32).
وقال عليه السلام: (أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة)(33).
وقال عليه السلام: (العفو زكاة الظفر)(34)… إلى غير ذلك من كلماتهم عليهم السلام وأعمالهم سواء بالنسبة إلى المجرمين السياسيين، أو المجرمين الجنائيين.
وقد اكتشف علماء السياسة والاجتماع، أخيراً لذلك قاعدة [عجز القوة وقوة العجز] حيث أن القوة يختفي في طيارتها العجز، فهل يمكن أن يضرب لص بمدفع ميدان؟ وهل يمكن أن يقابل سلم العدو [العجز] بالقمع؟ وللمثال… فقد انتزع حزب المؤتمر استقلال الهند من بريطانيا بالسلم، كما أن عالم اليوم عجز عن دفع عدوه مع أنه يملك السلاح النووي.
ومن كلام لعلي عليه السلام: ـ كما في نهج البلاغة ـ: (وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إلــيهم في السلامة، أن يــــرحموا أهل الذنوب والـمعــصـــية، يكـــون الشكر هو الغالب عليهم، والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيّره ببلواه(35).
أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به؟ وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله؟ فإن لم يكن ركب ذلـــك الذنب بعينه فقـــد عصى الله فيما سواه، مما هو أعظم منه، وأيم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير، لجرأته على عيب الناس أكبر، يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلك معذب عليه، فيكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته، مما ابتلي به غيره).
وعلى أي حال، فعلاج الانحراف:
أ ـ استدراج المنحرف إلى الاستقامة من أقرب الطرق وأسهلها، فإذا كان إجرامه لأجل فقر أو عدم زوج أو زوجة أو مرض أو منافسة، أو ما أشبه عالج فقره، وزوجه [وقد زوج علي عليه السلام مومسة] وهيء وسائل صحته، واصلح بينه وبين منافسه، أو أبعد أحد المنافسين عن الآخر ـ إن أمكن الإبعاد ـ وقد أمر الإمام الصادق عليه السلام بعض أصحابه أن يعطي من مال الإمام عليه السلام لطرف النزاع حتى يصطلحا إذا كان النزاع على مال.
ب ـ تهيئة مصحات تمزج العلاج، بتشغيل المنحرف، إذ المنحرف إذا ارتبط بالعمل لم يبق له فراغ للانحراف الفكري أو العملي، فإن فكره يشتغل بعمله، وتعبه العملي يورث انضباط أكله ونومه مما يسببان له راحة وبهجة، وبالأخص إذا كان شغله مغرياً وموجباً لتقدمه، حيث أن ذلك يسبب أن ينظر إلى نفسه بالرفعة فيتجنب تعاطي الأمور الوضيعة، والتفكر في الأمور السخيفة.
ج ـ إذا كان مستحقاً للعقوبة عاقبه بقدر الضرورة، كماً وكيفاً [كما تقدم].
إصلاح المجتمع الصغير
د ـ إصلاح المجتمع الصغير، أي الــعائلـــة والمدرسة ونحوهـــما، فقد سبق أن للمشاكل العائلية وسوء تربيتهم للأولاد، وانحراف الثقافة في المدرسة، وسوء معاشرة المعلم ونحوه للتلاميذ، يسببان لهم انحرافاً… فاللازم على الأبوين إعطاء الأولاد العقل والعاطفة معاً، بدون إهمال أو تشديد حتى يحس الطفل بالأمن ويشعر بحدود عمله، فيعطيانه حاجاته، وفي نفس الوقت يعلمانه الانضباط والنظافة والأدب والعمل، وحب الآخرين، والمشاركة معهم وعدم الاستبداد.
يقول الشاعر:
والأم مدرسة إذا أعددتها أعددت جيلاً طيب الأعراق
أما المدرسة فهي محل التربية الفكرية والعملية، وتقويم الطفل فيها أصعب من تقويمه في البيت، حيث أنه في المدرسة تختلط الأجواء، فإن لكل طالب جواً، والنفس تسرع في اكتساب السيئات أكثر من كسبها للحسنات… ولذا يكون اللازم استقامة الثقافة، واستقامة التربية، والمواظبة الكاملة على عدم سراية الأخلاق السيئة من بعض الطلاب إلى بعض.
ولا يخفى، أن المجتمع الصغير حيث أنه مندمج في المجتمع الكبير، يلزم أن يصلح المجتمع الكبير أيضاً، إذا أريد إصلاح المجتمع الصغير.
إصلاح المجتمع الكبير
3 ـ أما إصلاح المجتمع الكبير، فهو من أشكل الأمور. إذ يتدخل فيه الاقتصاد والسياسة والشؤون الاجتماعية، والعمران، والتربية، وغيرها، وهو بحاجة إلى جيش من المصلحين، ومن المثقفين، والمحنكين حتى يمكن إصلاحه فإن مثل محاربة تعاطي الخمور والمواد المخدرة، والانحراف والشذوذ الجنسي وفتح مدرسة، أو إخراج مجلة، أو ما أشبه، أمور جزئية، لا يمكن إصلاح المجتمع الكبير بها، وإنما إصلاحه بحاجة إلى تخطيط عام يشمل كل جوانبه وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلا (فاقد الشيء لا يعطيه).
دعائم إصلاح المجتمع
والتخطيط العام لإصلاح المجتمع يبنى على دعائم: أ ـ الإيمان. ب – واقتسام العلم والحكم والمال.
1 ـ الإيمان بالله:
أما الإيمان فلأنه الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والملكات والعواطف والأعمال، وإلا فمهما كان السطح منظماً ومنضبطاً، أمكن الخروج منه، وحيث ليس كلامنا الآن في [الإيمان] ندع الأمر لموضعه.
2 ـ اقتسام القدرات:
ب ـ وأما الاقتسام فلأن من طبيعة الاستغناء [علماً أو مالاً أو حكماً] الطغيان ولا يأخذ أمام الطغيان، إلا الاقتسام [فإن في ذلك وقاية للاجتماع عن الانحراف والوقاية خير من العلاج].
فإن أحد الأمور الثلاثة، إذا لم يكن في متناول الجميع على حد سواء ـ باستثناء عدم قدرة بعض للاستيعاب من جهة عدم الكفاية فكرياً أو جسمياً ـ أوجب ذلك الحرمان، والحرمان ينتهي إلى الانحراف، ولذا يجب تحرير الثلاثة عن نير الرأسمالية والشيوعية ونحوهما، حتى يكون الميزان الكفاية والعمل فكل يقدر على أن يحصل المال بقدر الآخر ـ في صورة استوائهما كفاءة ـ وكل يقدر على أن يحصل على أعلى مراتب العلم [الجامعة وفوقها] وكل يقدر على أن يحصل على الحكم بعد وجود المؤهلات له، من الشرائط الشخصية [كالعلم والعدالة].
والشرائط الاجتماعية [كاختيار أكثرية الناس له] ـ هذا فيما فيه اختيار الناس ـ أما إذا كان الحكم من قبيل الوظائف، كان لابد وأن ينظر إلى الأفراد المتأهلين بنظرة واحدة، وإذا كثروا وتساووا، ولا احتياج إلى جميعهم كان الحكم [القرعة] فـ [ـالقرعة لكل أمر مشكل].
وبذلك يأمن الاجتماع عن الطبقية المنحرفة، والمحسوبية والمنسوبية، وعن تدخل غير الكفاية في الوصول إلى المال والعلم والحكم، وحينذاك تكون الأرضية الاجتماعية خصبة للنبات الصالح، فلا يوجد الانحراف [إلا ما كان خارجاً عن تحت قدرة البشر].
فإذا حصلت الموازنة الصحيحة بين المعنويات [الإيمان والعلم والحكم] والماديات [المال] لم يترد المجتمع في مساقط الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة كما إذا كان الإيمان عند من لا علم له، أو العلم عند من لا مال له، أو المال عند من لا إيمان له، أو ما أشبه ذلك، فإن المجتمع حينئذ يصبح محلاً خصباً للانحراف:
فلماذا الشاب الفلاني يقدر على دخول الجامعة، وأنا لا أقدر مع أن مستواه الفكري مثلي؟ فهل لأن والده يملك المال ولا يملك والدي؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ملك والده المال ولم يملكه والدي، مع أن الكفاءة فيهما متساوية أليس ذلك من ذنب الاجتماع الذي نظم القانون الاقتصادي بحيث يستحق الكفاءات، ويوجب الاختلاف في الطبقات بدون مبرر؟
ولماذا تمكن فلان من الوصول إلى مجلس الأمة، ولم أتمكن أنا؟ فهل لأن ذاك من حاشية الحاكم، ولست أنا من حاشيته؟ وهل ميزان الحكم الحاشية؟ أو أن الميزان الكفاءة وانتخاب الناس؟ وإذا كان الميزان الأول، فأي اجتماع هذا الذي ينظم القانون بحيث يحرم الكفؤ بدون أي سبب؟
ولماذا لا أتمكن أنا من كسب المال الكافي لشؤوني، مع أن عندي كفاءة وأنا مستعد للعمل؟ أليس ذلك لأجل أن الرأسمالي الفلاني، يتمكن من التلاعب بالأسواق فينزل البضاعة ليكسر باعة المفرد، حتى يوسع لنفسه المحلات لبيع المفرد التابعة له؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي اجتماع هذا الذي يسن مثل هذه القوانين حتى يحرم الإنسان عن لقمة العيش، بله التقدم؟
إلى غير ذلك من أسباب الطبقية المنحرفة في كل من العلم والمال والحكم مما يسبب أن يكون الاجتماع محلاً لولادة الانحراف.
القوانين الوضعية تصنع الانحراف
وقد أوغلت القوانين الوضعية في تهيئة مناخ الانحراف:
1 ـ فالقانون يطبق على العالم وغير العالم، والمضطر وغير المضطر، مع أن الإنسان يرى الظلم في القانون إذا رأى نفسه بريئاً ـ بعدم العلم وبالاضطرار ـ وذلك مناخ خصب لوجود الانحراف فإن المظلوم يهيء نفسه للانتقام، ويختمر في نفسه العداء، وذلك مما يسبب الانفجار أحياناً في غير المحل المناسب.
وأما الإسلام فقد رفع تسعة أشياء(36): (ما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والنسيان، والسهو، والطيرة، والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان، والوسوسة في التفكر في الخلق) لأن كل ذلك لا يدخل تحت الاختيار، فكيف يؤخذ الإنسان به.
كما أن من خطأ القوانين الوضعية الموجبة لتهيئة مناخ الانحراف جعل المال بدل العقاب، وبدل الوظيفة، فالقاتل وكثير من المجرمين إذا أعطوا المال خلصوا من السجن أو الإعدام، أو ما أشبه، كما أن المكلف بالجندية الإجبارية إذا دفع المال سقط عنه التكليف بالخدمة، وهكذا في كثير من القوانين، ومثل ذلك من أخصب المناخ للانحراف.
إن الفقير ـ الذي لم يرجع فقره إلى تقصيره ـ إذا أجرم هو والغني، سجن الأول، وأطلق الثاني، أو قتل الأول وخفف عن الثاني، ولماذا؟ لأن الأول عثر به حظه فلم تتهيء الظروف، لأن يكون له مال وكذلك إذا أخذ الفقير جندياً مكلفاً وأطلق الغني بسبب عطائه المال: إلى غير ذلك من الأمثلة.
وكذلك الحال في إجرام ذي نفوذ وغيره، حيث أن شخصية الأول تحول دون عقابه أو عقابه الكثير، بينما غيره يتلوى لأمر لم يكن باختياره، حيث أنه لا شخصية له، لعدم كونه من عشيرة أو ما أشبه… فإن أمثال هذه الأمور [والأمر إنما في إطار القانون] توسع رقعة الانحراف، وربما جرفت الثورة بواضعي أمثال هذه القوانين.
م/ن
الف شكر لج خيوووووو
تقبلي مروري
شكرا لج ع الطرح
تسلم يمناج