لـوو سمحتــوآآ بغيــت ملـف آلآنجـآز صـ34 آلكتــآآب آلجـديد
تكفــوون لآ تردوونــي
محتـآآجتــه ضـروري .. >.<
(مظاهره ـ آثاره ـ علاجه)
ترتفع بين الحين والآخر أصوات من كلّ الأقطار العربيّة شاكية مُرَّ الشّكوى من الضّعف العامّ في اللّغة العربيّة، ومتألّمة من الوضع المؤسف الّذي وصلت إليه هذه اللّغة على أيدي أبنائها، ومتوجِّسة الخوف الشّديد من خطر هذا الضّعف الّذي يزداد مع الأيّام سوءًا، ويتفاقم بإهمال شأنه صعوبة وتعقيداً.
ولا شكّ أنّ هذه الصّيحاتِ صادقة في التّعبير عن هذه المحنة الواقعيّة الّتي لا يُنكرها إلاّ مكابر، وصادقة في وصف الأخطار الماحقة المدمّرة الّتي تترتّب عليها إن استمرّتْ ولم يسارع أهل اللّغة الغيارَى على لغتهم إلى علاج ضعفها لدى القوم، والعمل على إعادة العافية إليها بينهم.
أوّلاً في المجال المكتوب:
– الجهل بقواعد الإملاء ومصطلحاته؛ فكُتِبَتْ همزةُ الوصل في أوّل الكلمة همزَةَ قطع، وهمزةُ القطع همزةَ وصل، وكتُبت الهمزة المتوسّطة والمتطرّفة بأوضاع مخالفة للقواعد المتعارف عليها، وأُهملت الشَّدَّة الّتي يعني إهمالُها إسقاطَ حرفٍ من الكلمة، ووقوعَ اللَّبْس في بعض الكلمات، وأهمل نقط الذال المعجمَة وصارت دالاً مُهَّملَة، وعوملت الثّاءُ بنقطتين فقط فصارت مُثَنّاة، وأُهمل نقط التاءُ المقفَلَة فساوت الهاءَ في آخر الكلمة رسماً ونطقاً، وكُتِبت الألف اللّيّنة في آخر الكلمة على حسب مزاج الكاتب ممدودةً أو مقصورةً بلا اعتبار للقواعد المعروفة، وكُتِبت التّاءُ المقفلَة مفتوحة والمفتوحة مقفلَة، وكُتِبت ألفٌ بعد واو (أرجو، ويدعو ويشكو .. وأمثالها). وهكذا سادت الفوضى والعبث في قواعد الإملاء العربيّ في الكتب والصّحافة والرّسائل والتّقارير وفي كلّ مكتوب.
– الجهل بالقواعد الصّرفيّة الواضحة الّتي يتلقّاها المتعلّم عادةً في مرحلة التّعليم الإعداديّة أو الثّانويّة، من ذلك قولهم على سبيل المثال : دعيْت بدلاً من دعوت، واستمرّيْنا بدلاً من استمررنا، ومُصان بدلاً من مَصون، والكبرتان بدلا من الكبريان، والهاديون بدلاً من الهادون… .
– الجهل بقواعد النّحو العربيّ جهلاً عمّت به البلوى حتّى أصبح ملازماً للكتابة إلاّ فيما ندر، فنصبوا المرفوع وجرّوا المنصوب، ولم يفرّقوا بين حالات الإعراب للمثنَّى وجمع المذكّر السّالم، وكتبوا الأعداد بالحروف كتابةً غريبة مخالفة للقواعد المرعيّة، ولم يعرفوا للصّفة أحكاماً، ولم يميّزوا بين النّكرة والمعرفة، وغير ذلك ممّا يطول الكلام فيه ولا نستطيع له حصراً.
– كثرة الأخطاء اللّغويّة الشّائعة المخالفة للمسموع من اللّغة وأصولها الثّابتة، كقولهم : جماد بدلاً من جُمادَى، ووريث بدلاً من وارث، والمبروك بدلا من المبارَك، و"لا يجب.." بدلاً من "يجب ألاّ.."، "وسوف لا"بدلا من "لن"، إلى آخر القائمة الطّويلة من الأخطاء اللّغويّة الشّائعة.
– الجهل بمعاني الأدوات اللغويّة ووظائفها، بحيث تُستْعمل استعمالاً اعتباطيّاً لا تُراعَى فيه دقة توظيف الأداة ؛ كعدم تفريقهم بين : "إذا" و"إن" الشّرطيّتين، و"لم" و"لما" الجازمتين، وحرفي الجواب "نعم" و"بلى"، و"لا"النافية للجنس و"لا"النّافية للوحدة، وكاستعمال أداة التوكيد في موضع لا يقتضي التوكيد، وسوء استعمالهم لـ"أحد" و"إحدى" في مثل قولهم: إحدى المستشفيات وأحد المدارس…
– عدم السّلامة في الأسلوب، وتركيب الجمل تركيباً يَنِمّ على التّكلُّف، وغلبة الرّكاكة والسّماجة والبعد عن جماليّات اللّغة، حتى إنّ الكلام المكتوب يهبط في أحيان كثيرة إلى مستوىً يقربُ من العامّيّة، أو يتسم بالجفاف الّذي لا يهزّ مشاعر ولا يُحدث في النّفوس الأثر المطلوب.
– إهمال علامات التّرقيّم من فاصلة وقاطعة وشارحة وغيرها إهمالاً تامّاً يُرْهق قارئ الكلام المكتوب في فهم معانيه، ويُصعِّب عليه إدراكَ علاقات الكلمات والجمل بعضها ببعض، ومعرفة النّهاية للكلام والبدء بكلام آخر. وبعضهم يستعمل علامات التّرقيم استعمالاً خفيفاً، ولكنّه يسئ وضعها في أماكنها الصّحيحة؛ فيضع الفاصلة موضع القاطعة وبالعكس، ويضع علامة التّعجّب مكان علامة الاستفهام.
قد يقال: إنّ علامات التّرقيم ليست من أصول اللّغة العربيّة، وهي دخيلة اقتبسناها من غيرنا، فكيف نعتبر إهمالها مظهراً من مظاهر الضّعف العامّ في اللّغة العربيّة؟.
وأقول: إنّ اقتباس لغتنا العربية علامات التّرقيم من اللّغات الأوربيّة، كان اقتباساً طيّباً أفادت منه لغتنا كثيراً، إذ تساعد هذه العلامات على معرفة المواقع المناسبة للوقف والابتداء في الكلام، وربط الجمل بعضها ببعض، وبيان علاقاتها الإعرابيّة والمعنويّة، وتنويع النّبرات الصّوتيّة الّتي تُبرزالأغراض المقصودة من الكلام، كالاستفهام، والتّعجّب، والاستنكار، والتّحسّر، والإغراء، والتّحذير، وغير ذلك، فهي لذلك ضروريّة في الكتابة العربيّة الحديثة، وخُلُوّ الكتابة منها يُعَدّ في العصر الحديث عَيْباً لا يقلّ قبحاً عن عيب الخطأ الإملائيّ أو النّحويّ، حيث يؤدّي ذلك إلى عناء القارئ في فهم المكتوب، أو تداخُل في الألفاظ والجمل، أو إلى غموض أو اضطراب في المعنى، أو عدم التّمييز بين كلام الكاتب والكلام المنقول عن غيره.
وإذا كانت علامات التّرقيم الحديثة دخيلةً على لغتنا، فإنّ لها أصلاً في تراثنا يدلّ على مبدئها وأغراضها، من ذلك علامات الوقف والابتداء الّتي وضعها علماؤنا لحسن أداء تلاوة القرآن، وبيان معاني آياته، والإشارة إلى العلاقة الإعرابيّة والمعنويّة الّتي تربط بعضَها ببعض. ومن ذلك أيضاً مباحث أهل اللّغة في الفصل والوصل، والوقف والسّكت، والعطف والاستئناف، ونصُّهم على تنويع النّبرات الصوتيّة تبعاً للمعنى المراد من ترغيب وترهيب، وتحذير وإنذار، واستفهام وتأثّر، وغير ذلك.
– المبالغة في استعمال الكلمات العامّيّة في الصّحافة العربيّة عموماً، أي إنّ الفصحى تتراجع في صحافتنا وخاصّة الفّنيّة والرّياضيّة أمام زحف العامّيّة.
– الإكثار من استعمال الكلمات الأجنبيّة بلا داعٍ مع سهولة المقابل العربيّ لها، كقولهم في مباراة كرة القدم: "ماتش" و"تيم" و"هاف تايم"،وقولهم في أمور العمل الصحفيّ: "ريبورتاج" و"مانشيت" و"ماكيت"، وقولهم في شؤون السّفر:"باسبور" و"فيزا" و"ترانزيت"، وقولهم في شؤون التّسويق :"شوبينج"، و"أوكازيون" و"سوبرماركت"…
ثانيا في مجال المسموع:
ونعني به الكلام الّذي يُسمع عموماً في محاضرة أو ندوة أو حوار وغيرها، أو ما يُسْمع من الإذاعتين المسموعة والمرئيّة من نشرات الأخبار والتّعليقات السّياسية والأحاديث والبرامج المتنوّعة والمسلسلات التّمثيليّة والإعلانات وغير ذلك.
– تشترك المجالات المسموعة مع الكتابة المقروءة في كلّ ما ذكرناه من الأخطاء الصّرفيّة والنّحويّة، والأخطاء الشّائعة، وركّة الأسلوب، وعدم التّرابط والانسجام بين الجمل، إلى آخر ذلك. إلاّ بعض الأخطاء لا تظهر في الكتابة بسبب عدم شكل الحروف عادة، ولكنّها تظهر عند النّطق. فمثل:دَعَوْا، نَسُوا، يَسْعَون، أنتِ تَحْظَيْن، المتوفّوْن، المصطفَيْن، لا يتبيّن الخطأ فيها إلاّ عند نطقها، فيقرأون: دَعُوا بدلا من دَعَوْا، ونَسَوْا بدلاً من نسُوا، ويَسْعُون بدلاً من يَسْعَوْن، وأنتِ تحظِينَ بدلاً من أنت تحظَيْنَ، والمتوفُّون بدلاً من المتوفَّوْن، والمصطفِين بدلاً من المصطَفَيْن، ومثلُ ذلك كثير على ألسنة المذيعين والمذيعات والمتحدّثين والمتحدّثات.
– القضاء تقريباً على النّطق الصّحيح للذّال والثّاء والظّاء، حيث تُنطق الذّال دالاً والثّاءُ سيناً والظّاء ضاداً. ويزيد البعض في بليّة طمْسِ الذّال والثّاء والظّاء بطمس الطّاء الّتي انقلبتْ في ألسنتهم إلى تاء، وطمس الضّاد الّتي ينطِقْنَها دالاً. ولا شكّ أنّ الملايين يُلازمون الاستماع إلىالإذاعات المسموعة والمرئيّة، ويتأثّرون بكيفيّة النّطق المشوَّه للأحرف المذكورة، وخاصّة الأطفال والبراعم الّذين هم في سنّ التّكوين والتّلَقِّي. ويُخْشَى إن استمرّ هذا الحال أن تنشأ أجيال عربيّة يَسْقُط من كلامها الذّال والثّاء والظّاء والضّاد، أو تجد في نطقها صعوبةً وعسراً يجدهما الأجنبيّ الّذي لم يتعوَّدْ نطقَها العربيّ من مخارجها الصّحيحة.
– نطق همزة الوصل في درج الكلام همزة قطع؛ فينطقون: الإستعمار، الإقتصاد،الإستثمارات، ما إسمك، هذا إبنك، بدلاً من النّطق الصّحيح: الاِستعمار، الاِقتصاد،الاِستثمارات، ما اسمُك، هذا ابْنُك، بحذف همزة الوصل لفظاً في أثناء الكلام، ولم نعد نسمع النّطق السّليم لهمزة الوصل في درج الكلام إلاّ نادراً ومن قبيل الصّدفة. وأسوأُُ استعمال لهمزة الوصل في درج الكلام هو نطق همزة"ال" همزة قطع، حتىّ أصبحت على ألسنة المذيعين والمذيعات محسوبةٍ من مواقع همزة القطع وفَقَدَتْ صلتها بهمزة الوصل فيقولون مثلاً: (عقد أَلمؤتمر أَلتّّعليمي أَلعربيّ دورته أَلخامسة يوم أَلأحد أَلماضي).
– الوقف على التّاء المقفَلة تاءً لا هاءً في نحو: فتاة، قناة، قُضاة، الزّكاة، مرضاة…
– إلغاء نطق التّاء المقفَلة في درج الكلام، والاكتفاء بنطق الحرف الّذي قبل التّاء المقفَلة على ألسنة المذيعين والمذيعات والمتحدّثين والمتحدّثات حتّى أهل الاختصاص في اللّغة، فالجملة: (اجتمعت اللّجنة المختصّة بالقضيّة الفلسطينيّة التّابعةُ للجامعة العربيّة اليوم بالقاهرة)، تُنطَقُ: (اجتمعت اللّجن المختص بالقضي الفلسطيني التّابع للجامع العربي اليوم بالقاهرة).
– نطق الأعداد والمعدودات باللّهجة العامّيّة الدّارجة في كلّ أنواع العدد، ولا تكاد تسمع من إذاعاتنا المسموعة والمرئيّة النّطق السّليم للأعداد، فيقولون مثلاً: اتناشر دينار بدلاً من اثني عشر ديناراً. وخمستاشر درجات بدلاً من: خمس عشرة درجة، ومَاءَة بفتح الميم بدلاً من مِئَة أو مِائة، و"ثمن البرميل من النّفط ستّ وعشرين دولار وأربعتاشر سنت" بدلاً من:" ثمن البرميل من النّفط ستّة وعشرون دولاراً وأربعة عشر سنتاً"، و"أنفقت الشّركة على الدّعاية اثنين مليون دولار" بدلا من:"أنفقت الشّركة مليونَيْ دولار" و"كان في الطائرة المنكوبة ميتَيْن وسبعَ وستّين راكب" بدلاً من:" كان في الطّائرة المنكوبة مئتان وسبعةٌ وستّون راكباً".
– إلغاء الإعراب من أواخر الكلمات ونطقها بالسّكون في درج الكلام، ولم يَسْلَمْ من هذه الآفة حتّى بعض كبار الأدباء والعلماء والصّحافيّين ومن هم على رأس مؤسّسات لغويّة متَخصّصة. أمّا في الإذاعتين المسموعة والمرئية فإنّ الوقف على أواخر الكلمات المتّصلة هو السّائد، ولا يكاد يظهر الإعراب على أواخر الكلمات إلاّ قليلاً.
– أداء الكلام المكتوب بالفصحى بطريقة اللّهجة العامّيّة وبنبرات الحديث الدّارج، وخاصّة في برامج قراءة ما يرد في الصّحف اليوميّة، وبذلك تنـزل الفصحى إلى مستوى العامّيّة، ولا يحدث العكس وهو أن ترقى العامّيّة إلى مستوى الفصحى.
– غلبة اللّهجات العامّية المحلّيّة على الفصحى في معظم إذاعاتنا المسموعة والمرئيّة، حتّى أصبح نصيب الفصحى في هذه الإذاعات قليلاً جدّاً.
– طغيان الكلمات الأجنبيّة الّتي لا تدعو إليها ضرورة، والّتي لها مقابلٌ عربيّ أخفّ لفظاً، وأيسر نطقاً، وأعمق معنىً، وأدنى إلى وجدان المستمع. وقد امتدّت هذه الآفة إلى عناوين البرامج المرئيّة، ويحضرني من ذلك العناوين: كليك، كلينِكْ، فلاش، ستوب، إيتيلية، ميوزيكا،أرابيسك،مانشيت، بل إنّ فضائيّة عربيّة تنطلق من بلد عربيّ، ولغتُها عربيّة، وموجّهةٌ إلى العرب، تحمل اسماً أجنبيًّا، وفضائيّات عربيّة عديدة تنطق بالعربيّة، وموجَّهة إلى العرب، تتّخذ أسماءها من أحرف لاتينيّة، كأنّ العربيّة قد عقمت عن ولادة الأسماء والعناوين، ولكنّها عقدة (الخواجة) مازالت تتحكّم في نفوسنا، وتستعمرعقولنا وقلوبنا، وتجرّنا إلى التّبعيّة الذّليلة لكلّ ما هو غربيّ. ومن المضحك المبكي أنّ بعض الفضائيّات العربيّة تكتُب كلمات عربيّة بطريقة كتابة الحروف اللاّتينيّة، وهذا منتهى الاستهتار باللّغة العربيّة وخطوطها الجميلة.
– الخطأ في ضبط كثير من الكلمات، كقولهم :لُجْنة بدلاً من "لَجْنة"،وثَكَنَة بدلاً من ثُكْنَة والْغِيرَة بدلاً من الْغَيْرَة، والْحِيرَة بدلاً من الْحَيْرَة، والْغِدَاء بدلاً من الْغَداء، وخُطبة المرأة للزّواج بدلاً من: خِطْبة، والفُراق بدلاً من:الفِراق، وبُناءً عليه بدلاً من: بِناءً عليه، وتِكْرار وتِجْوال وتِحنان،بدلاً من: تَكرار وتَجوْال وتَحْنان … إلخ.
– الخطأ في نطق الأعلام، كقولهم : عبد المجِيد، وعِبيد، وسِليِمان، وحِسين، والشِّريف، وعصمان، وسِليم، وسْكينَة، وزْبيدَة…
– الخطأ في ضبط عَيْن الفعل الثّلاثي ماضيه ومضارعه وأمره، والجهل بالأبواب الصّرفيّة السّتّة للثّلاثيّ، فيقولون في الماضي مثلا: ثَبُتَ بدلا من ثَبَت، وحَصُل بدلاً من حَصَل، وفَشَلَ بدلاً من فَشِل، وحَرِصَ بدلاً من حَرَص، وغَرَق بدلاً من غَرِق، وبَطُل مفعوله، بدلاً من بَطَل، وصَعَد بدلاً من صَعِد، ورَئسَ بدلاً من رَأَس، وبَرَأَ من المرض بدلاً من بَرِئ. ويقولون في المضارع مثلا:يأمَل بدلاً من يأمُل، ويَحْرَص بدلاً من يَحْرِص، ويَلِفّ بدلاً من يَلُفّ، ويَمْلُك بدلاً من يَمْلِك، ويهرَب بدلاً من يَهْرُب، وَيهْوِي بمعنى يحبّ بدلاً من يَهْوَى، ويَنْعِي بدلاً من يَنْعىَ، ويَرْشِيه بدلاً من يَرْشُوه، ولا يَحُلّ أن تغتاب بدلاً من لا يَحِلّ. ومن أمثلة الأمر: اكْسَبْ بدلاً من اكْسِبْ، لا تَلْمِسْ بدلاً من لا تَلْمَسْ، انْبُذِ العنف بدلاً انْبِذِ العنف،واعْمِلْ بدلا من اعْمَلْ… .
– الخطأ في ضبط حرف المضارعة، وعدم التّمييز فيه بين الثّلاثيّ والرّباعيّ، كقولهم: يُحيك مؤامرة بدلاً من يَحيك، ويَخِلّ بالتّوازن بدلاَ من يُخلّ، ويُنْشِد السّلام بدلاً من يَنْشُد، ومجلس الأمن يَدين العدوان بدلاً من يُدين، وإسرائيل تُشِنُّها حرباً بدلا تَشُنُّها، ويُلْفِت النّظر بدلاً من يَلْفِت، ولن يَفْلُتَ من العقاب بدلاً من ولن يُفْلِتَ، ولا يُثنيه عن عزمه شئٌٌ بدلاً من يَثْنِيه، وأَهيبُ بك بدلاً من أُهيب، ويَفيق بدلا من يُفيقُ، وهذا المرض يَعْدِي بدلاً من يُعْدي … إلخ.. .
– سوء الإلقاء، وعدم انسجام طريقة الأداء الصّوتيّ مع مفهوم الكلام، فقد تسمع من المذيع أو المذيعة نَبْرَةً للصّوت تدلّ على انتهاء الكلام وأنّ ما يأتي بعده كلام ٌ مستأنَف، ثمّ تفاجأ من خلال السّياق بأنّ الكلام متّصل بما بعده وممتدّ إلى غيره، أو تسمع نبرةً تدلّ على تواصل الكلام وامتداده، ثمّ تفاجأ بأنّ الكلام قد انتهى، وما جاء بعده استئناف. وقد تسمع صيغة استفهام تؤدَّي بنبرة إخبار، أو صيغة إخبار تؤدَّي بنبرة استفهام، أو تسمع كلاماً يفيد الأسى والتّحسّر والألم يؤدَّي بصوت مرتفع فيه حماسة تُشبه حماسة الخطيب، أو تسمع كلاماً فيه معنى العزّة والكرامة والاعتداد بالشّـخصيّة يقوله المذيع أو المذيعة بصوت بارد لا يحمل شيئاً من تأثير الكلام أو إيحاءاته، إلى غير ذلك من أمثلة سوء الإلقاء والأداء الصّوتيّ في إذاعاتنا المسموعة والمرئيّة.
وقد يُقال: ما دَخْل سوء الإلقاء والأداء الصّوتيّ في الضّعف اللّغويّ العامّ؟ وما علاقة هذا العيب باللّغة حتّى يُحْشَرَ في موضوعها ويُعَدَّ مظهراً من مظاهر الضّعف فيها؟.
ونجيب بأنّ اللّغة العربيّة ليست قواعدَ وأصولاً وضوابطَ في الإملاء والنّحو والصّرف والبلاغة وغيرها فقط، ولكنّها بجانب ذلك ذوقٌ رفيع، وجمالٌ آخّاذ، ونَبْرٌ معبِّر وتنغيم مُصَوِّر، وجرسٌ عذب، وموسيقى مُطْرِبَة، فللتّعجُّب نَبْرَة، وللاستفهام نبرة، وللاستنكار نبرة، وللتّحسُّر نبرة، ولاستمرار الكلام واتّصال الجمل نبرة، ولانتهاء الكلام واستئناف ما بعده نبرة، ولانتهاء الكلام في الآخر نبرة، وبعض المواضع يَحْسُنُ فيها خفض الصّوت، وبعضُها يَحْسُن فيها رَفْعُه، وبعضُها تَحْسُن فيه الحماسة، وبعضُها يناسبه الهدوء، وقد تُوَدِّي زيادةُ مدِّ حرفٍ انفعالاً نفسيّاً معيَّناً لا يؤَدّيه مدُّ الحرف مدّاً طبيعيّاً، وقد يُؤدِّي البطْءُ في إلقاء كلمة ما لم يؤدِّه الإسراعُ بها، وهكذا يكون الأداءُ الصّوتيّ الجيّد المنسجم في نبراته وتنغِيماته مع طبيعة الكلام، جزءاً مكمِّلاً لإجادة اللّغة العربيّة وحسن استعمالها، وعنصراً مهمّاً للتّعبير عن معاني الكلمات وتصوير خلجات النّفوس.
– الخطأ في الاشتقاق، كقولهم: مُشين بدلاً من شائن، ومقفول بدلاً من مُقْفَل، ومُعاب بدلاً من مَعيب، ومُلام بدلاً من ملوم، ومبروك بدلاً من مبارَك، والعاطي بدلاً من المُعْطي، ومَعْفِيّ من الضّرائب بدلاً من مُعْفىً، ومَلْغِيّ بدلاً من مُلْغىً، والقاسم بالله بدلاً من المقْسم، والمُلْفِت للنّظر بدلا من اللاّفِت… إلخ
– هذه نماذج وأمثلة محدودة لمظاهر الضّعف اللّغويّ في وسائلنا المكتوبة والمسموعة، ولم نأت إلاّ بأقلّ القليل منها، ولو أحصينا كلّ الجنايات الّتي تُرتَكب في حقّ لغتنا العربيّة من خلال تلك الوسائل، لملأنا بذلك مجلّداً ضخماً.
بعد استعراض مظاهر الضّعف العامّ في اللّغة العربيّة على امتداد الوطن العربيّ، في وسائله المقروءة والمسموعة، يجدُر بنا أن نبيّن الآثار السّلبيّة النّاجمة عن هذا الضّعف، ونتائجه السّيّئة على مستقبل أجيالنا ومصير أمّتنا. ونوجز هذه الآثار فيما يلي:
2. هذا الضّعف اللّغويّ المتفشِّي في الوسائل المقروءة والمسموعة، يُؤَثِّر تأثيراً بالغاً في القارئين والسّامعين، وَينْقُل إلى هؤلاء الْمُتلَقِّين ضّعْفَه وعُيوبَه ونقصَه، وخاصةً الصّغارَ الّذين هم في مراحل تكوينهم اللّغويّ والفكريّ، ويستوعبون بسرعةٍ ما يُلْقَى إليهم من غثّ وسمين.
إنّ وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة تكاد تقتحم كلّ بيت عربيّ، وتصل إلى أهل البادية في خيامهم والرُّعاة في مراعيهم، وهي تُلَقِّنُهم اللّغة الفاسدة، والأخطاء الفاحشة، والنّطقَ الرّدئ، والذّوقَ السّيّئ، وتطبع نفوس الملايين بطابَعها، وتغرس فيهم جَهْلَها وسُقمَها، وبذلك يخسَر العربُ لغتَهم وأجيالَهم، ويخسَرون ألسنتهم وأذواقَهم.
3. الضّعف العامّ في اللّغة يُضْعِفُ قدرةَ اللّغة على تحقيق التّفاهم بين المتعاملين بها، ويُعطِّل وظيفتها في توحيد مفهومات الكلام ورموزه ومدلولاته بين المتخاطبين، ويُوقِعُ اللَّبْس والخلْطَ في المعاني، ويُعقِّد الجُمَل أو يُشَوِّهُ نَسَقَها أو يُسَبِّبُ الخلَلَ بين أجزائها، ذلك أنّ اللّغة الضّعيفة تتحلَّلُ من قيود القواعد فلا ضابطَ يحكُمها، وتبتعد عن أصولها الثّابتة فلا مَرجِعَ يَرْبِطها، وتخضع للعبث والفوضى والتّخبُّط في متاهات الجهل والهوى المتَّبَع.
ونحن نعلم أنّ سبب وضع النّحو على يد أبي الأسود الدُّؤلي، كان سوءَ فَهْمٍ لكلام لَحَنَتْ فيه ابنتُه، وخرجتْ به عن المألوف من كلام العرب، حيث قالت له ابنتُه: ما أحسنُ السّماء (برفع لفظ أحسن)، فقال:نجومُها، فقالت: ما أردتُ الاستفهام، ولكنّي أردتُ التّعجب، فقال: إذن، افتحي فاك، أي قولي: ما أحسنَ السّماء (بنصب لفظ أحسن). فأبو الأسود فَهِم معنى الجملة على مقتضى كلام العرب وما يدُلّ عليه ظاهرُ إعرابها، وهو غرض لم تقصِدْه ابنتُه، فكان سوءُ الفهم بين الطّرفين بسبب وقوع الخطأ، وأفْقَدَ اللّحنُ اللّغة قدرتـها على توحيد الفهم ومُهَّمتَها في تيسير التّعامل.
4. الضّعف اللّغويّ مرتبط بالضّعف الفكريّ والثّقافيّ، فليست اللّغة مجرّدَ وسيلة للتّخاطب فقط، ولكنّها أيضاً فكرٌ وعقيدةٌ وثقافةٌ وعواطفُ ومشاعرُ وتراث وتاريخ، ولا يمكن فصل جانب من جوانبها عن الآخر، أو وَقفُ تَسَرُّبِ المرض من عضو إلى بقيّة الأعضاء . وما نراه من هزالة الثّقافة العامّة لدى الشّبّان العرب في الوقت الحاضر، وضآلة زادهم من المعارف والعلوم، وجَهْلِهم بتُراثهم وتاريخهم، إنّما هو نتيجة طبيعيّة لضعفهم في لغتهم، وفقدهم للمفتاح الجيّد للثّقافة والمعرفة والعلم، وهو اللّغة المتمثّلة في كتاب أو مجلّة أو صحيفة أو إذاعة مسموعة أو مرئيّة وغير ذلك.
5. الضّعف اللّغويّ العامّ يؤدّي بالتّدريج إلى ذَوَبان الشّخصيّة، وفَقْد الْهُوِيّة، وانقطاع الصّلة بالرّابطة الّتي تُوَحِّد الأمّة، وتَشُدّ كيانَها، وتُحقّق لها استقلالها، وتبوِّئ لها المكانة المحترمة بين الأمم الحيّة. إنّ الحفاظ على اللّغة حِفاظ على الأصالة والانتماء القوميّ، وتضييعُها تضيعٌ لهذه الأصالة وهذا الانتماء.
هكِذا تنظرالأمم الحيّة إلى لغاتها: تعبيراً عن الكيان، وشعاراً للذّاتيّة، ورابطةً للقوميّة، ورمزاً للكرامة الوطنيّة، وحامياً للوَحدة والاستقلال.
وتَحْضُرني في هذا المقام قصّة واقعيّة طريفةٌ قرأتُها منذ سنوات في إحدى المجلاّت الجزائريّة على ما أذكر، وقد نقلتْها المجلّةُ عن صحيفة ألمانيّة نسِيتُ اسمها. ومُفاد القصّة أنّ طالبةً ألمانيّة في شهادةِ ما يسمّونه (البكالوريا) قد نجحت بتفوّق وامتياز في كلّ موادّ الامتحان، ولكنّها رَسَبَتَ ولم تُمْنَح الشّهادةَ لأنّها كانت ضعيِفةً في اللّغة الألمانيّة، ولم يشفع لها تفوّقُها في كلّ الموادّ الأخرى لدى الجهة التّعليميّة المسؤولة. ورفعت الطّالبة أمرها إلى محكمة (فرانكفورت) مطالبةً بإلغاء قرار رسوبها، والحكم لها بالنّجاح وحقِّها في الشّهادة، مستندةً إلى تفوّقها في كلّ الموادّ، ومدّعيةً أنّ ضعفها في اللّغة الألمانيّة ليس مسوِّغاً لرسوبها.
ولكنّ المحكمة رفضت طلبها، وأيّدتْ قرار الجهة التّعليميّة المختصّة في قرارها برسوب الطّالبة. ولم تيأس الطّالبة، فرفعت أمرها إلى درجات التّقاضي الأخرى الّتي رفضت دعواها وصادقت على قرار رسوبها، إلى أن وصلتْ بقضيّتها إلى المحكمة الفدراليّة الّتي هي عندهم أعلى درجات التّقاضي، فرفضتْ هي أيضاً دعوى الطّالبة، وأقرّت الحكم برسوبها، مُورِدَةً في حيثيّات حكمها أنّ اللّغة الألمانيّة هي التّعبير عن الفكر الألمانيّ المستقلّ، والمتَرجم عن شخصيّة الألمانيّين وهُوِيَّتهم، وهي أهمّ مادّة في الامتحان، والضّعف فيها لا يُغطّيه التّفوُّق والامتيازُ في الموادّ الأخرى.
ونضرب مثلاً آخر من الكيان الصهيونيّ – وقد يستفيد المرء من عدوّه-، فقد استطاع هذا الكيان العدوانيّ بمجهودات جبّارة وعزيمة ماضية أن يحيي اللّغة العبريّة الّتي ماتت منذ أكثر من ألفي سنة، وأن يبعثها من جديد في خلال سنوات معدودة، فقد تكوّن المجمع العلميّ للّغة العبريّة عندهم عام 1953، وبجانب هذا المجمع كوّنوا مجلساً أعلى يضمّ نحو أربعين لجنة متخصّصة في كلّ الفروع العلميّة والفكريّة والأدبّية والفنّيّة، وتهتمّ بمسايرة اللّغة للتّطوّر المستّمرّ، واستحداث المصطلحات والمفردات العبريّة الّتي تغطّي الحاجة في كلّ المجالات، وما يُتَّفق عليه منها يُنْشَرُ في الجريدة الرّسميّة، ويُصبح العمل به إجباريّاً في الدّوائر الحكوميّة والمؤسّسات المدنيّة والجامعات ودُور التّعليم ووسائل الإعلام بأنواعها، ويُعاقب القانون كلّ من يخالف ذلك ولا يلتزمه، وبذلك استطاعوا أن يبعثوا الحياة في اللّغة العبريّة بعد أن شَبِعَتْ موتاً، وخَلَقوا لها كياناً بعد أن كانت أثراً من آثار التّاريخ، وهم يقولون إنّ اللّغة العبريّة هي المعبِّرة عن شخصّيتهم وثقافتهم وتاريخهم، والجامعة لكيانهم المشتَّت، والصّاهرة لكلّ اختلافاتهم الفكريّة، والرّابطة لوحدتهم وتضامنهم.
6. يترك الضّعفُ اللّغويّ العامّ فراغاً فكريّاً وثقافيّاً لدى الأمّة، وضعف الصّلة بتراثها وتاريخها وأمجادها السّالفة، فتكون بذلك ساحةً مُهَيَّأةً للغزو الثّقافّي الأجنبيّ، ومجالاً مفتوحاً لملء الفراغ بالكلمات الدّخيلة والأفكار الغريبة، وبهذا الغزو تُسْتعمر الأمّة فكريّاً وثقافيّاً، وهو استعمار أشدّ فتكاً وأسوأ آثارا من الاستعمال العسكريّ للأرض، لأنّه غزو يقتل الشّخصيّة، ويمحو الهُوِيَّة، ويجعل الأمّة ذيلاً تابعاً للغازي، ومَسْخاً فاقد الإرادة والكرامة.
إنّ الكلمات الأجنبيّة الوافدة الّتي تجد فرصتها للتّوغّل في ضعف اللّغة الأمّ، لا تغزو الألسنة بألفاظها ورطانتها فحسب، بل تدخل برصيدها الثّقافيّ، وتصطحب معها مدلولاتها وإيحاءاتها ومبادئها وتاريخها، وتحتلّ بها مواقع للسيّطرة والتّأثير وبسط النّفوذ واستعمار النّفوس والعقول.
7. ارتباط الإسلام باللّغة العربيّة ارتباط عضويّ متلاحم لا يمكن معه فصل العربيّة عن الدّين، لأنّ القرآن الكريم: كتاب الإسلام نزل بلسان عربّي مبين، فالعربيّة مفتاحه، والعربيّة أداة فهمه، والعربيّة الباب إلى كنوزه. ونبيّ الإسلام محّمد صلّى الله عليه وسلّم عربيّ قُحّ، وسنّتُه- وهي التّشريع الثّاني للإسلام- لا تُفْهَمُ ولا يُعْلَم ما فيها من تشريع ومبادئ وآداب وأخلاق إلاّ باللّغة العربيّة المسطّرة بها، فلا إسلام – إذن – بلا عربيّة، ولا عربيّة بلا إسلام، وإذا أُصيب القوم بضعف في لغتهم العربيّة، اسْتَتْبَعَ ذلك ضعفَ صلتهم بالإسلام، وفقدهم لأداة الدّخول إلى رحابه والاغتراف من معينه، ولذلك فإنّ التّقصير في حقّ اللّغة، والتّهاونَ في إنقاذها من ورطتها، تفريطٌ نُحاسَب عليه، وتقصيرٌ ندان به، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به، فهو واجب. وقد رُوِيَ عن عمر(رضي الله عنه) قوله: "تعلَّموا العربيّة فإنّها من دينكم ".
وقد فَطن علماؤنا القدامى لعلاقة الإسلام المتينة باللّغة العربيّة، فأتقن المفسّرون والمحدِّثون والفقهاء والمؤرّخون والأدباء وغيرُهم علوم اللّغة غاية الإتقان، وتمكّنوا من معرفة خصائص اللّغة وأسرارها غاية التّمكّن، وكانت إجادتُهم للّغة خيرَ وسيلةٍ للفهم الصّحيح لكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وخيرَ عونٍ لهم على استنباط الأحكام واستخلاص المبادئ والخوض في أعماق النّصوص، ورَوْعَة الكتابة شعراً ونثراً، والأمثلةُ على ذلك أكثرُ من أن تُحْصَى. ولابدّ لعلمائنا المحدَثين من أن يَحْذوا حَدْوَ أسلافهم في إتقان اللّغة العربيّة، وحسن التّعامل معها، وإجادة استخدامها في فهم نصوص الإسلام، وإبراز محاسنه وفضائله، والنّهْل من مناهله الّتي لا يَنْضُبُ لها معين، والرّدِّ على أعدائه ومُثيري غُبار الفتنة والشُّبَه من حوله، إذ لا يَصْلُح آخرُ هذه الأمّة إلاّ بما صَلَحَ به أوّلُها.
8. الضّعف في اللّغة العربيّة يدفع بعض النّاس إلى الزّيغ في العقيدة، والانحراف عن منهج الدّين والتّعسّف والضّلال في الحكم على النّصوص الإسلاميّة، وليِّ عُنُق الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة بسوء الفهم للّغة، والجهل بخصائصها وطرق تعبيرها، والقول فيها بالهوى والعناد.
ذكر ابن جنّي في كتابه الخصائص : " أنّ أكثر من ضلّ من أهل الشّريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطّريقة المثلى إليها، فإنّما اسْتَهْواه واسْتَخَفَّ حِلْمَه ضعفُه في هذه اللّغة الكريمة الشّريفة… وقال: ولوكان لهم أُنْسٌ بهذه اللّغة الشّريفة أو تَصَرُّفٌ فيها، أو مُزاوَلَةٌ لها، لَحَمَتْهم السّعادةُ بها ما أصارتهم الشِّقوةُ إليه، بالبعد عنها .. ولذلك قال:رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل لَحَن: " أرشدوا أخاكم فإنّه قد ضلّ" فسمَّى اللّحنَ ضلالاً، وقال عليه الصّلاة والسّلام: رحم الله امراً أصلح من لسانه، وذلك لما علمه صلّى الله عليه وسلّم مّما يُعْقِب الجهلُ لذلك من ضدّ السّداد وزَيْغ الاعتقاد".
وقد علّق محقّق (الخصائص) الأستاذ/ محمّد علي النّجّار، على الحديث الأخير بقوله: "حدّث بهذا الحديث عمر (رضي الله عنه)، وكان مرّ على قوم يُسيئون الرّمي فقرّعهم، فقالوا: إنّا قوم متعلّمين، فأعرض عنهم وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم، حيث سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، فذكر الحديث: وانظر الجامع الصّغير في حرف الرّاء).
وقد رُوِيَ عن الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله: "إنّ أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربيّة".
9. واجبُ العرب في النّهوض باللّغة العربيّة وخدمتها وضرورة الإسراع إلى علاج ضعف أهلها فيها، لا يقتصرعلى أقطارهم فحسب، بل هم مُطالَبون بنشرهذه اللّغة الشّريفة بين المسلمين كافّة، ومكلّفون أمانةَ تبليغها وتعليمها إلى كلّ مسلم في العالم، لأنّّ الله حباهم أوّلاً باختيار لغتهم لساناً لكتابه العزيز، وحباهم ثانياً بأنْ جعل رسولَ الإسلام صلّى الله عليه وسلّم منهم، وحباهم ثالثاً بأنْ جعل أرضهم منطلقاً للإسلام ونوره. وهذه الميزة الّتي اختصّ الله بها أمّة العرب، تُثقل كاهلها بمسؤوليّة الدّعوة إلى دين الله الحقّ، ومسؤوليّة نشر لغة القرآن الكريم بين المسلمين، فهو تشريف لها يصحبه تكليف، وفخرٌ تعتـزّ به تترتّب عليه تَبِعة، ولكن كيف ينشر العربُ لغةَ القرآن الكريم بين المسلمين في أقطار الدّنيا وهم محتاجون إلى نشر هذه اللّغة بينهم؟ وكيف يخدمون إخوانهم المسلمين غير العرب وهم عاجزون عن خدمة أنفسهم؟ ففاقد الشئ لا يُعطيه، والمشلول الذي لا يحرّك نفسه لا يستطيع أن يحرّك غيره.
هذه في نظري الآثار النّاجمة عن الضّعف العامّ في اللّغة العربيّة لدى أمّة العرب، وهي آثار لا نبالغ في وصفها بالماحقة أو المدمّرة، ولا نَشْتَطّ في الخيال إن قلنا إنّها تهدّد شخصيّة الأمّة بالذّوبان والتّلاشي إن استمرّت غفلة القوم عن المحنة، وتركوا الآفة تستشري وتتفاقم إلى حدّ اليأس من علاجها، لا قدّر الله.
السّؤال الّذي يفرض نفسه الآن: ما هو العلاج؟ إذ لا يكفي أن نعدّد أعراض المرض ونحذّر من عواقبه الوخيمة، ثمّ لا نصف علاجاً ولا نتلمّس طريقاً للخلاص.
والإصلاح أساساً يكمن في إصلاح تعليم اللّغة العربيّة في مدارسنا ومعاهدنا على مختلف مستوياتها من الرّوضة والمرحلة الابتدائيّة إلى نهاية المرحلة الجامعيّة، فلو أُصْلِحَ تعليم اللّغة العربيّة، وصُفِّيَ مـمّا يعتريه من عوامل النّقص والتّخلّْف والجمود، ووُضِعتْ له المناهجُ الجيّدةُ والكتبُ القيمةُ والأساليبُ المتطوّرة المفيدة، لاجتزنا أصعبَ العلاج، وقطعنا من طريق الإصلاح معظمه، ذلك أنّ التّعليم هو المصدر الأساس الّذي يُزَوِّد كلّ مرافق الدّولة والمجتمع بالعناصر اللاّزمة، ويُعِدّ كلّ الكوادر لإدارة الأعمال ومزاولة الاختصاصات، فإذا كان واقع اللّغة العربيّة في التّعليم ضعيفاً ومهزوزاً وسيّئاً، لم يخرِّجْ إلاّ ضعفاءّ في لغتهم بطبيعة الحال، فينقل المتخرَّجُ الموظّفُ أو الطّبيبُ أو المهندسُ أو الصّحافيّ أو المذيع أو السّياسيّ أو المحاسب والاقتصاديّ وغيرهم، ضعفَهم الّذي ورثوه من التّعليم إلى مواقعهم ومناصبهم، لأنّهم جميعاً خرجوا من وعاء التعليم . وإذا كان تعليم اللّغة العربيّة صالحاً وجيّداً، خرّج تبعا لذلك عناصر تتمتّع بالكفاية اللّغويّة، وتُحسن التّعامل مع اللّغة، وتنقل ذلك إلى وظائفها ومراكزها.
والتّعليم الابتدائيّ هو نقطة البداية في الإصلاح والعلاج، لأنّ الطّالب الّذي يفشَلُ التعليمُ الابتدائيّ في تَزويده بأساسيّات اللّغة، ويُخْفق في تحبيبها إلى نفسه، ينتقل بضعفه اللّغويّ إلى المرحلة الإعداديّة ثمّ الثانويّة ثمّ الجامعة، ولا يفيد فيه بعد ذلك ترقيع وتقويم.
ومن المؤسف أنّنا لا نُعير المرحلة الابتدائيّة من التّعليم الاهتمام اللاّئق بها، ونضعها في آخر ترتيب المراحل التّعليميّة من حيث العناية والرّعاية، ونعامل معلّمها بأدنى الرّواتب، ونختاره من أصغر المتعلّمين سنّاً وأقلّهم تجربةً وأضعفهم تحصيلاً.
راجعتُ مرّة ما كتبه أحد أحفادي في دفتر (الواجب المدرسيّ)، فلاحظت أنّ الطّفل قد كتب بعض الكلمات كتابةً صحيحة، ولكنّ معلّمته خطّت بالقلم الأحمر على هذه الكلمات الصّحيحة وكتبتْ فوقها البديل الخاطئ، وتكرَّر معي ذلك مع حفيد آخر في مناسبة أخرى، فكيف نتوقّع من مثل هذه المعلّمة أن تلقِّن الطّفلَ اللّغة العربيّة الصّحيحة وهي تخطِّىُ الصّواب وتُصِّوبُ الخطأ؟ والعجيب أنّني طلبتُ من حفيدي أن ينبِّه معلّمتَه بأدب ولطف إلى ما وقعت فيه من تخطئة الصّحيح، فرفض ذلك بحجّة زعمه أنّ معلّمته لا تخطئ. وهو محقّ في هذه الشّعور لأنّه يرى في معلّمته المثل الأعلى والقدوةَ الحسنة، وهو لا يدري أنّه يتعلّم منها الخطأ.
إنّ من أوجب الواجبات تغييرَ نظرتنا إلى التّعليم الابتدائيّ إن أردنا الجدّيّة في إصلاح وضع اللّغة العربيّة، فنوليه كلّ اهتمامنا، ونختار له أكفأ المعلمين علماً وأتقنَهم لغةً وأكثرَهم خبرةً بأصول التّربية والتّعليم، ونَخُصُّهم بأفضل الرّواتب، ونشجِّعهم بمختلف الحوافزالماديّة والمعنويّة. وهكذا تفعل الأمم الحيّة والدّول المتحضّرة : تعرف للمرحلة الابتدائيّة أهميّتها، وتَقْدُرُها قدرها، وتُدْرِك أنّها المرحلة الّتي تَبْنِي الطّفل بناء ًعلميّاً ولغويّاً سليماً، وتُعدُّه إعداداً تربوياً جيّدا.
يقول الدّكتور/ رمضان عبد التوّاب: ولقد رأيتُ في ألمانيا معظم َمدرّسي هذه المرحلة (أي الابتدائية) مّمن حصلوا على درجة الدّكتوراه في التّربية وعلم النّفس، والدّولة تكرّمهم، وتمنحهم أعلى الرّواتب ليعيشوا في حالة استقرار ورضىً، وهي حالة لابدّ منها لكلّ من يراعي الأمانة، ويؤدّي واجبه في تشكيل هذه العجينة اللّينّة: طفل اليوم ورجل المستقبل، بما يرضي الله ورسوله، ولكي يتسنّى لهم فهمُ تلك البراعم الصّغيرة، فيلقّنوهم العلم وهم قريبون إليهم، يلتصقون بهم، ويلعبون معهم.
نعم، فهذه المرحلة هي أهمّ المراحل، وهي الّتي يحبو فيها الطّفل على مدارج القراءة، ويعشَق فيها الكتاب أو يكرهه، ويُقْبِل على اللّغة أو يَمْـفُـتُها إلى الأبد".
ولا يعني الاهتمام بمدرّس اللّغة العربيّة في المرحلة الابتدائيّة صرف النّظر عن الاهتمام بمدرّس اللّغة العربيّة في المراحل التّعليميّة الأخرى ؛فالمدرّس هو قطب الرّحى، وأساسُ العمليّة التّعليميّة في كلّ أطوارها ومراحلها، ويجب أن يُعَدَّ إعداداً جيّداً حيثما كان، حتّى يُعطيَ ويُنجزَ ونَجْنِيَ ثمار عطائه وإنجازه، ولكن ركّزنا على المرحلة الابتدائيّة لحساسيّتها واعتماد المراحل التّعليميّة الأخرى عليها.
وبعد ضرورة إعداد مدرّس اللّغة العربيّة – وخاصّة في المرحلة الابتدائيّة – إعداداً جيّداً، واختيار ذوي الكفاية والخبرة والتّجربة لتعليم هذه المادّة الحيويّة، تأتي مسائل تعليميّة أخرى لابدّ من أن يشملها الإصلاح والتّطوير حتّى تُسْهِمَ بنصيبها في علاج الضّعف اللّغويّ العامّ. ومن بين هذه المسائل:
1. تخليص الدّرس النّحوي من العلل الكثيرة الّتي أثقل بها كاهله بلا داع، وتحريره من القوالب الجافّة الّتي يُجْبَرُ الطّالبُ على حفظها وهي لا تُغني عنه شيئاً، ولا يحتاج إليها في التّطبيق العملي للّغة.
فعلى سبيل المثال: يكفي أن نعلِّم الطّالب أنّ الحركاتِ الثّلاثَ مقدَّرةٌ على الاسم الّذي آخره ألف لازمة ولو لم نسمِّه باسم الاصطلاحي وهو (المقصور)، ولا داعيَ لذكر علّة عدم ظهور الحركات بأنّه التّعذّر، ويكفي أن نعلِّم الطّالب بأنّ الضّمّة والكسرة مقدَّرتان على الاسم الّذي آخره ياء لازمة، ولو لم نسمّه باسمه الاصطلاحيّ وهو (المنقوص)، ولا داعيَ إلى ذكر علّة عدم ظهور الحركتين بأنّه الثّقل، ويكفي أن نقول في خبر(ليس) المجرور بالباء الزّائدة إنّه منصوبٌ محلاًّ، ولا لزوم إلى الشّريط الطّويل الْمُـمِلّ وهو أنّه خبر(ليس) منصوب بفتحة مقدَّرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحلّ بحركة حرف الجرّ الزائد، ويمكن أنّ نقول في مثل: " نشِط وتحرّك سعيد" إن لفظ (سعيد) فاعل للفعلين، ولا لزوم لحشو ذهن الطّالب بالخلاف الّذي لا طائل من ورائه حول هذه المسألة.
وما يُقال في درس النّحو يقال في درس الصّرف، وإن كان الصّرف أكثر تَعقيداً وأثقل بالأعباء . ويمكن الاستئناس في هذا المجال بما قدّمته المجامع اللّغويّة العربيّة والمؤسّسات اللّغويّة المتخصّصة من دراسات وبحوث واقتراحات ومقرَّرات في شأن تيسير تعليم النّحو والصّرف وتصفيتها من الشّوائب الّتي خالطتْها وعقّدت درسهما.
أما التّفصيلات، وذكر الخلافات الاجتهاديّة، وما جاء شاذّاً وخارجاً عن القواعد العامّة، وما ورد من اختلاف اللّهجات العربيّة، فمحَلُّه الدّراساتُ العليا المتخصّصة، ولا ندعو إلى إهماله وتركه، لأنّه من التّراث الّذي نعتـزُّ به، ومن الذّخائر الّتي يمكن الاستفادة منها.
2. الأخذ بمذهب الكوفيّين النّحويّ في المسائل اللّغويّة الّتي يُجيزها الكوفيّون ويمنعها البصريّون، ففي ذلك تيسير للّغة، وتخفيفٌ من قائمة الممنوعات فيها، وتقليلٌ من مظاهر الضّعف اللّغويّ لدى الكتّاب والمثقّفين، من ذلك: جواز النّسبة إلى الجمع الباقي على جمعيّته، وجواز تعريف العدد المفرد في نحو: الخمسة كتب، وجواز نحو : "هل سعيد سافر" مطلقاً شعراً ونثراً، وجواز نحو:"ما أبيضَ هذا الثّوب"، وجواز تثنية "حمراءين" بدون قلب الهمزة واواً كما يوجب البصريّون، وجواز تصغير "ناب" على "نُوَيْب" وتصغير " شيخ" على "شُوَيْخ" وغير ذلك كثير.
3. نَبْذ طريقة الحفظ والتّلقين في التّعليم، تلك الطّريقة التّقليديّة الّتي جمّدت عقول الطّلبة، وجعلتْ أدمغتهم مجرّد أوعية تُحشَى فيها حرفيّة المعلومات والقواعد، ولابدّ من اتّباع الطّرق العلميّة والتّربويّة الّتي تهتمّ بفهم الطّالب، وتُوسّع مداركه وآفاق تفكيره، وتُشجعه على الإبداع والابتكار، وتُمَكّنه من تكوين القدرة على تطبيق القواعد اللّغويّة تطبيقاً عمليّاً، وتصله بالكلام الفصيح وتُرَبِّي ذوقَه عليه.
إنّ أسلوب الحفظ والتّلقين هو الّذي عطّل وظيفة علوم اللّغة في مدارسنا ومعاهدنا، حيث يحفظ الطّالب التّعريفات كما هي في الكتاب المقرّر، ويحفظ الأمثلة القلية الجافة لا يتجاوزها، وتأتي أسئلة الامتحان داعمة لهذا الحفظ، مخاطبة ذاكرةَ الطّالب لا فَهْمَه، ويتجاوزها الطّالب الامتحان بهذه الطّريقة حتّى يصل إلى الجامعة، فلا يتغيّر عليه فيها جوّ الحفظ والتّلقين، ولا يخرج من نطاق المذكّرات والكتب المقرّرة ونقل ما فيها إلى الذّهن كآلة التّسجيل، ويتخرّج وهو خاوي الوفاض من المهارات اللّغويّة اللاّزمة، وينقُل ضعفهَ اللّغويّ معه إلى وظيفيه وعمله بعد التّخرّج.
4. والكتاب التّعليميّ من أهمّ الجوانب الّتي يجب أن يتوجَّه إليها الإصلاحُ والعلاج، لأنّ نجاح التّعليم في غرس عادة القراءة لدى المتعلّمين، من شأنه أن يِّقويَ لغتهم، ويعالجَ ضعفهم اللّغويّ، ويُتيحَ لهم فرصَ الاطّلاع على النّصوص الفصيحة، وكثرةَ الاحتكاك بأساليب التّعبير المختلفة، فيتأثّرون بذلك أطيب التّأثّر، وينعكس عليهم تحسيناً للغتهم وتطويراً لقدراتهم التّعبيريّة وتقليلاً لأخطائهم.
ومع الأسف فإنّ تعليمنا العربيّ فشِل في تحبيب القراءة إلى المتعلّم، ولم يستطيع أن يعقد صداقةً تربط المتعلّم بالكتاب، وتجعلُ القراءة عادةً تلازمه طول حياته. ويدلّ على ذلك نسبة القارئين المتدنِّية جدّاً في الوطن العربيّ بمقارنتها بنسبة القارئين في الدّول المتقدّمة. ولابدّ من إعادة النّظر في الكتاب المدرسيّ العربيّ، وجَعْلِه كتاباً مُشَوِِّقاً، يَشُدُّ إليه الطّالب شدّاً، ويُثير خيالَه ويُحَرِّك مكامِنَ الإبداع في نفسه، ويُحَبِّبُ إليه القراءة حتّى تكونَ له عادةً يُحَسِّنُ من خلالها لغته، ويُوَسِّعُ مداركه، وينمِّي باستمرارٍ رصيدَه الثقافيّ والمعرفيّ.
5. ضرورة إلزام المدّرسين وخاصّة مدرّسي اللّغة العربيّة شرحَ الدّروس والتّحدُّثَ إلى الطّلبة باللّغة العربيّة الفصحى السّليمة من اللّحن وأخطاء النّطق، والابتعاد عن الشّرح والتّحدُّث باللّهجة العامّيّة، لأنّ الطّالب يتعلّم اللّغة ويتشرَّبُها من إلقاء مُدرّسه، وطريقة أدائه للكلام وسلامة لغته، وحسن نطقه للحروف من مخارجها، أكثر مّما يتعلّمه ويتشرَّبُه من القواعد والمعلومات المسطَّرة.
إنّ من أسباب ضعف طّلابنا في اللّغة العربيّة تحدُّث مدرّسيهم لهم باللّهجة العامّيّة، وقد علمتُ من عدّة أشخاص أثق بصدقهم أنّ بعض الأساتذة في الجامعة يدرّسون لطلبتهم علوم اللّغة العربيّة ومن بينها الأدب باللّهجة العامّيّة، فضلاً عن شيوع التّدريس باللّهجة العامّيّة فيما دون الجامعة.
واللّغة الفصحى الّتي نعنيها وندعو أن تكونَ لغةَ التّدريس في كلّ مراحل تعليمنا، هي اللّغة المبسَّطة الميسَّرة الّتي تُسْتَعمل فيها المفردات الواضحة، والجملُ القصيرة، والتّركيباتُ السّهلة غير المعقّدة. وقد يكون من المفيد أن يستعمل المدرّسَ الكلمات العربيّة الصّحيحةَ المبثوثة في اللّهجات العامّيّة – وهي كثيرة – بعد أن يصحّح تحريفَها إن كان فيها تحريف، ويُعيدَ إليها صياغتها الفصيحة، ففي هذا الاستعمال ما يساعد الطّلبة على فهم الكلام واستيعابه، حيث يَسْتَأْنِسون بكلمات كثيرة مألوفة لديهم، وفيه ردُّ الاعتبار لكلمات عربيّة صحيحة جَنَت عليها العامّيّة بشيء من التّحريف.
6. الاستعانة في تعليم اللّغة العربّية بالوسائل السّمعيّة والبصريّة الحديثة، كمختبرات اللّغة وأجهزة الاستماع، والأشرطة المرئيّة، والشّرائح المصوّرة وأقراص الحاسوب، وغيرها، إذ لابدّ أن نستفيد من مخترعات العصر في هذا المجال، ونساير التّطوّرالعالميّ في وسائل التّعليم، ونقتبس من غيرنا ما يعود على لغتنا بالنّفع.
هذه أهمّ جوانب الإصلاح اللّغويّ في مجال التّعليم الّذي يتحمّل الجزءَ الأكبر من المهمّة، وهناك جوانب أخرى لها التّأثير المكمِّل الفعّال في علاج الضّعف اللّغويّ العامّ، ونذكر منها ما يأتي:
– العمل بجدّيّة ونشاط على نشر قرارات المجامع اللّغويّة العربيّة والمؤسّسات المختصّة الأخرى على أوسع نطاق ممكن في مختلف وسائل النّشر والإعلام، والتّشجيع على تبنّيها وتطبيقها واستعمالها في الكتاب المدرسيّ والكتاب العامّ والصّحف والمجلاّت والإذاعات المسموعة والإذاعات المرئيّة والإعلانات والنّشرات والرّسائل والتّقارير والمذكّرات والبحوث والدّراسات والمحاضرات والنّدوات وحلقات النّقاش ولغة التَّخاطب وغيرها، إذ في تلك القرارات تيسير للغة، وتطوير لها، وجَعْلُها مُلَبِّيَةً لحاجات العصر، وتخفيفٌ من الأخطاء فيها، ومنحُ الكاتبين والقارئين أوسعَ مساحةٍ ممكنةٍ من حرّية التّعبير بلا حرج. ويشمل ذلك المجالات الآتية:
أ) مجالات المفردات الجائزة الصّحيحة، مثل تقييم لتقدير قيمة الشّئ، وجمع (فَعْل) على (أفعال) مطلقاً بلا قيد، وجمع (مفعول) على (مفاعيل) للعاقل وغير العاقل، وبَرْمَجة وجَدْوَلة ومَنْهَجَه، وتربويّ وتنمويّ وتعبَوِيّ، ولا أخلاقيّ واللاّشعور، ومبيوع ومديون (على لغة بني تميم)، والتّحوير بمعنى التّغيير، وبديهيّ وطبيعيّ وعقيديّ، وإلحاق التّاء الفارقة في صَبورة وشكورة، وجمع (فَعول) جمع مذكّر سالماً، وجمع (باسل) على (بواسل)، وقيمِّ بمعنى حسن، والعَمالة للدّلالة على العمل والعُمّال… إلخ.
ب) في مجال الجمل والتّعبيرات الحديثة، مثل: قال ذلك كسفير، وصَادَّق الرئيسُ على القرار، وسافر فلان في مُهِمَّة، وسارت المفاوضات خطوةً خُطْوَة، وحبّذا لو صَبَرْت، هَبْ أنّي فعلتُ كذا، وحضر ما يقرُب من ثلاثين رجلاً، مشى بصورة جيّدة، قال ذلك بصفته مسؤولاً، عاش الشّاعُر الأحداث، مهما قلتَ فلن أُؤاخِذَك، فعلتُ نفسَ الشّئ وناقشتُ نفسَ الموضوع، استهدفت الخُطّةُ زيادةَ الإنتاج، مادمتَ مديراً فأنت المسؤول، أنجبَ فلان بنتاً، رصَدَ فلان مالاً …إلخ.
ج) في مجال المقابل العربيّ لألفاظ أجنبيّة متداوَلة، مثل المفكّرة مقابل "الأجندة"، والبرنامج مقابل "بروجرام"، والمِلفّ مقابل "الدُّوسِيه"، والمحفوظات مقابل"أرشيف"، والقسيمة مقابل" الكوبون"، والبطاقة مقابل "الكارنيه"، والسِّرداب مقابل"البدروم"، والفصل الدّراسيّ مقابل "التِّرم"، والرّتابة مقابل "الرّوتين"، والصّكّ مقابل " الشّيك"، الشُّرفَة مقابل "البلكون"، والمصباح مقابل "اللّمبة"، والأجر الإضافّي مقابل "الأوفر تايم"…إلخ.
– ضرورة تعيين مراجع لغويّ متخصّص أو مراجعين – على حسب حجم العمل- في دُور النّشر والصّحف والمجلاّت ومؤسّسات الإعلان، بحيث لا تُطْبَعُ أيُّ مادّة مكتوبة إلاّ بعد مراجعتها وتصحيح أخطائها الإملائيّة والنّحويّة والصّرفيّة والتّعبيريّة، ووضع علامات التّرقيم في وضعها الصّحيح.
– ضرورة تعيين مراجع لغويّ متخصّص أو مراجعين – على حسب حجم العمل – في كلّ إذاعة مسموعة وإذاعة مرئيّة، بحيث لا تذاع أيّ مادّة كلاميّة في نشرة الأخبار أو التّعليقات أو البرامج المتنّوعة أو الإعلانات أو غيرها، إلاّ بعد مراجعتها وتصّحيحها وتشكيل أواخرالكلمات أو تشكيل بعض المفردات تشكيلاً كليّاً أو جزئيّاً على حسب ما يراه المراجع ضروريّاً.
– ضرورة تعيين مراجع لغويّ متخصّص أو مراجعين في الشّركات والمؤسّسات والمصارف والإدارات لتصحيح ما يُكتب من برقيّات، وطلبات، ودعوات وجداول أعمال جلسات، ومحاضر، ورسائل، وتقارير، ومذكّرات، وغيرها، قبل طباعته وبعدها للتّحقّق من السّلامة اللّغويّة.
– التّشدّد في اختيار العاملين والموظّفين والمحرّرين المختصّين بالكتابة في دُور الصّحافة، أو المختصّين بالقراءة والإذاعة في الإذاعات المسموعة والمرئيّة، بحيث لا يُختار لهذه المهن إلاّ الـمُجيدون للّغة المتقنون لاستعمالها، وذَوُو النّطق السّليم لحروفها، والأداء الحسن لجملها بالنّسبة للإذاعتين.
– ضرورة إعطاء المذيعين والمذيعات فرصةً لمراجعة ما يُطْلَب منهم قراءتُه قبل إذاعته بوقت كاف، ليتعرّفوا إلى المقروء، ويضبطوا كلماته بالحركات، ويُحدِّدوا النّبرات الصّوتيّة المناسبة لفقراته، ويستشيروا المراجع اللّغويّ فيما يلتبس عليهم.
– قيام المراجع اللّغويّ أو المراجعين بمناقشة المذيعين والمذيعات في أخطائهم اللّغويّة والصّوتيّة، وتبيين وجه الخطأ ووجه الصّواب لهم، إذ بذلك يتعلّم المذيعون والمذيعات من أخطائهم، ويحرصون على عدم العودة إلى الخطأ بعد أن عرفوه.
– منع استعمال الكلمات الأجنبّية الدّخيلة المتداولة، وضرورة استعمال المقابل العربيّ لها، سواء أكان ذلك في الوسائل المكتوبة أم الوسائل المقروءة، ويُسْتَثْنَى من ذلك الأعلام والأسماء الأجنبيّة للشّركات أو البضائع وغيرها.
– ضرورة مراعاة كتّاب المسلسلات التّمثيليّة استعمال المقابل العربيّ لكلمات أجنبيّة متفشّية لا ضرورة لها، مثل: مِرْسِي، وبونجور،وبنسوار، ومدام، ومود مازيل، وبِزْنس … إلخ.
·التّقليل بقدر الإمكان من البرامج المذاعة باللّهجات العامّيّة المحلّيّة، وتشجيع البرامج المذاعة بالفصحى الميسّرة الّتي لا يستعصي فهمها على أحد.
– إقامة دورات في اللّغة العربيّة بين الحين والآخر لمحرّري الصّحف والمذيعين والمذيعات وغيرهم، لتقوية لغتهم، وعلاج أخطائهم، وتدريبهم على السّلامة اللّغويّة بكلّ جوانبها.
·تَشجيع الّذين يُظِهرون تحُّسناً في لغتهم، وتَطَوُّراً في إجادة كتابتهم أو قراءتهم، ونقصاً ملحوظاً في نسبة أخطائهم اللّغويّة، بكل وسائل التّشجيع المادّيّة والمعنويّة، كتوجيه رسالة شكر لهم، أو تكريمهم بمنحهم شهادات تقديريّة، أو منحهم العلاوات والمكافآت الماليّة، أو ترقيتهم إلى درجة أعلى، أو غير ذلك من الحوافز المشجّعة.
– الإكثار من المسابقات عبر وسائل الإعلام المختلفة في علوم اللّغة العربيّة وأنواع الكتابة من شعر وقصّة ورواية ومقالة وبحث، وتقديم الجوائز القيّمة للفائزين، مع اعتبار السّلامة اللّغويّة فيما يُقَدَّم إلى المسابقة شرطاً أساسيّاً وعنصراً مهمّاً في تقويم الأعمال ضمن العناصر الأخرى اللاّزمة لتقويم الإبداع.
– فتح مجامع اللّغة العربيّة والمؤسّسات اللّغويّة الأخرى، والمؤسّسات الثّقافيّة والتّعليميّة الرّسميّة والأهليّة، مواقع لها على (الإنترنيت) تبَثُّ فيها مقرّراتها وأعمالها، وتقدّم المعلومات والدّروس المبسَّطة لتعليم مواعد اللّغة، وأخرى لتعليم العربيّة لغير النّاطقين بها، وتردّ على الشُّبه المثارة حول اللّغة العربيّة، وتنبّه على الأخطاء الشّائعة وتدلّ على الصّواب، وتقاوم الكلمات الأجنبيّة وتبيّن المقابل العربّي لها، وتجيب عن أسئلة المتّصلين بها حول اللّغة وقضاياها. وبصورة عامّة تقدّم كلّ ما هو مفيد لخدمة اللّغة العربيّة ونشرالوعي بها، وتحبيبها إلى أهليها، ومساعدتهم على استيعابها والتّخلّص من ضعفهم فيها.
إنّ (الإنترنيت) هو وسيلة العصر في الحاضر والمستقبل، وهو آخذٌ في الانتشار والتّوسّع بسرعة مذهلة، ولا يُسْتَغْرب أن يَقْتَحِمَ خلال سنواتٍ كلّ بيت ومدرسة وإدارة كما اقتحم المذياعُ والتّلفاز، وعلينا أن نستغلَّ هذا الاختراع الإنسانيّ العظيم في خدمة لغتنا وتطويرها وتوصيلها إلى أكبر عدد ممكن من البشر.
– العمل بالطّرق المناسبة، ولو بإصدار التّشريعات اللاّزمة، للقضاء على الظّاهرة المنتشرة في معظم البلاد العربيّة، وهي تَفَشِّي الأسماء الأجنبيّة للمحالّ التّجاريّة ومحالّ المهن والحِرف، ومحالّ التّصوير والفنون، والفنادق، والمقاهي، والمطاعم، والمنتَجات الوطنيّة على اختلافها، الشّركات العربيّة على تنوّعها، وغير ذلك، حتّى أصبح من النّادر أن تعثر على لافتة مكتوبة باسم أو عنوان عربيّ في أسواق بعض البلاد العربيّة ومكاتبها، وهو مظهر من مظاهر الغزو الثّقافّي الأجنبيّ يعلن عن نفسه في لافتات مكتوبة بأسماء أجنبيّة بالخطّ العربيّ العريض.
أمّا الأسماء الأجنبيّة الوافدة إلى البلاد العربيّة من الخارج، فلا سبيل إلى إلغائها، لأنّها أجنبيّة أصلاً، ومسمّاة باسمها الأجنبّي من بلادها، وذلك كأسماء الفنادق العالمية، وأسماء شّركات الطّيران العالميّة، وأسماء شّركات السّيارات والأدوية وغيرها، وأسماء البضائع المستوردة الدّاخلة بأسمائها التّجاريّة المسجّلة رسميّاً.
– العناية الكافية بلغة البرامج الإذاعيّة المسموعة والمرئيّة المقدمة إلى الأطفال، بحيث يُختار لها أصحابُ الإلقاء الجيّد والأداء الصوتيّ الحسن، وتُراعَى فيها السّلامة اللّغويّة من كلّ الوجوه، مع العرض الفنّيّ المشوِّق، واستخدام الوسائل السّمعيّة والبصريّة المفيدة لِتَّشُدَّ بذلك الأطفال إليها، وتُحبِّبَ إليهم لغتهم، وتُلَقِّنَهم إيّاها تلقيناً سليماً.
– الإكثار من البرامج اللّغويّة المتنوّعة في الإذاعتين المسموعة والمرئيّة، بطريقة الشّرح المباشر، أو عرض الشّرائح واللّوحات، أو الحوار، أو المشاهد التّمثيليّة، أو الأسئلة المباشرة من المستمعين والمشاهدين للّردّ عليها من مختصّين في اللّغة، أو غير ذلك ممّا هو مفيد لخدمة اللّغة وأهلها، مع استخدام وسائل التّشويق، وإمكانات التّصوير والإخراج الجذّابة.
– تشجيع تكوين الجمعيّات الأهليّة لحماية اللّغة العربيّة والدّفاع عنها، على غرار الجمعيّة المكوَّنة في إمارة الشّارقة بدولة الإمارات العربيّة المتّحدة الّتي سمعتُ أن لها جهداً مشكوراً في نشر الوعي اللّغويّ وخدمة العربيّة.
– تشجيع الكتاب العربّي والعمل على نشره ودعمه من الدّول العربيّة كما تدعم السّلع التّموينيّة، إذ لا يقلّ زادُ العقول أهميّةً عن زاد البطون، وكلّما كان الكتاب رخيصاً وفي متناول صاحب الدّخل المحدود، كان أوسع انتشاراً، وأدعى إلى زيادة نسبة القارئين. ولاشكّ أنّ القراءة عامل مهمّ في تحسين اللّغة، وتقوية الضّعف فيها، وتنمية المهارة في استعمالها، فضلاً عن أهميّة القراءة في تنمية الأفكار، وتوسيع آفاق المعرفة، ورفع المستوى الثقافيّ العامّ بين أفراد الشّعب.
ختاما :
فهذا ما يسّر الله لي تسطيره من أسباب علاج الضّعف العامّ في اللّغة العربيّة ووسائله، وهي أسباب ووسائل متداخلة ومتكاملة ومتعاونة ويخدم بعضها بعضاً، وتتضافر جميعُها في إنقاذ لغتنا ممّا يهدّدها من خطر،والوقوف بصرامةٍ في وجه التّحدّيات الشّرسة التي تتربّص بها دوائر السّوء.
وستظل هذه الأسباب والوسائل وغيرُها مّما يقترحه الآخرون حبراً على ورق لا تخرج عن نطاق الكلام النظريّ، ما لم تُؤْخَذْ بالمسؤوليّة الكبيرة المناسبة لضخامة المشكلة اللّغويّة، وما لم تَرْقَ قضيةُ اللّغة إلى مستوى قضايا الحياة أو الموت الّتي تتطلّب الجهادَ بكلّ تضحياته وجراحه، وما لم تعلن الأمّة التّعبئة العامّة للدّفاع عن هذه اللّغة الشّريفة الّتي تناوَشَتْها السّهام الحاقدة من كلّ مكان. إنّنا مطمئنّون كلّ الاطمئنان، وواثقون كلّ الثّقة، بوعد الله الّذي تكفّل بحفظ كتابه العزيز: (إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون)، وحفظُ كتاب الله ضمانٌ لحفظ لسانه العربّي المبين، ولكنّ ذلك لا يمنعنا من واجب الأخذ بالأسباب، وطَرْقِ الأبواب، والعملِ ليرى الله عملنَا ورسولُه، وتغيير ما بأنفسنا حتّى يغير الله ما بنا.
وشكرآ جزيلا ل اختنا عيوز مشكلجيهـ
لا هنتوا