كيف الحال
بليزززززززز بغيـــــــــــــت تقرير عن أحكام الاسلام و آدابه
وبـــــــــث
الفهرس ..
1 ـ ماذا يعني الحلال والحرام
2 ـ الاصل الابَاحة
الخبث ـ الفحش ـ المنكر
3 ـ ماذا يَعني الحكم
4 ـ أقسامَ الحكم
1 ـ المباح
2 ـ المستحب
3 ـ المكروه
4 ـ المحرم
5 ـ الواجب
5 ـ لكل واقعة حكم
6 ـ الضرورَة وتغيّر الحكم
7 ـ أهمّ المحرَّمات في الاسلام
8 ـ الاجتهاد
الاجتهاد
كيف يمارس الفقيه عملية الاستنباط
لماذا يختلف الفقهاء
أسباب الاختلاف
ضوابط موضوعية
من هو الفقيه
التقليد
الهوامش
1 ـ ماذا يعني الحلال والحرام
يحمل الكائن البشري بين جنبيه طاقة خلاقة هائلة ، ويملك ارادة قائدة فاصلة ، يستطيع عن طريقها أن يوجه الطاقات والامكانات الوجهة التي يريدها: فهو بهاتين الوسيلتين ـ القدرة والارادة ـ يستطيع أن يحدث أي فعل يمكن أن يقع في حدود دائرتهما ، أو يتجنب حدوثه ووقوعه فيبتعد عنه . . .
فالبقدرة على صنع الافعال واحداث ماهيتها واخراجها من مرحلة الامكان إلى التحقيق الفعلي يستطيع أن يفعل ما يشاء من الافعال البشرية . فهو يستطيع أن يأكل ويشرب ويزرع الارض ويصنع الطائرة والدواء ، ويبني المدن وينظم المصانع و . . . الخ كما يستطيع أن يمارس القتل وشرب الخمر والظلم والتخريب . . . الخ .
وبالارادة التي يسيطر بها على قواه المختلفة ، ويتمكن من استخدام هذه القوى وتوجيهها الوجهة التي يشاء ، يستطيع أن يختار ويقرر الافعال المختلفة في صفتها وطبيعتها . . سواء الخيرة النافعة منها ، أو الشريرة الضارة ، وبالارادة يستطيع أن يوقع الفعل المتطابق مع فكرة الخير العام فيتطابق بهذا الاختيار مع مسيرة الوجود الخيرة ، ليضيف إلى سلسلة الخير حلقة جديدة ترتبط بها وتوسع دائرة تأثيرها ، فيكون بفعله هذا قد أحدث وجوداً خيراً ـ أي حسناً ونافعا ـ كامتداد لنوازع الخير الكامنة في أعماق الذات البشرية مع الموضوعات والاشياء القابلة لايجاد مثل هذه النتيجة . . .
وبذا يصبح هذا الفعل جائز الحدوث والوقوع في عالم الوجود لانه انماء لفكرة الخير والحسن في هذا العالم ، بعد أن كان ممكناً للانسان ومقدوراً لامكانياته في مرحلة الاستعداد والامكان؛ فيسمح له الاسلام بإحداثه وايقاعه لانه متطابق مع ارادة الخير ، ولا يشكل خطراً على مسيرة الحياة .
ويطلق الاسلام على هذا الفعل اسم المباح أو الحلال؛ فيمنحه جواز الوقوع والحدوث؛ لانه خال من الضرر والفساد ، ولان في حسن توجيهه واستعماله خيراً للبشرية .
وكما استطاع الانسان باختياره أن يمارس العمل المباح ليضيف حلقة جديدة من الافعال الانسانية النافعة؛ فإنه يستطيع كذلك أن يختار أفعالاً ومواقف تتناقض مع استمرار مسيرة الوجود الخيرة ، وتجهض نموها وأهدافها . . كالظلم والغش والزنا والسرقة . . . الخ .
لذلك فالاسلام يحظر عليه مثل هذا السلوك ، ويسمى هذا الحظر حراما . . . .
وهو بعد ذلك ـ الاسلام ـ يكرس كل الوسائل لاجتثاث أسباب وجود هذا الحرام ودواعي حدوثه .
وينطلق الاسلام في عملية تقويم الافعال وتشخيصها كالظلم وشرب الخمر والاكل والشرب والكسب والتملك . . . الخ من مبدأ: (أن لكل فعل أوصافاً وآثاراً ترتبط بذات الفعل وماهيته ، وهي التي تقرر جواز فعله ـ أي تجعله حلالاً ومباحاً ـ أو عدم جواز فعله – أي حراماً وممنوعاً-) .
فالاسلام إذن لم يحرم أو يحلل اعتباطاً . . بل ينطلق في اصدار أحكامه هذه من أسباب وآثار الفعل وطبيعته .
وهذه المقدمات والاسس التشريعية تقودنا إلى استنتاج مفهوم الاسلام عن الحرام ، وسبب اعتباره بعض الافعال والمواقف السلوكية الانسانية نشاطاً محرماً دون غيرها من النشاطات الانسانية الاخرى . . . فنعرف أن الاسلام لم يحرم الفعل المحرم ولم يحظره إلاّ لسبب وعلة تكمن في أثر الفعل وطبيعته . . . وليس هدف الاسلام من التحريم هو فرض السلبية والتضييق على الانسان والتنكر لطيبات الحياة . . بل الهدف من التحريم هو الحفاظ على سلامة الحياة وانتظام مسيرة الانسان .
ومن استقرائنا ومتابعتنا للمحرمات في الاسلام ندرك أن العلة في تحريم أي فعل هي الضرر والخطورة الكامنة في هذا الفعل . . تلك الخطورة التي يرتد أثرها السلبي الهدام على الانسان والحياة ، وعلى العلاقة بخالق الوجود ، ورب الانسان . لذلك قيل: (جاء الاسلام لدرء المفاسد وجلب المصالح) .
وقد استطاع الانسان بتقدم العلوم والمعارف ، وتنامي الوعي والفهم العلمي والاجتماعي أن يشخص كثيراً من أسباب التحريم والحظر في الاسلام . . كالخمر والزنا والربا والاحتكار . . . الخ .
2 ـ الاصل الابَاحة
خلق الله الانسان على سطح هذه الارض ، ويسر له سبل العيش والحياة فيها ، فجعل الارض وما فيها وما عليها لصالح الانسان ، وأحاطها بنظام كوني يلائم ظروف الحياة عليها .
فجعل علاقة الشمس والقمر ، والجاذبية ، والغلاف الغازي . . . الخ علاقة مناسبة للحياة على الارض .
وهيأ للانسان على سطحها وفي باطنها كل مستلزمات الحياة والتطور فيها . . . فجعل النبات والحيوان ، والبحار والانهار ، والمعدن ، كلها في خدمة الانسان ، ومن أجل توفير مصالحه وتيسير حياته، وأحاطه بالنعم والخيرات ، وآتاه من كل ما يحتاج اليه في حياته ، دونما نقص ، أو خلل في نظام التكوين والعلاقة في عالم الانسان والحياة .
وان في هذا الابداع والاتقان لمن يتأمله بوعي وصفاء لدليلاً على دقة التكوين ، واتقان نظام الخلق ، بحيث لا يشاهد خللاً ، ولا يجد اضطراباً في نظام الحياة ، أو في علاقة الانسان بالطبيعة؛ فالانسان يجد كل ما يحتاج اليه في هذا الوجود . . . من طعام ، وشراب ، وهواء ، ونور وحرارة ، ورطوبة . . الخ: (أَللهُ الِّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والاَرضَ وأَنزَلَ مِنَ السَّماء مَاءً فأَخْرَجَ بهِ مِنَ الَّثمَرَاتِ رِزْقاً لَكُم وسَخَّرَ لَكُم الفُلْكَ لِتَجْريَ في البَحر بأَمْرِه وَسَخَّرَ لَكُم الاَنهَارَ* وسَخَّرَ لَكُم الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْن وسَخَّرَ لَكُم اللَّيلَ والنَّهارَ* وآتاكُم منِ كُلّ مَا سَأَلُتمُوه وإِنْ تَعُدُّوا نِعمَة الله لا َتُحصُوهَا إِنَّ الاِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفِّارٌ) .(ابراهيم/ 32 ـ 34)
كل ذلك لئلا يضطرب نظام الحياة ، أو يختل مبدأ التكوين الطبيعي لها . . فالانسان يجد في الطبيعة ، من الجاذبية وضغط الهواء ونسبة الاوكسجين وعناصر التربة ما يمكنه من العيش وممارسة الحياة بدقة وانتظام .
ولولا هذا الاتقان والضبط في نظام التكوين لتعذرت الحياة على الانسان ولاستحال العيش في رحاب الارض . . . وسبحان الله القائل: (صنعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيء إِنَّهُ خَبيرٌ بمَا تَفْعَلُونَ). (النمل/88)
ولولا اباحة هذه الاشياء جميعاً للانسان اباحة تكوينية لكان عسيراً عليه التصرف بها والاستفادة، منها ولكن الله بلطفه وعدله وحكمته قد مكن الانسان من الاستفادة من هذه الموجودات جميعاً ، ومنحه القدرة على استثمارها والاستفادة منها ، ومن ثم أباحها اباحة تشريعية ، بأن جعل للانسان حق الانتفاع بها والاستفادة منها ، في الحدود المقررة .
ومن هذا الترابط بين مبدأي الخلق والتكوين الطبيعي للانسان والحياة ، وحاجة الانسان إلى الموجودات من حوله ، وارتباط كيانه الجسدي والاجتماعي بها من جهة ، وبين اعطائه القدرة على الاستفادة من كل موجود يمكنه الانتفاع به من جهة أخرى، نستنتج أن مبدأ الاباحة هو الاصل في كل مستلزمات الحياة الانسانية ـ حسب الرأي المشهور ـ وأن كل شي في هذه الحياة مباح للانسان ، ومن حقه أن يمارسه ويستفيد منه إلاّ ما حرم عليه .
وما حرم عليه إلاّ كل ضار بنظام الحياة أو ما كان خطراً عليها ، ومتناقضاً مع الاساس التكويني لها .
قال تعالى: (ومَا لَكُم أَلاَّ تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عَلَيه وقَدَ فَصَّلَ لَكُم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُم إِلاَّ مَا اْضطُررْتمْ إلَيْه ، وإِنَّ كَثيراً لَيُضلُّونَ بأَهَوائهم بغير علم إنَّ ربَّك هو أعلم بالمعتدين).(الانعام/119)
(قُل تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيْكُمْ . . .) .(الانعام/151)
فالمحرمات في الاسلام هي أشياء معينة ومحددة ، وما عداها فقد جعل الاسلام الحياة وما فيها مباحة للانسان يتصرف بها كيف شاء ، ويستمتع بها أنى شاء ، وفق نظام ومنهج يحفظ مسيرة الحياة ، ويوفر الانضباط والاتزان السلوكي في كل نشاط وموقف إنساني . . . لذلك استنكر القرآن مواقف أولئك الذين يضيّقون الحياة على أنفسهم وعلى الآخرين ويجعلون ما أحل الله وأباحه للعباد ممنوعاً ومحرماً عليهم ، وتساءل مستنكراً هذا التصرف من الانسان:
(قُلْ مَن حَرَّمَ زينَةَ الله الَّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيبَاتِ مِن الّرزْق . . .) .(الاعراف/32)
فالاسلام إذن لا يستهدف من وراء مفهوم الحلال والحرام في الحياة حرمان الانسان ، وشل طاقاته ، وجعله يدور داخل اطار من الزواجر والنواهي السلبية . . بل ان موقف الاسلام هو العكس من ذلك تماماً وكما توضحه الآيتان السابقتان . . . فإنه يؤمن باباحة كل شي نافع ومفيد للانسان ويحرم الضار من الافعال والمواصفات التي تجلب الخطر أو تؤدي إلى الاضرار واضطراب الحياة الانسانية .
وقد أكد القـرآن في مواضع كثيرة من بيانه الالـهي الحكيم على هذا المبدأ ، وأوضحه بحصره للمحرمات في الخبائث والفواحش والمنكرات ، فقال تعالى:
(قُلِ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّي الفَوَاحشَ ما ظَهَرَ منْهَا ومَا بَطَنَ والاِثْم وَالبَغْيَ بغَير الحَقّ وأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لَمْ يُنَزّل بهِ سُلطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا على اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) .(الاعراف/33)
(أَلذينَ يَتَّبعونَ الرَّسول النَبيَ الاُميَّ الَّذِي يَجدونَه مَكتوباً عندَهم في التَوراةِ والانجيل يَأمُرهم بالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَن المُنكَر وَيُحلُ لَهُمُ الطَّيباتِ وَيُحرِّمُ عَلَيهمُ الخَبَائث وَيَضع عَنْهم إِصْرَهُم وَالاَغلالَ الّتي كَانَتْ عَلَيهم فَالَّذِينَ آمنوا بهِ ، وعَزَّروه وَنَصَروهُ واَّتَبعُوا النّورَ الَّذيِ أنزلَ مَعهُ أولئكَ هُم المُفلحونَ) .(الاعراف/157)
وهكذا تؤكد هذه الآيات بأن سبب الحرمة كامن في ذات الموضوعات المحرمة ، وليس أمراً اعتباطياً هدفه التضييق والزجر الذي لا غاية ولا مبرر له . وقد ركز القرآن هذه الاسباب في ثلاث صفات أساسية هي:
الخبث ـ الفحش ـ المنكر
وهذه الاوصاف الثلاثة هي تشخيص لصفة القبح والضرر في الموضوعات المحرمة ـ سواء المادية منها أو المعنوية-
وبالعودة إلى قواميس اللغة نستطيع أن نعرف الدلالات الحقيقية لهذه الالفاظ ونعرف من خلالها دواعي التحريم وغاياته .
فكلمة (الخبيث) تعني في لغة العرب: (ما يكره رداءة وخساسة محسوساً أو معقولاً)(1) .
(وخبث وخبثاء وأخباث وخبثة وخبيثات وخبائث: المستكره ، النجس ، كل شيء فاسد ، ـ كل حرام ـ وهو مستعار . الخبائث: ما كانت العرب تستقذره ولا تأكله ، كالافاعي والخنافس . والخبث ما كان في الذهب والحديد ونحوهما من الغش ـ ما لا خير فيه- ) .
أما الفحش فتعني في لغة العرب: (ما عظم قبحه من الاقوال والافعال) .
وأما كلمة المنكر فنستطيع أن ندرك معناها إذا عرفنا أن العرب تقول: (تنكر الرجل تغير عن حال تسره إلى حال يكرهها ـ تغير عن حاله حتى ينكر ـ ) . .
ومن هذا التحليل اللغوي لعناوين المحرمات ـ الخبائث – الفواحش ـ المنكرات؛ نعرف أن الاسلام لم يحرم بعض الموضوعات المادية . . كبعض المأكولات والمشروبات . . . أو قسماً من السلوك الانساني . . . إلاّ لانها تنطوي على هذه الصفات وتولد الآثار والنتائج الخطرة والضارة بحياة الانسان .
* * *
3 ـ ماذا يَعني الحكم
إذا أراد أحدنا أن يتابع الحياة الانسانية ، ويستقرئ ما يصدر عنها من أحداث ووقائع ومواقف ونشاطات ومعاملات يمكنه أن يقسمها كالآتي:
1 ـ قسم منها يخص علاقة الانسان بخالقه كالصلاة والصوم والحج . . الخ .
2 ـ قسم منها يخص علاقة الانسان بنفسه ، كالنظافة والطهارة والحفاظ على حياته . . . الخ .
3 ـ قسم منها يقع في دائرة علاقة الانسان بالآخرين ، كالعلاقة بالافراد والاسرة والمجتمع والدولة مثل حقوق الزوجية ، والميراث والتجارة والقضاء والسياسة وعلاقات العمل . . .الخ .
4 ـ قسم منها يمثل علاقة الانسان بالحيوان والنبات والطبيعة وما فيها من خيرات وثروات ، أو علاقته بالاشياء والمنتجات والمواد ، كالخمر والافيون والبول . . . الخ .
5 ـ علاقة الانسان العلمية والعقلية بكل ما سبق . . . الخ .
وكل هذه النشاطات والعلاقات متشابكة وتحتاج إلى تنظيم وبيان موقف محدد منها ، كالوجوب ، والحرمة والاباحة . . .الخ .
وان هذا التنظيم والتحديد الذي ينظم علاقة الانسان ومواقفه ونشاطاته نسميه (حكماً) . فمثلاً: حكم الاسلام بوجوب معرفة الله ، وبوجوب الصلاة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية ، وأباح خيرات الارض للجميع ، وحرم الظلم والخمر والغيبة ، وحكم بنجاسة البول ، وبأن الذي يقتل شخصاً عمداً عدواناً تربطه به رابطة الميراث لا يرثه . الخ .
فالاسلام في هذه الحالات نجده قد حدد الموقف ، وشرع القانون (أي أوجد حكماً) هدفه تنظيم الحياة والعلاقات الانسانية المختلفة وأن هذا الحكم صادر عن الله سبحانه . . وبذا يكون الحكم (هو التشريع الالهي المنظم لحياة الانسان وعلاقاته المختلفة) .
لذا كانت دائرة هذه الاحكام تتسع باتساع دائرة الحياة ـ صغيرها وكبيرها ـ ، وتشمل كل وقائعها .
فالشريعة الاسلامية تحوي بين جنبيها طاقة تشريعية عظيمة ، وقابلية فريدة على التوالد والعطاء القانوني .
وهذا هو سر خلود الشريعة ومصدر حيويتها وأصالتها ، فالمسلم يجد لكل ما يهم بفعله أو يصادفه حكماً تشريعياً ، فما من قضية صغيرة ولا كبيرة في الحياة ترتبط بعلاقة الانسان إلاّ ولها حكم ، وموقف شرعي محدد ، يبين تكليف الانسان ووظيفته العملية بطريقة قانونية واضحة ، جرياً على القاعدة الشرعية القائلة (ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم) .
ومنه يتبين أن الانسان المكلف في اطار التشريع الاسلامي يتمتع برؤية سلوكية واضحة ودقيقة من ناحية . . كما يملك مقياساً عملياً يستطيع بموجبه تحديد وضبط تلك الرؤية بصورة مستمرة . . . بما لديه من أحكام شرعية، من ناحية أخرى .
وأن هذا المقياس العملي متاح للانسان منذ سن التكليف الشرعي ليسير على هداه ، مما يحقق له السعادة ويجلب له المصلحة ، كما يدرأ عنه الشقاء والمفسدة ، ومن هنا نفهم قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لامته المسلمة متحدثاً عما جاء به من شريعة: «جئتكم بخير الدنيا والآخرة» .
4 ـ أقسامَ الحكم
لو تتبعنا سلوك الانسان اليومي ونشاطاته ومواقفه لصعب علينا حصرها واحصاؤها . . . ففي كل يوم تصدر من الانسان مئات الافعال والاقوال . . وتولد في نفسه شتى الافكار والاحاسيس . . فهو ـ مثلاً ـ يستطيع أن يأكل ويشرب وينام ويتزوج ويسرق ويزني ويقتل ويغش ويكذب ويصلي ويتعبد ويحتكر ويعطف على المشرد واليتيم ويضحك وييأس ويتفاءل ، وينتج العلاج ويصنع آلات التعذيب والدمار . . ويؤمن بالله ويكفر ويكتشف العلوم المعارف . . الخ .
ولو حاولنا أن نفحص هذ القائمة من السلوك البشري لوجدناها خليطاً من الخير والشر والحسن والقبح . . متفاوتة في درجات النفع والضرر العائد على الفرد الفاعل نفسه ، وعلى المجتمع الذي يتفاعل معه ، ويمارس نشاطه فيه . . لذلك فإن الاسلام نظر إلى مجموعة النشاطات الانسانية ـ من أعمال واقوال ومعتقدات ومشاعر ـ الصادرة عن الانسان باهتمام بالغ ، وجعلها موضوعاً لشريعته ، فقام بفهرستها ، وفرزها ، وتصنيفها؛ ليصف كل فعل ونشاط انساني بالوصف الذي يستحقه ـ وحسب طبيعته وأثره على الانسان نفسه ـ؛ لرسم الطريق أمام الانسان ، ووضع مرشد للعمل والسلوك بين يديه؛ يساعده على توجيه السلوك وصيانته من الشر والجريمة ، ويمكنه من توظيف واستخدام كل طاقاته في مجال الخير والبناء ، ويحفظ هذه الطاقة من الهدر والعبث والضياع ، لئلا تتحول جهود الانسان وطاقاته الخيرة التي وهبها الله له إلى معول هدم ، ومصدر محنة ومأساة للانسان . . . تمهيداً لتعبيده لله سبحانه ، وتمكينه من تحقيق مرضاته . .
وانطلاقاً من هذه الحسابات والاهداف ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام تندرج تحتها جميع الافعال والنشاطات الانسانية المختلفة بما يناسب حقيقة كل منها وطبيعته وآثاره السلبية والايجابية على حياة الانسان ومختلف علاقاته .
وهي كما قسمها العلماء كما يلي:
1 ـ المباح .
2 ـ المستحب .
3 ـ المكروه .
4 ـ المحرم .
5 ـ الواجب .
يتبع ..
وهو كل فعل أُعطي المكلف فيه حق الاختيار المطلق ولم يلزم أو يرجح له الفعل أو الترك .
فالمكلف في دائرة المباح يملك حرية الفعل والترك ، ولا يسأل عما يفعل أو يترك من الافعال والمواقف المباحة .
وأمثلة المباح كثيرة لا تحصى في حياة الانسان . . .
فمثلاً . . . المكلف حر في اختيار نوع العمل الذي يناسبه . . .
وهو حر في أن يبحث ويفكر في علوم الطبيعة والحياة . .
وهو حر في أن يختار الاسلوب المناسب لادارة المؤسسات الاجتماعية والسياسية . . . وهو حر في أن يختار نوع الطعام واللباس والسكن . . . الخ ، ويستعمل ما يلائم ذوقه وظروفه وامكانياته . . كل ذلك شريطة أن لا يخرج على الحدود والاستثناءات التي بينها له الاسلام .
والجدير بالذكر هنا هو أن دائرة المباح أوسع دوائر السلوك الانساني ، وأكثرها شمولاً لان الاصل في الافعال جميعها هو الاباحة ـ حسب الرأي المشهور ـ وكل شيء مباح للانسان ما لم يرد دليل شرعي يحكم بالحرمة .
2 ـ المستحب
وهو كل فعل حث الاسلام المكلف على أدائه ، واعتبر فاعله صانعاً للخير يستحق الثواب والرضى الالـهي . . . ولكنه لم يرتب عقوبة على تركه ، أو التهاون فيه ، بسبب تحقق الخير والمنفعة بفعله وعدم حدوث الضرر من تركه والغائه .
وأمثلة المستحب كثيرة ، ومفرداته متعددة في حياة الفرد والجماعة كالقاء التحية ، وزيارة الاصدقاء والجيران ، والصدقة والعناية بالاناقة وجمال المظهر والملبس . . . ومثل كثير من العبادات كالدعاء ونافلة الليل وصيام شهري رجب وشعبان وقراءة القرآن . . . الخ .
ويأتي تشريع المستحب تأكيداً لخطة الاسلام الرامية إلى التسامي المستمر بالفرد الانساني ، وتوفير أكبر قدر ممكن من الخير له في آخرته ودنياه . . .
وتساهم الافعال المستحبة مساهمة فعالة في انجاح هذه الاهداف التعبدية والاصلاحية . . . لان فعل المستحب تنمية لملكات الخير ، وتربية لنوازع الانسان الخيرة . . فهو يربي الاحساس والرغبة الذاتية في التسامي نحو الخير والتكامل ، ويحقق التفوق على الحد الادنى من الالتزام والاستقامة ، ويربي الشخصية على روح المبادرة والتطوع بفعل الخير .
كما يعبر فعل المستحب عن دافع أخلاقي رفيع يعمل المكلف في ظلاله من غير أن يشعر بالالزام والخوف . . فدافعه هو الحب والشوق نحو الكمال والتسامي المستمر في الحياة .
3 ـ المكروه
وهو كل فعل حث الاسلام المكلف على تركه لا على وجه التحتيم والالزام، واعتبر تاركه محباً للخير ، وباحثاً عن المصلحة ، ولكنه لم يشرع عقوبة على فعله لانه لم يبلغ حداً من الخطر والضرر المؤكد ، أو الفتاك كما هي الحال في الحرام . لذلك اكتفى الاسلام بالتنبيه عليه ، والحث على تركه ، لاحتمال وقوع الضرر ، أو الفساد منه .
ويساهم هذا التشريع مساهمة عملية في قطع الخطوط الموصلة إلى فعل الحرام . . وهو خطة احتياطية في عملية سد الثغرات والمسارب التي تقود إلى فعل الحرام وحدوث الخطر . .
ويشكل الحث على ترك المكروه العامل الثاني ـ إلى جانب الحث على فعل المستحب ـ لمساعدة التشريعين الاساسيين ـ الوجوب والحرمة ـ على الصعود بالملكات الانسانية ، والنوازع السلوكية نحو الرقي والتكامل لتفادي الضرر والفساد في الحياة والنفس الانسانية . . . والمكروه كالتبول في الماء الراكد ، والنوم حتى طلوع الشمس ، وأن يأكل المجنب أو يشرب شيئاً إلاّ بعد الوضوء أو المضمضة والاستنشاق ، أو الدعاية لغرض بيع السلعة . . . الخ .
4 ـ المحرم
وهو كل فعل الزم الاسلام المكلف بتركه ، ولم يسمح له بفعله ، ورتب العقوبة على فاعله . . . كما أوجب الثناء والثواب لتاركه، ويأتي تشريع الاسلام لقوانين الحظر والحرمة هذه كمكافحة لظاهرة الانحراف التي ينجرّ اليها الانسان بسبب الشذوذ وسوء التعبير عن الدوافع والغرائز والنزعات الانسانية . لذلك فان هذه القوانين ـ قوانين التحريم وأحكامه ـ تشكل العامل الوقائي الفعّال في حماية الفرد والمجتمع من الفوضى والفساد . والقضاء على مناشئ الخطر ومكامن الجريمة والتخريب . . إضافة إلى الآثار الظلامية التي تتركها على منطقة النفس الانسانية فتحجبها عن القرب الالـهي ، وتقطع عليها طريق التسامي في آفاق الخير والكمال البشري . . . فلانطوائها على هذه الاخطار النفسية والجسدية والروحية والاجتماعية نهى الاسلام عنها ، وشرع العقوبة القانونية والاجتماعية في الحياة على فاعلها . . كما رتب العقاب الالـهي عليها في عالم الآخرة ، جزاء على تجاوز الانسان ومجازاة على تجرئه .
ويوضح القرآن الحكيم سبب الحرمة والمنع في الاسلام ليبين أن الهدف من وراء هذا التحريم هو ليس احراج الانسان ، ولا استقباح الحياة واستنكار التمتع بلذائذها ، وجعل الانسان يعيش في ضيق من الحياة يطوقه الحرج والحرمان والتعامل السلبي من كل ناحية وصوب ، بل يستهدف الاسلام العكس من وراء ذلك تماماً كما يشير إلى ذلك النص القرآني الصريح:
(قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) .(الاعراف/33)
(الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) .(الاعراف/157)
والامثلة على المحرم كثيرة ـ كالقتل العمد ظلماً والرشوة وشرب الخمر واغتصاب أموال الناس ، وترويج الكتب والافكار الضالة والمنحرفة . . . الخ .
ـ الواجب
وهو كل ما ألزم الاسلام المكلف بفعله على وجه التحتيم ولم يسمح له بتركه ، ورتب الثواب على أدائه والعقاب على تركه . . . كالصلاة والصوم والزكاة والخمس والجهاد والحكم بالعدل ، وبر الوالدين ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقاومة الظلم والطغيان ، وحب النبي وأهل بيته ، والصدق والاخلاص ، واطاعة أوامر الدولة الاسلامية العادلة . . . الخ .
وهذه الواجبات والفرائض وأمثالها لم تشرع إلاّ لصالح الانسانية ، وحفظ نظام الحياة وتوفير خير البشرية في الدنيا والآخرة .
ولو حاولنا أن ندرس أحكام الوجوب وقوانينه دراسة تحليلية ، ونتقصى آثارها ونتائجها العملية في الحياة لوجدناها تساهم مساهمة فعالة في إقرار موازنة الحياة ، والحفاظ على قانون الطبيعة الانسانية ، وتنظيم العلاقة بين الانسان وخالقه من جهة ، وبين الانسان والمجتمع الذي يحيط به من جهة أخرى؛ لان فلسفة الواجب في الاسلام تبتني على أساس من جعل الواجب طرفاً في معادلة الفعل الانساني ، والحق والجزاء مقابلاً في الطرف الآخر . تعميقاً للاحساس بالمسؤولية ، واشعاراً بالعلاقة بين الحق والواجب ، وتضييقاً لدائرة الانانية ، وحرصاً على تربية الضمير الاخلاقي الذي يشعر الانسان بمفهوم العدل والمساواة ، فالانسان يدرك من خلال هذه القوانين والاحكام أن لكل واحد في ظل هذا المفهوم حقاً في الحياة ، وأن عليه واجباً لا تتوازن معادلة الحياة الاجتماعية والعلاقة التعبدية بالله سبحانه إلاّ باثبات تلك الحقوق ، وأداء هذه الواجبات .
ولو بحثنا عن سر الوجوب والتكليف في الشريعة الاسلامية لوجدناه يعود إلى إيمان الاسلام بأن الانسان بممارسته لهذه الافعال يضيف إلى سلسلة الخير حلقة جديدة ترتبط بها وتوسع دائرة تأثيرها ، فيحدث وجوداً خيراً ـ أي حسناً ونافعاً ـ يسلك كامتداد لنوازع الخير الكامنة في أعماق الانسان ، ويكون ثمرة طيبة ينتجها تفاعل الذات الخيرة مع الموضوعات والاشياء القابلة لاعطاء نتائج حسنة ونافعة للانسان؛ تصلح لان تكون مقياساً يقاس به الانسان ، وميزاناً تقوم به ذاته ومقاصده؛ لتكون أساساً لجزائه ومكافأته .
فلذا أصبحت مثل هذه الافعال حقيقة واجبة الحدوث والوقوع في عالم الانسان . . لانها انماء لفكرة الخير ، وتجسيد لصفة الحق في هذه الحياة ، وأداة لاختبار الانسان والكشف عن طبيعة علاقته مع الله تعالى .
وهكذا يتضح أن الشريعة الغراء قد استوعبت بأحكامها كل شؤون الحياة وجميع الوان النشاط الانساني بشكل دقيق ومحكم ومناسب .
ـ لكل واقعة حكم
أوحت نصوص الشريعة الاسلامية ومفاهيمها العامة للفقهاء وخبراء التشريع الاسلامي بصياغة القاعدة الفقهية الواسعة الانطباق (ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم) تعبيراً عن روح الشريعة ، وافصاحاً عن واقعها .
وبالبحث عن مصدر هذه القاعدة ومنبع اشعاعها نجد في القرآن والسنة النبوية نصوصاً كثيرة ـ كنا قد عرضناها في بحثنا السابق فلا حاجة لاعادتها –
غير أننا نسجل هنا نصاً للامام جعفر الصادق (عليه السلام) يؤكد المعنى نفسه ويعبر عن ذات المضمون .
فقد ورد عنه (عليه السلام): ((ما من شي إلاّ وفيه كتاب أو سنّة))(2) .
ولهذه القاعدة أثر فكري وتشريعي واسع، يساهم في تطوير حياة المسلمين وتنمية نشاطهم ، ومطابقته مع الشريعة الاسلامية لتوثيق العلاقة بين الانسان المسلم وبين خالقه .
فهذه القاعدة الواسعة العريضة تؤكد أنه ما من قصد أو فعل أو عمل يصدر عن الانسان ـ سواء أكان خيراً أم شراً . . نافعاً أم ضاراً . . . أم عديم الضرر والنفع بالنسبة للانسان ـ في مجال الفرد أو الجماعة إلاّ وقد بين الاسلام رأيه فيه ، ووصفه بما يناسبه من أوصاف الحرمة أو الوجوب ، أو الاباحة أو الكراهة أو الاستحباب .
فكل فعل يفعله الانسان مهما يكن صغيراً أو كبيراً لا بد وأن يكون موصوفاً ومعنوناً بأحد هذه الاوصاف والعناوين الخمسة . . . ولا بد أن يكون له حكم في الاسلام . . . أي لا بد وأن يكون للاسلام رأي فيه، أو موقف منه، ولا بد أن يدخل في دائرته التشريعية .
وهذا الشمول ، وهذه الاحاطة في الاسلام تعطي الانسان المسلم مقياساً شاملاً يقيس به الافعال ، ويقومها قبل الاقدام عليها .
كما تساعد هذه السعة التشريعية على ضبط السلوك ، وحماية المجتمع من العبث والفوضى ، وترسم للانسان طريق الوضوح القانوني والتعبدي؛ الذي يعينه على الالتزام وحفظ الحقوق والمسؤوليات والمصالح من الهضم والضياع ، وينمي عنده الوعي القانوني والاخلاقي ، ويربي فيه روح المسؤولية والانضباط، قبل أن يفكر فيه ، ويحدد واجبه ومسؤولياته الشرعية تجاه هذا العمل . . أو ذاك .
فهو يتـأمل في كل فعل وموضوع ، ويلتمس الرأي الشـرعي فيـه . . فإن وجـده واجبـاً ـ مثلاً ـ الزم نفسه بتنفيذه وأداء كل ما يرتبط به من مقدمات وشرائط وظروف؛ لُيتم واجبه ، ويؤدي مسؤوليته على أكمل وجه وأفضل صورة ممكنة . . وإن كان محرماً رفضه وابتعد عنه ، وعن كل ما يجر اليه ، أو يقود للتورط والانغماس فيه . .
أما إذا وجده مباحاً أعطى نفسه حق الفعل والترك ، والتزم بما يرجح لديه من المواقف والقرارات المناسبة .
وأما إذا واجه المكروه أو المستحب ، فهو حر أيضاً ومخير بين الفعل والترك إلاّ أنه وبدافع من حرصه على تحقيق التكامل الايماني والحث التشريعي لا بد وأن يرى أنَّ من الافضل له ترويض النفس وتدريبها على فعل المستحبات وترك المكروهات . .
أشرنا في ما سبق من البحث إلى أن الحكم مرتبط بطبيعة الفعل وآثاره، وقلنا أن الوصف الذاتي للموضوع هو الذي يحدد طبيعة الحكم ـ من الوجوب والحرمة والاباحة . . . الخ ـ وأن الحكم عنوان يكشف عن طبيعة الموضوع .
لذا كان الفعل الواحد لا يحتمل في واقعه إلاّ حكماً واحداً ـ فشرب الخمر مثلاً لا يمكن أن يوصف في واقعه إلاّ بالحرمة ـ ، والجهاد لا يوصف إلاّ بالوجوب . . . الخ- إلاّ أن ظروفاً خارجية كثيرة قد تحيط بالانسان ، وهي ظروف عرضية يفرض وجودها تغير الحكم ، ويستدعي تبدل صفة الفعل .
وقد نظر التشريع الاسلامي إلى هذه الحقيقة نظرة واقعية دقيقة، فأجاز ايقاف العمل بالحكم المقرر أساساً ـ الحكم الواقعي الاولي ـ ايقافاً مؤقتاً إذا حدثت ظروف قاهرة غير اعتيادية تضطر الانسان لمخالفة هذا الحكم أو تغييره ـ لدفع الحرج والمشقة والضرر عن الانسان أو لتحقيق مصالحه الانسانية المعتبرة –
وبهذه المراعاة ـ مراعاة المصالح الانسانية المعتبرة- تبقى التشريعات الاستثنائية ـ الحكم الواقعي الثانوي ـ محافظة على غاية التشريع الاساسية وأهدافه ، والتي هي:
(حفظ المصلحة ودرء الضرر والفساد)
وتمشياً مع هذه القاعدة الاسلامية تتبدل عناوين الكثير من الموضوعات ، فقد ينقلب الواجب والمباح فيصير محرماً ، أو يصير المباح والمحرم واجباً ، فمثلاً:
أباح الاسلام للمكلف فعل المحرم عندما تدعو الضرورة القصوى إلى ذلك، وعندما يتوقف على استعمال المحرم دفع الخطر الفادح ، لحماية النفس أو المال أو العرض . . . إلاّ أن هذه الاباحة تنتهي بانتهاء الاضطرار الداعي لها .
قال تعالى: ( . . .فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم) .
(البقرة/173)
وعلى أساس هذا التصريح القرآني الحكيم . . . صيغت القاعدة الفقهية الواسعة فقيل: (عند الضرورات تباح المحظورات) .
وانطلاقاً من هذه القاعدة أباح الاسلام للجائع الذي أشرف على الهلاك أن يأكل لحم الميتة . . . وأن يأخذ من مال غيره غصباً ـ ان امتنع عن الاستجابة له ـ لدفع خطر الجوع المهلك عن نفسه أو أهله .
وللسبب ذاته أعطى الاسلام المظلوم حق اغتياب الظالم ، والتشهير به ، وكشف عيوبه ، لهدم كيانه ، واضعاف سلطته .
قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظلم وكان الله سميعاً عليما).(النساء/148)
ومثال آخر على تغير الحكم هو: تغيير المباح ، ونقله من مرحلة الاباحة إلى الوجوب أو الحرمة ، حسب الضرورة الطارئة الداعية إلى ذلك التغيير للتعامل بواقعية وموضوعية مع هذا الظرف الشاذ الطارئ، ريثما تعود الامور إلى مجاريها الطبيعية ، فيحتل التشريع الطبيعي مكانه حسبما هو مقرر في أصل التشريع . . فمن الامثلة على المباح الذي يصبح حراماً (هو كل مباح لا تتحقق المصلحة إلاّ بتركه ، أو يترتب الضرر على فعله ـ بسبب طارئ-) .
مثاله: بعض المأكولات المباحة التي يصبح أكلها خطراً على حياة الانسان وصحته؛ كما لو نهى طبيب أحد المرضى عن استعمال نوع معين من الطعام ، ويتأكد للمريض الضرر من الاستعمال ، فإن أكل المريض ذلك الطعام وصار سبباً في الاضرار بصحته ، أو ادى إلى وفاته ، فإنه فعل محرماً ، وأثم على مخالفته هذه .
وكما يحصل هذا التغيير في المباح في المجالات الفردية فإنه يحصل كذلك في المجالات الاجتماعية ، والاقتصادية والسياسية . . . الخ . ومثال هذا التغيير في أحكام الاباحة في المجال الاجتماعي ما حصل في ايران حينما أفتى المجتهد الاكبر ميرزا محمد حسن الشيرازي بحرمة تدخين التبغ الذي كانت تحتكره شركة استعمارية انجليزية ، فأصدر فتواه هذه كحرب اقتصادية ضد المستعمر الغاصب؛ فأصبح تدخين التبغ حراماً بعد أن كان مباحاً ، ومحللاً ، لان مصلحة المسلمين تقتضي هذا التحريم من أجل الحفاظ على حقوق الامة ، وحماية ثروتها من أعدائها الغاصبين؛ لذا كان مفعول هذه الحرمة سارياً وملزماً لكل المسلمين حتى زال سبب الاستثناء والتحريم ، وفعلاً فقد نفذ الايرانيون المسلمون قرار التحريم هذا حتى فشلت الشركة الاحتكارية الاستعمارية فالغت احتكاراتها وعادت سيطرة المسلمين على ثروتهم واموالهم .
وهناك حالات أخرى تتغير فيها عناوين الحكم فيصبح فيها الواجب الكفائي(3) واجباً عينياً(4) لضرورة تقتضي ذلك .
مثال ذلك: لو ارتأت الدولة الاسلامية القائمة على أساس الاسلام ، أن البلاد الاسلامية بحاجة إلى تخصص علمي في فروع معينة من العلوم لحاجة الامة إليها ، ولتوقف المصلحة عليها ، وطلبت من بعض الافراد المؤهلين لهذا التخصص القيام بهذا الواجب . . فان هذا التخصص يصبح واجباً عينياً عند صدور حكم الدولة الشرعية . . بعد أن كان واجباً كفائياً ، فيصير الفرد ملزماً بالتخصص والعمل بصورة شخصية .
وكذلك إذا أسندت الدولة الاسلامية مسؤولية أو وظيفة في الجهاز الحكومي إلى أفراد كفوئين ومؤهلين من أبناء الامة، فان الفرد يكون ملزماً بالاستجابة لقرار الدولة ، وليس له حق الرفض لهذا الواجب إلاّ مع المبرر الشرعي المعقول ، ويصبح ممارسة هذه الوظيفة واجباً عينياً ملزماً بعد أن كان واجباً كفائياً . . وهناك أمثلة كثيرة ومتعددة لهذه التطبيقات لا مجال لذكرها وتعدادها .
وقبل أن نختم البحث يجب أن نذكر: أن التغيير كما لاحظنا هو خروج على الاصل (الحكم الاساسي) ، وهو قضية مؤقتة تدعو اليها الحالات الاضطرارية ، أو المصالح التي يتوقف عليها اقرار وحفظ المجتمع؛ والتي لا يملك الانسان معها إلاّ أن يلجأ إلى البديل، مع ملاحظة أن هذا البديل المؤقت هو أيضاً جاء من حيث الهدف والغاية من أجل تحقيق أهداف الاسلام الكلية ، والتوافق معها والتعبير عنها لتيسير الطاعة ، وتحقيق المصلحة الانسانية ، ودفع المشقة والضرر عن الفرد والجماعة ، بمقتضى علم المشرع وحكمته .
فليس معنى التغيير في عناوين الاحكام ـ بسبب الظرف الطارئ ـ هو التلاعب بروح الشريعة ، أو التحايل على أهدافها ، كما لا يصح أن تتخذ هذه القابلية في الشريعة الاسلامية ستاراً لتغيير الاحكام ، أو التلاعب بها على مقتضى الهوى ، أو الرأي المجرد .
ذلك لأن لهذا التغيير أصولاً وقواعد ، يلزم اتباعها على نحو ما يلزم من الاصول والقواعد المتعلقة باستنباط الاحكام بصفة عامة .
كما أن الحكم اذا تغير للسبب الطارئ المشروع ، فان الحكم الجديد له ما للحكم الاول من حيث المشروعية ، كما أنه يعد تكليفاً شرعياً يخاطب به المكلف ، ويلزم به أو يخير بحسب ورود الخطاب .
فمثلاً اذا كان الصيام واجباً على المكلف بتوفر شروطه ، فإنه محرم على المريض ، فتكون حرمة الصيام عندئذ حرمة شرعية على وجه الالزام والتحتيم ، ويكون صيام المكلف المريض فعلاً محرماً ، وتترتب عليه سائر الاحكام .
ـ أهمّ المحرَّمات في الاسلام
لو حاولنا استعراض المحرمات في الاسلام ، ودرسنا دراسة دقيقة وافية لوجدنا أن سبب تشريعها هو حماية الانسانية من السلوك المنحرف الهدام ، والحفاظ على كيانها من الاخطار والاضرار .
لذلك فانا نجد التحريم في الاسلام يشمل حماية الفكر والنفس والبدن في دائرة الفرد الخاصة، كما يشمل حماية النظام ، والعلاقات الانسانية ، وحياة الجماعة في دائرة المجتمع العامة من أخطار التخريب والانحراف والسقوط .
ففي مجال التفكر مثلاً حرم الاسلام الكفر وسوء الظن بالله ، ووصفه بما لا يصح وصفه به ، كالظلم والتشبيه بالخلق ، والتجسيد ونحوه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
كما حرم الخرافة والشعبذة وتجميد الفكر والتقليد الاعمى وكل ما من شأنه أن يستبعد طاقة العقل أو يكبح نشاطه العلمي وممارساته التحصيلية، من أجل الحفاظ على فهم سليم ، وتفسير واقعي للوجود والحياة . . . ومن أجل توفير فهم نقي للتوحيد وللعلاقة الانسانية بال،له لان هذه العلاقة العقلية هي مصدر السلوك والمواقف البشرية . . . وهي المحرك الدؤوب لها .
وفي المجال النفسي للانسان حرم الاسلام كل ما من شأنه تلويث باطن الانسان ، وقتل ضميره ووجدانه الاخلاقي الذي يحيل حياته إلى شقاء وتعاسة ، ويحوّل سلوكه إلى سلوك حيواني مجرد من الخصائص الانسانية السامية، فحرم الحقد والكراهية واليأس وسوء الظن . . . الخ ليرتفع بالنفس الانسانية إلى مستوى راق من الطهارة والكمال ، ويحميها ويطهرها من الرواسب المرضية والالتواءات الوجدانية الخطرة على ذات الانسان وتصرفاته .
وكما حرم الاسلام كل الاسباب والنشاطات التي تحرف الفكر ، أو تلوث النفس البشرية ، حرم كذلك كل النشاطات والممارسات والاعمال التي تضر بصحة الجسم وتهدم قواه . . . فحرم شرب الخمر ، وممارسة الزنا ، وأكل لحم الكلب والخنزير ، وكثير من الحيوانات الضار أكلها بصحة الانسان ، وحرم أكل المنخنقة والمتردية والميتة ، والدم . . الخ ليحفظ صحة الانسان وجسمه من الامراض والضعف وانهيار القوى البدنية البناءة .
وكما أن الاسلام اهتم بتحصين حياة الفرد وكيانه الشخصي من المحرمات . . توجه كذلك لحماية المجتمع من الجريمة والممارسات الضارة في مجال الاجتماع ، والسياسة ، والاقتصاد والقضاء ، والتعليم . . الخ .
فحرم الظلم والربا والاحتكار والغش والسرقة والكذب والغيبة وشهادة الزور والسب والرشوة وقتل النفس والقمار وتعليم المعارف والمفاهيم الهدامة وبثها ، . . . كالافكار والصور والافلام والثقافات التي تقود إلى التحلل والانهيار الاخلاقي والفكري . . الخ .
وهكذا ضمن الاسلام حماية المجتمع والفرد بتشخيصه المحرمات وتوضيحه لها .
وقد أورد الفقهاء عدداً من المحرمات في كتب الفقه وأطلقوا عليها اسم الكبائر وهي أهم ما يهدد كيان الفرد والمجتمع ، ويلوث النفس ومحيط الحياة . .
ونحن حين نلقي نظرة فاحصة عليها ، أو نتأمل بها تأملات تحليلية في ضوء التجربة الاجتماعية والابحاث العلمية والتفكير العقلي السليم ندرك مدى خطورتها وضررها على حياة الفرد واستقرار المجتمع . . ونستنتج مدى حكمة الاسلام واهتمامه بحماية المصالح الانسانية وصيانتها .
ومن المفيد جداً أن نورد أهم هذه المحرمات التي نهى الاسلام عنها وحذر منها وتوعد بالعقاب كل من تسول له نفسه بمقارفتها ، وتعريض نظام الحياة واستقرار المجتمع للخطر من جرائها .
وهذه المحرمات هي: ـ
1 ـ الشرك بالله ، 2 ـ اليأس من رحمة الله ، 3 ـ الامن من عقاب الله ، 4 ـ عقوق الوالدين ، 5 ـ قتل النفس المحرمة ، 6 ـ اتهام المرأة المتزوجة بالخيانة بهتاناً ، 7 ـ أكل مال اليتيم ظلماً ، 8 ـ الفرار من ساحات الجهاد ، 9 ـ أكل الربا ، 10 ـ الزنا ، 11 ـ اللواط ، 12 ـ السحر ، 13 ـ اليمين الكاذبة ، 14 ـ شهادة الزور (الشهادة الكاذبة) ، 15 ـ كتمان الشهادة (عدم أداء الشهادة من أجل الحق ودفع الباطل بالنسبة لمن اطلع على الحقيقة وتوفر له اليقين بها) ، 16 ـ شرب الخمر ، 17 ـ نقض العهد ، 18 ـ مقاطعة الارحام ، 19 ـ الهجرة من الديار الاسلامية إلى البلاد التي يخشى بها على دين المسلم وعقيدته ، 20 ـ الكذب على الله ورسوله والائمة وعامة الناس ، 21 ـ السرقة ، 22 ـ أكل الميتة ، 23 ـ شرب الدم ، 24 ـ أكل لحم الخنزير ، 25 ـ وما ذبح من الحيوانات المحللة على غير طريقة المسلمين ، 26 ـ وأكل السحت ، . . . كثمن الخمر ، وأجرة الزانية ، أو الراقصة ، أو الرشوة ، والرواتب التي يأخذها الموظف من الحكومة الظالمة وهو يشاركها في اقرار الظلم ، ويتعاون معها لتنفيذ سياستها ، 27 ـ الاسراف ، 28 ـ نقص الوزن والمقاييس ، 29 ـ معونة الظالمين ، 30 ـ محاربة المؤمنين ودعاة الاسلام ، 31 ـ الكبرياء ، 32 ـ التبذير ، 33 ـ الاشتغال بالملاهي كالرقص وضرب العود والاوتار . . ، 34ـ الغيبة ، 35 ـ البهتان ، 36 ـ سب المؤمن واهانته واذلاله ، 37ـ النميمة ، 38 ـ القيادة (وهي السعي بين اثنين لجمعهما على الزنا أو اللواط) ، 39 ـ الغش ، 40 ـ الرياء ، 41 ـ النفاق ، 42 – ومن المحرمات أيضاً استهانة الانسان بذنوبه ومخالفاته ، وعدم الاكتراث بما يفعل . . . الخ .
وهناك محرمات كثيرة تشترك مع هذه المحرمات بعامل مشترك واحد هو الضرر والفساد ، وتخريب نظام الحياة؛ لا يتسع البحث لذكرها وتعدادها .
ونحن لو تأملنا في هذه المحرمات لوجدنا أنها الوباء والخطر الاكبر الذي يهدد حياة الفرد والمجتمع ، وأن ليس بوسع الانسانية أن تحمي نفسها ، وتحفظ وجودها إلاّ بالابتعاد عن هذه المحرمات ، والامتناع عن ممارستها .
وان من يتأمل هذه القائمة من المحرمات ، ويحاول استكشاف الحكمة الاسلامية الكامنة وراء هذا التحريم ، يدرك عظمة التشريع الاسلامي، وقدرته على بناء الفرد والمجتمع القوي المتحضر من خلال هذه الصيانة والوقاية التشريعية والاخلاقية المحكمة .
وقد توصلت الدراسات والابحاث الطبية والاجتماعية والنفسية في الآونة الاخيرة إلى الكشف عن الاخطار الجسمية والنفسية والاجتماعية التي تسببها مثل هذه المحرمات . وأصبحت معاهد الاحصاء والدراسات المختصة تقدم لنا أرقاماً مذهلة عن الجرائم والامراض والحالات والظواهر الشاذة في المجتمعات البشرية التي أسقطت من حسابها مفهوم الحلال والحرام؛ مما يؤكد ضرورة العمل على انقاذ البشرية ، وانتشالها من ورطة الوقوع في هذه الممارسات المحرمة التي أصبحت تهدد كيان الانسانية وسلامتها؛ بعد أن تحللت من قيم الايمان ، واستسلمت للتفكير البهيمي المتردي . . بالعودة إلي منهج الله تعالى وشريعته السمحاء ، والتمسك بالاحكام التي ما أوحى الله تعالى بها إلاّ لطفاً ورحمة وكرماً وشفاء لما في الصدور .
8 ـ الاجتهاد
بعد أن عرفنا ـ فيما سبق من البحث ـ معنى الحكم والمقصود الاصطلاحي منه ، وهو (التشريع الالـهي المنظم لحياة الانسان وعلاقاته المختلفة) . . . كما بينا أقسام الحكم التكليفي بشيء من الايجاز، نعود فنعرّف الاجتهاد ونشرحه ـ باختصار واضح ـ نظراً للعلاقة الوثيقة والرابطة العضوية بينهما .
الاجتهاد
هو(عملية علمية يمارسها الفقيه لاستنباط الاحكام الشرعية الفرعية الخاصة بتنظيم الحياة الانسانية) .
أو هو: (عملية اكتشاف الاحكام الاسلامية واستخراجها من مصادرها الاساسية) كأحكام العبادات والتملك والعمل والمال والقضاء والسياسة وشؤون الاسرة . . . الخ .
ولهذه العملية العلمية (الاجتهاد) دور حضاري ومدني متقدم وخطير في حياة الفرد والمجتمع والدولة ، اذ يساهم الاجتهاد في تنمية الحياة المدنية والحضارية ، وفتح الآفاق القانونية والتشريعية أمامها ، لهدم سدود الحجر والجمود والتوقف ، ولولا عملية الاجتهاد هذه لتعذر تنامي النشاطات الانسانية في اطار الحياة الاسلامية؛ فالحياة الانسانية تنمو وتتحرك وتتطور ، والعلاقات الانسانية تزداد وتتعقد ، والاحداث والوقائع الانسانية تولد وتستجد ، وكل هذه المستجدات والمستحدثات ـ كالبنوك والشركات وعلاقات العمل والادارة والمصنوعات والمكتشفات . . . الخ ـ من قضايا الحضارة والمدنية بحاجة إلى تنظيم قانوني ، وبيان شرعي ، يبين تكليف الانسان المسلم وينظم علاقاته ، ويحدد موقفه ووظيفته الشرعية .
وعملية الاجتهاد هذه هي المسؤولة عن تلبية كل هذه المطالب وتوفير الاجابة عن كل سؤال يطرأ في هذا المجال ، ولولا عملية الاجتهاد لوجد المسلم الملتزم نفسه أمام موقفين لا ثالث لهما:
الموقف الاول: هو التحجر والجمود واعتزال كل جديد ومتطور في الحياة ، لعدم معرفته بتكليفه الشرعي ، وعدم وضوح الحكم الشرعي الخاص بالقضايا المستجدة في حياة الانسان .
والموقف الثاني: هو التحلل من الالتزام الشرعي والذوبان في كيان الحضارة والمبادئ غير الاسلامية ، وأخذ القوانين والمفاهيم وتحديد المواقف والسلوك بالاعتماد على المناهج والنظريات والمبادئ التشريعية والحضارية غير الاسلامية ، وفي كلتا الحالتين يكون الموقف ضرباً لاهداف الاسلام ، وايقافاً لامتداد الشريعة الالـهية الخالدة ، ومخالفة لروحها الحية المعطاء .
ويرتبط بهذين الموقفين موقف حضاري ودولي خطير وهو تعجيز الاسلام عن مسايرة الحياة، وقطع الطريق أمام قيام كيان دولي وحضاري متطور للامة الاسلامية ، وغياب اللطف الالـهي عن دنيا الانسان ، وتركه للفوضى والتخبط الحضاري .
وكل ذلك مخالف لاهداف الاسلام ، ومتعارض مع روح الشريعة وقيم الرسالة الاسلامية الخالدة كما يشهد القرآن الحكيم ، والسنة المطهرة بذلك .
قال الله تعالى:
( . .ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) .(النحل/89)
وجاء في الحديث الشريف: ((ان الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء ، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج اليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن ، إلاّ وقد أنزله الله فيه))(5) .
((ان القرآن حي لم يمت ، وأنه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا))(6).
وبالتأمل في هذه النصوص الاسلامية الخالدة نعرف أن القرآن وهو منبع الاسلام ومصدر شريعته ، ووعاء أحكامه وقوانينه وقيمه ومفاهيمه ، خالد خلود الليل والنهار ومصباح يرسل أشعة الهدى على كوكب هذه الارض ما شعت الشمس والقمر .
ولكن ليس بوسع كل واحد منا ولا باستطاعة كل فرد أن يدرك الحياة بكاملها من خلال القرآن ، ولا أن يستنبط قوانين الحياة وشريعة الاسلام من كنوز الكتاب ((آيات القرآن خزائن ، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر فيها))(7) .
فهذا الغنى التشريعي ، وهذه الثروة الفكرية الضخمة التي استوعبتها آيات القرآن تحتاج إلى جهد علمي ، وبيان فكري ، قادر على الاغتراف من ينبوع هذا الكتاب ، وسحب الحاجة الآنية من أكداس هذه الخزائن .
وشيء طبيعي ، أن ادراك العمق القرآني والمدلول التشريعي للقرآن ليس واضحاً ، ولا محدداً في كل موقع وقضية ، وليس بوسع المجتهد (الفقيه) أن يقوم بهذه المهمة في المرحلة الاولى . انما هي مهمة مبلغ الوحي (الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)) المستوعب لروح الكتاب ، والعارف بتأويله ومداليله ، وكيفية صياغة روحه ومحتواه تشريعاً قانونياً وحكماً عملياً في الحياة بارشاد الـهي ، وتلق واضح عن طريق الوحي .
من هنا يتحدد دور السنة النبوية تجاه القرآن وهو الكشف عن محتوى القرآن وصياغته قانوناً وحكماً واضحاً في حياة الانسان في كل مجال لم يتحدد فيه هذا الحكم والوضوح ، وبذا تكون العلاقة بينهما ـ الكتاب والسنة ـ تشبه إلى حد كبير العلاقة بين الدستور والقانون .
فالدستور يبين الاصل الاساسي للتشريع والتقنين فينص مثلاً (على حرية التملك واحترام الملكية) ثم يوكل الامر إلى القانون والمشرع القانوني الذي يحدد التفصيلات القانونية ، فيقوم المشرع بوضع القوانين اللازمة لتنفيذ هذه المادة الدستورية ، وبيان تفصيلاتها .
وهكذا السنة المطهرة فإن مهمتها ترجمة محتوى القرآن وصياغته قانوناً عملياً للحياة .
وثمة ايضاح يرتبط بهذا المثل ـ لا بد من ذكره هنا ـ هو أن السنة ليست اجتهاداً نبوياً لصياغة الروح القرآني والتعبير عن محتواه تعبيراً قانونياً كما هي الحال في العلاقة بين الدستور والقانون .
بل السنة هي وحي وتعليم الـهي في معناها ومضمونها ، أما لفظها واطارها اللغوي فإنه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه .
نضرب لذلك مثلاً: نص القرآن الحكيم على وجوب أداء الزكاة ، ولكن لم يحدد مقاديرها ولا كل الاعيان (الاشياء) التي تجب فيها ، بل السنة النبوية هي التي تعهدت بذلك وأوضحته وفصلته ، وجاء هذا الايضاح والتفصيل بلفظ الرسول الكريم وعبارته البشرية المألوفة.
ولكي يستمر هذا الدور المعطاء للسنة ، شاء الله أن يكون لها أئمة هداة يشكلون الامتداد الطبيعي لها ويمثلون الطرف الواعي والمستوعب لروح القرآن ومضمونه عن طريق الاعداد النبوي والتوجيه الرسالي الخاص، ليستمر تيار السنة حياً متدفقاً يغني الحياة ويقود مسيرتها على هدى القرآن وضوء رسالته ، فكان الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان الهداة من هذه الشجرة المباركة ، ثم كان من بعدهم فقهاء ومجتهدون يقومون بمهمة الاستنباط واستخراج الاحكام والقوانين والكشف عنها من مصادرها ، لذا كان الاستمرار على فتح باب الاجتهاد ضرورياً لمد آفاق الشريعة ، واغناء المجتمع الانساني بالافكار والقوانين اللازمة لتنظيم الحياة المتطورة .
ولذلك أيضاً كان الاجتهاد واجباً كفائياً على المسلمين ؛ أي لا بد من وجود مجتهد في كل فترة زمنية على أقل تقدير ، يرجع إليه المسلمون ، ويعول عليه في فهم الشريعة ، واستنباط أحكامها .
اذن فللاسلام مصدران أساسيان هما:
أ ـ الكتاب .
ب ـ السنة .
هذا وقد عد أصحاب المذاهب الفقهية والاجتهادية ـ فيما بعد ـ مصادر أخرى احتلت موقعها ـ بعد الكتاب والسنة ـ في مناهج الفقهاء والمجتهدين ، والحق أن الشريعة الاسلامية ليست ملزمة بقبول هذه المصادر (المصادر التي اجتهد المجتهدون في الاعتماد عليها غير الكتاب والسنة) إلاّ بقدر ما تثبت للتحقيق العلمي الملتزم بروح الكتاب والسنة ، وبامكان الفقيه والمجتهد في كل زمان أن يلغي منها ما يراه متعارضاً مع الكتاب والسنة؛ فليس لها موقع الشرعية ، ولا دور المصدر الموازي للكتاب والسنة إلاّ بقدر ما تصمد أمام التحقيق العلمي ، والتمحيص الاصيل في ضوء الكتاب والسنة .
كيف يمارس الفقيه عملية الاستنباط
يجهل كثير من المسلمين معنى عملية الاجتهاد ، بل ويتصور البعض منهم أن عملية الاجتهاد هي عملية مرتبطة بطبقة معينة من رجال الدين بسبب منصبهم الديني ، كما هي الحال بالنسبة إلى منصب البابا في الكنيسة ، وأن الاحكام الفقهية والفتاوى هي رؤية شخصية للفقيه ، فهو الذي يقدر ويقرر الاحكام بناء على تقديرات شخصية أو اجتهادات ذاتية ، أو تبرير لاحداث ووقائع واستجابة لاعتبارات معينة بشكل اعتباطي .
ان هذا الفهم لا شك يمثل الجهل بالشريعة الاسلامية وبالفقه والاجتهاد الاسلامي .
فالفقه والاجتهاد في الاسلام ليس كذلك ، ولا علاقة لاي عنصر أو عامل شخصي فيه .
كما أنه لا يمكن أن يكون عملية تبرير للواقع على أساس رؤية شخصية ، أو مسايرة للاحداث ، أو مجرد استجابات عفوية وكيف ما اتفق .
بل الاجتهاد: هو عبارة عن عملية علمية بحتة ـ وكما ورد في التعريف – له مصادره وأدلته وأصوله ومناهجه وضوابطه ، تماماً كما هي الحال بالنسبة لكافة العلوم والمعارف الانسانية ، كعلم المنطق والفيزياء والرياضيات … الخ .
فكما أن عالم المنطق والفيزياء والنحو والرياضيات لا يستطيع أن يضع قوانين من عنده ، بصورة ارتجالية اعتباطية ، فكذلك الفقيه فإنه لا يستطيع أن يضع ويشرع قوانين كيفية ، فان طبيعة الشريعة وبنيتها القانونية والفكرية لا تسمح بمثل هذه العملية، بل هي تقوم ـ وبأكملها ـ رداً على المتلاعب والمفتري .
ذلك لان أي استنباط فقهي انما هو مقيد بأدلته وأصوله وقواعده وضوابطه ، وأن أية محاولة للخروج على هذه القواعد والمناهج والمقررات العلمية يشكل اتباعاً للهوى وخروجاً على روح الشريعة ومبادئها .
يتبع ..
بقي علينا أن نجيب على سؤال مهم وخطير ، وهو اذا كانت الشريعة واحدة وقوانينها واحدة فلماذا يختلف الفقهاء وتتعدد آراؤهم في قضية واحدة؟ أو بعبارة أدق: لماذا تتعدد أحكام الفقهاء الخاصة بموضوع واحد؟ .
وللاجابة على هذا السؤال لا بد من التفريق بين حالتين: حالة يكون فيها الاختلاف قائماً على أسس منهجية سليمة وممارسة علمية مشروعة .
وحالة أخرى ينتج فيها الاختلاف عن الاجتهاد الكيفي المرتجل الذي لا يقوم على أساس سليم ، ولا ينبع من أصول علمية مستقيمة مع روح الشريعة ومصادرها ، فالاختلاف الاول نتيجة طبيعية لنشاط علمي سليم ، والفقهاء معذورون غير مؤاخذين ، أما الاختلاف الثاني فليس اجتهاداً ، ولا فقهاً ، بل هو عمل اعتباطي مقحم على روح الشريعة ومبادئها .
فعلم الفقه ـ كما بينا ـ كغيره من العلوم والمعارف الانسانية في هذا الجانب ، فكما أن لكل علم من العلوم قوانينه وقواعده الواقعية والطبيعية الخاصة به ، فكذلك الشريعة الاسلامية لها أحكامها وقوانينها .
وكما أن عالم الفيزياء ـ في مثالنا ـ يبذل جهده العلمي لاكتشاف قوانين الفيزياء حسب واقعها الطبيعي ، وعالم المنطق يبذل جهده لاكتشاف قوانين التفكير وفق واقعها العقلي ، وليس بامكان أحدهما أن يخلق من عند نفسه قوانين خاصة للمنطق والفيزياء ، فكذلك الفقيه (المجتهد) ليس بامكانه من الناحية العلمية الشرعية أن يوجد قوانين وأحكاماً ايجاداً اعتباطياً ، ثم يسبغ عليها صفة الشرعية والعلمية .
وكذلك أيضاً؛ فكما أن عالم الفيزياء والمنطق يخطئ أحياناً عند اكتشاف القوانين والقواعد العلمية ، وأن هذا الاكتشاف الخاطئ لا يمثل القانون الطبيعي للفيزياء والمنطق ، بل يمثل فهم العالم المكتشف الذي أخطأ في تشخيص القانون ، فكذلك الحال بالنسبة للفقيه عندما يمارس عملية استخراج الاحكام والقوانين الاسلامية من مصادرها الاصلية ـ الكتاب والسنة ـ فإنه قد يخطئ أحياناً في عملية الاكتشاف والاستنباط هذه ، ولكن خطأه هذا ليس خطأ عشوائياً ، أو ارتجالياً كيفياً ، بل لقصور في أدواته العلمية ، أو امكاناته الذاتية ، فيقصر به الاستعداد العلمي عن تشخيص القانون والحكم الشرعي كما هو قائم بذاته في عالم القانون والشريعة الالـهية .
ولذا كان الفقيه معذوراً عند الخطأ والقصور عن اكتشاف الحكم الصحيح متى كان هذا الفقيه مستوفياً الشروط ومستنفداً وسعه في عملية الاستنباط .
أسباب الاختلاف
أما أسباب الاختلاف: بين المجتهدين سواء كان من مجتهدي المذاهب الاسلامية المختلفة ـ كالحنفي والشافعي والجعفري والمالكي ـ الخ ، أو مجتهدي المذهب الواحد ، فيعود بشكل أساسي إلى:
1 ـ الاختلاف اللغوي حول النص من القرآن والسنة ـ في بعض مواردهما ـ لاختلاف في الاعراب ، أو في المعنى أو في القراءة ، مما يقود إلى الاختلاف في الفهم واستنباط الاحكام ، كاختلافهم في اعراب آية الوضوء في قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين وان كنتم جنباً فاطهروا . . .) .(المائدة/6)
فالذي اعتبر (ارجلكم) معطوفة على (وجوهكم) أوجب غسلها ، والذي اعتبرها معطوفة على (برؤوسكم) أوجب مسحها .
وكاختلافهم في فهم معنى (القُرْء) في قوله تعالى:
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . . .) .(البقرة/228)
فقد اختلف الفقهاء في المعنى اللغوي لكلمة (قُرْء) فبعضهم فسر القرء بأنه الطهر ، وبعضهم فهمه وفسره على أنه الحيض ، وكل واحد من أصحاب هذين الرأيين يعتمد على فهم وتأويل لغوي . لان لفظ القرء يطلق في لغة العرب على كل من الحيض والطهر .
وبناء على هذا الاختلاف اللغوي اختلف المجتهدون في مدة عدة المطلقة هل هي ثلاثة أطهار ـ بعد الطلاق ـ ، أو ثلاثة أشهر كاملات لان المقصود بالقرء: الحيض .
والحيض هنا اسم رمزي لشهر المرأة ، باعتباره عادة شهرية تحدث لها في كل شهر مرة .
وكاختلافهم في قراءة قوله تعالى (حتى يطهرن) في الاية الكريمة (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فاذا تَطَهَّرنَ فأتوهن من حيث أمركم الله ، ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) .(البقرة/222)
فالذي قرأ (يطهرن) مشددة لم يجز جماع المرأة بعد انتهاء مدة الحيض إلاّ بعد التطهر (الغسل) ، والذي قرأها مخففة اجاز جماعها لمجرد حصول الطهر وهو انقطاع الدم .
أو كاختلافهم في أمر يفيد الوجوب أو الاستحباب ، أو أن النهي يدل على الحرمة أو الكراهة ، أو أن هذا اللفظ يفيد الحقيقة أو المجاز ، أو كاختلافهم في العلاقة بين النصوص كالاطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص . . . الخ .
2 ـ الاختلاف حول المقصود (من الكتاب والسنة) ، فقد يختلف المجتهدون في فهمهم لدلالة النص وقصده كاختلافهم في فهم قوله تعالى: (الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان . .).(البقرة/229)
(فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) .(البقرة/230)
فقد سبب الاختلاف في فهم قوله تعالى (الطلاق مرتان) نشوء آراء وأحكام فقهية بعضها يقرر تحريم الزوجة على زوجها اذا طلقها بقوله ثلاث مرات (أنت طالق) ، بناء على فهمه للآية (الطلاق مرتان) ، وفي الثالثة تكون قد بانت بينونة كبرى فلا يصح له الزواج منها حتى تعتد وتتزوج زوجاً غيره ، فان طلقها الاخير فلزوجها الاول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها .
في حين فهم فريق آخر من قوله تعالى (الطلاق مرتان) أنه لا بد من تحقيق الطلاق فعلاً ـ وليس لفظاً ـ لكي تحرم الزوجة على زوجها ، فالقرآن لم يقصد تكرار اللفظ بل قصد وقوع الطلاق المسموح بعده مراجعة الزوجة ـ وقوعاً فعلياً ـ (مرتان) فان وقع الطلاق الثالث فلا يحل له الرجوع اليها .
وتوضيح ذلك: إذا طلق الزوج زوجته فله أن يرجع بها ، فاذا رجع بها وطلقها ثانية فله أن يرجع بها ، فاذا رجع بها ثم طلقها مرة ثالثة فليس له حق الرجوع وتحرم عليه ، إلاّ إذا انقضت عدتها وتزوجت غيره ثم طلقها هذا أو مات عنها وانتهت عدة الطلاق أو الوفاة ، فللزوج الاول أن يتزوجها .
3 ـ الاختلاف في أن هذا الحكم قد نسخ أو لم ينسخ ، كاختلافهم حول حكم زواج المتعة (الزواج المؤقت) مثلاً .
4 ـ الاختلاف بسبب قبول بعض الروايات والاحاديث أو عدم قبولها ، فبعض الفقهاء تحصل لديه ـ بسبب من تحقيقه العلمي ـ عدم ثقة بالراوي وناقل الحديث ، فلا يصدق حديثه أو يرفض الحديث والرواية بسبب عدم اطمئنانه إلى المعاني والالفاظ الواردة فيه ، أو يراه متعارضاً مع مفهوم قرآني ، أو سنة ثابتة لديه ، فيرفضه ولا يقبله ، في حين يقبله مجتهد آخر ، وتتشكل لديه قناعة بسلامة الحديث والرواية فيعتمدها في الاستنباط والاستنتاج .
5 ـ الاختلاف في اعتبار حجية بعض المصادر وعدم حجيتها ، وكيفية الاستفادة منها ، كالقياس ، والاستحسان ، وأدلة العقل ، والمصالح المرسلة ، والاجماع . . .الخ .
فبعض المجتهدين يعتمد بعض هذه المصادر ويرجع اليها لتحصيل الاحكام ، وبعضهم يرفضها ، أو يرفض كيفية الاستفادة منها بالطريقة التي عمل بها مجتهد آخر . .
وهكذا نقف على أهم أسباب الخلاف بين مجتهدي المذاهب الاسلامية ، وأصحاب الرأي فيها ، لذلك كان من الضروري اخضاع الآراء الاجتهادية الخلافية بين المسلمين إلى النقد والتمحيص العلمي على أسس شرعية وموضوعية نزيهة ، وبعيدة عن التعصب والاغراض الشخصية ، لتحصيل الحكم الشرعي المبرئ لذمة المكلف من جهة ، ولتحقيق غرض الشريعة الاسلامية في الاصلاح وتوحيد الامة من جهة أخرى .
ضوابط موضوعية
وفي ختام هذا البحث لا بد لنا من أن ندوّن المبادئ الاساسية التي تسلك كضوابط موضوعية لعملية الاجتهاد وهي:
1 ـ أن الكتاب والسنة هما المصدر الاساس والمرجع في اصدار الاحكام وتقويمها .
2 ـ لا اجتهاد مع النص ، ففي كل قضية يرد فيها حكم شرعي في كتاب أو سنة ، ليس من حق أحد أن يجتهد مقابل هذا النص أو يرد عليه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) .(الحشر/7)
3 ـ ليس للموضوع الواحد في نفس الظروف والشروط إلاّ حكم واحد يمثل الرأي الشرعي السليم .
ومن هنا كان لا بد من التفريق في عملية الاجتهاد بين الهدف والنتيجة ، فالهدف تحصيل الحكم الواقعي والكشف عنه ، وهو حكم واحد للموضوع الواحد ، أما النتيجة فقد يستخرج الفقهاء أكثر من حكم واحد لموضوع واحد .
وهذا لا يعني صحة كل الآراء ، ولا السماح بالخلاف في الحكم ، لذلك توقفت صحة الاستنباط على سلامة المنهج الاجتهادي ، ومصادره التي يعتمد عليها ، فليس بوسع كل منهج ومصدر أن يوصل إلى الحكم الصحيح .
4 ـ الاحكام التي يستنبطها الفقيه هي أحكام ظنية وليست قطعية ، لذلك فهي خاضعة للنقاش العلمي ، والتمحيص الشرعي الدقيق .
5 ـ وبناء على ما تقدم في النقطة السابقة فعلينا أن نفهم أن منهج البحث الاجتهادي هو منهج نقدي يخضع فيه الرأي المستنبط للنقد والتحليل والتقويم العلمي النزيه ، بحثاً عن تحصيل الحكم بأسلم طريقة ممكنة ، وليس هناك اجتهاد لا يقبل النقد والمناقشة .
6 ـ لا بد من النزاهة والموضوعية والتحرر من كل عصبية ونزعة ، أو موروثات سلبية ، أو عوامل ذاتية ، أو خارجية؛ كالعوامل السياسية والمذهبية لتبني الرأي سلفاً ، والدفاع عنه من غير أن يخضع هذا الرأي للنقد والحوار العلمي النزيه ، فالاجتهاد عملية علمية بحتة ، تقوم على أساس البحث والتحري العلمي النزيه .
من هو الفقيه
وكما أنه ليس بوسع كل واحد منا أن يكتشف قوانين الفيزياء والمنطق ـ مثلاً ما لم يكن ملماً بها ـ كذلك ليس بوسع كل واحد منا أن يمارس عملية الاجتهاد واستخراج الاحكام والقوانين الاسلامية .
إذ لا بد للشخص لكي يكون فقيهاً ، قادراً على استنباط الاحكام الشرعية الفرعية من مصادرها الاصلية ـ القرآن الكريم والسنة المطهرة أو غيرهما من المصادر المعتبرة ـ أن يكون محيطاً باللغة العربية احاطة تمكنه من فهم الكتاب والسنة فهماً لغوياً وعرفياً منسجماً مع عصر الوحي والرسالة .
كما عليه أن يكون محيطاً بالقرآن الكريم وعلومه احاطة تمكنه من فهم واستنباط الاحكام والقوانين الشرعية .
وعليه أن يحيط بالسنة المطهرة احاطة تمكنه من معرفة الصحيح المقبول منها ، والمدسوس الغريب عليها عن طريق دراسة الحديث ورجاله ورواته ، اضافة إلى فهم السنة وظروفها والقدرة على اكتشاف الاحكام منها ، أو من خلال الربط بين القرآن وبينها .
كما أنه من مستلزمات تكوين وانضاج شخصية الفقيه ، أن يطلع على ما استحدث العلماء من دراسات وعلوم تساهم في عملية الاستنباط وتساعد على تنظيم التفكير الفقهي وتعميق المنهج الاجتهادي واخصابه كعلم أصول الفقه ، وعلم الكلام ، والمنطق والفلسفة والفقه … الخ .
وفقهاء الشريعة اليوم الذين نعتمد عليهم في استنباط الاحكام واستخراجها هم ـ كما كان سلفهم الصالح ـ نموذج أرقى في العلم والاستيعاب والقدرة على الاجتهاد والاغناء الفقهي .
وثمة صفات أخرى يحتاجها الفقيه والمجتهد؛ وهي الامانة والنزاهة والموضوعية؛ لانه باحث عن الحقيقة ، ومسؤول أمام الله سبحانه عن اجتهاده واستنباطه .
كما لا بد للفقيه من أن يتمتع بالذكاء وبالذوق الادبي والعرفي الرفيع ، وبالفهم الدقيق والقدرة على الربط والاستنتاج ليستطيع أن يمارس عمله بنجاح ودقة .
من هنا كان للاجتهاد علماؤه وخبراؤه المتخصصون الذين يبذلون كل وسعهم وطاقتهم العلمية وامكاناتهم الذاتية المخلصة من أجل توفير ملكة الاجتهاد والقدرة على اكتشاف الاحكام .
التقليد
من خلال البحث وعبر موضوعات الكتاب صار واضحاً لدينا ، أن كل عمل يعمله الانسان ، أو موقف يقفه ، أو أي شي يتعامل معه ، لا بد وأن يكون وفق حكم شرعي ، وتنظيم قانوني نابع من الشريعة .
من هنا كان واجباً على كل مسلم مكلف أن يعرف الاحكام والقوانين الاسلامية التي تنظم نشاطه وفعالياته ، من عبادات ومعاملات . . . الخ .
ولما كانت هذه المعرفة تحتاج في أكثر الحالات إلى القدرة الاجتهادية لاستخراجها ، لذا كان من واجب المسلم عندئذ أن يكون مجتهداً ، أو يعتمد على مجتهد مؤهل للافتاء ، والاخذ عنه ، فيأخذ منه الاحكام الشرعية ليعمل بها ، فيؤدي واجباته ، وينظم نشاطه وعلاقاته المختلفة اعتماداً عليها ، وهذا الاعتماد على فتوى المجتهد نسميه تقليداً .
فالتقليد هو: (الاعتماد على فتوى المجتهد للعمل والتطبيق) .
واذن: فالتقليد علاقة علمية بين المجتهد والعاملين بفتاواه (آرائه الاجتهادية) ، وهو ضرورة لا بد منها لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد ، لان العمل بالاسلام وأداء الواجبات والالتزامات الشرعية جميعها يتوقف على العلم باحكام الشريعة والتعرف عليها ، ولما كانت هذه العملية تحتاج إلى خبير بالفقه والشريعة (المجتهد) صار ضرورياً عليه في مقام العمل وأخذ الاحكام منه ، تماماً كما نعتمد على الطبيب والصيدلي والخبير في العلوم الاخرى عندما تدعونا الحاجة إلى طلب المشورة العلمية وبيان ما يجب عمله أو تركه .
واذن يجب على كل ملكف ـ ليس بمجتهد ولا عامل بالاحتياط(8) ـ أن يكون مقلداً لمجتهد تتوفر فيه الكفاءة الشرعية للافتاء؛ ليتمكن ذلك المكلف من العمل والتطبيق وفق ارادة خالقه وهاديه الرحمن الرحيم ، وهو اللطيف الخبير .
1ـ الراغب الاصفهاني ـ معجم مفردات ألفاظ القرآن .
2ـ الكليني ـ الاصول من الكافي- ج1/ ص 59/ ط سنة 1388 هـ .
3ـ الواجب الكفائي: هو الواجب الذي إذا قام به بعض المسلمين بحيث تسد الحاجة سقط عن الباقين ، كمهنة الطب والقضاء والزراعة ، وكالامر بالمعروف ، وكتغسيل الميت والصلاة عليه . . .الخ .
4ـ هو الواجب الذي يجب على كل مكلف بنفسه ولا يمكن لغيره أن يؤديه عنه كالصلاة والصوم . . . الخ .
5ـ الكليني ـ الاصول من الكافي ـ ج1/ ص59/ ط 1388 هـ .
6ـ السيد أبو القاسم الخوئي (تفسير البيان) ص 23 ، ط 1394 هـ- 1974 م .
7ـ المصدر نفسه ص 30 .
8ـ الاحتياط: ان يأتي المكلف بشي يحتمل فيه الامر والوجوب ولا يحتمل تحريمه على الاطلاق ، وأن يترك كل شي يحتمل فيه النهي والتحريم ولا يحتمل فيه الوجوب بحال .
26
أنتهى
إن شاء الله يفيدج ..
م/ن